كانت الأشجار الكثيفة تحيط بالمكان من كل الجهات، ما عدا هذه البقعة التي بدت وكأن شخصًا ما قد نظفها عمدًا، إذ كانت فارغة تمامًا. وما كان يميزها هو أن كروم النباتات المتشابكة كانت تُحيط بالمكان كجدار عازلة هذه الساحة عن بقية الغابة.
كان سيدريك يهمّ بترك يد إستيل ليفتش المنطقة بعناية، لكنه أطلق نظرة مذهولة حين شعر بقوة تشد على يده كما لو كانت تمسك بطوق نجاة.
“ما هذا؟ قبل قليل ارتعبتِ لمجرد أني أمسكتُ يدك والآن لا تريدين تركها؟“
“بما أننا بدأنا الإمساك بها فلنكمل للنهاية أرجوك!”
المرأة التي كانت قبل لحظات تقول: “أمسك شعري ولا تمسك يدي“، أصبحت الآن تصرّ على ألا يتركها. بدأ يَرتبك لمعرفة ما هو شعورها الحقيقي. نظر إليها بتمعّن فرأى جسدها الصغير ينكمش خوفًا.
‘صحيح… قالت كلامًا غريبًا أمامي ولم أعره اهتمامًا… لكنها جبانة فعلًا على ما يبدو.’
نقر جبهتها بخفة وهو يهمس بسخرية:
“تبدين خائفة أكثر من اللازم.”
“بالنسبة لشخص قوي بشكل غبي مثلك من الطبيعي ألا يخاف، لكن أنا؟ من الطبيعي أن أكون جبانة! هذا مفيد للبقاء حيّة!”
كان سيدريك لا يزال يمسك يدها بينما يراقب المكان، لكنه التفت فجأة. نظر إلى إستيل بعينين هادئتين لكن ذلك الهدوء نفسه كان مخيفًا، ثم سألها:
“قوي بشكل… غبي؟“
“أقصد، قوي جدًا جدًا.”
“……”
“وأعني أن هذا شيء جيد! أليس كذلك؟“
‘يا لها من عبقرية في المراوغة.’
كاد يعترف بإعجابه. لكنه تراجع عن الاستجواب وبدأ يبحث حول المكان دون أن يترك يدها. وفي تلك اللحظة، لفت نظر إسـتيل شيء ما.
“انظر إلى تلك الكروم التي تُحيط بالمكان.”
“نعم؟“
“نحن في الشتاء، لماذا هي خضراء؟“
توقف الرجل فورًا عن تقليب الأعشاب اليابسة وأدار رأسه نحو ما كانت تنظر إليه. كانت كروم اللبلاب خضراء زاهية كأنها من أوائل الصيف لا تناسب الطقس البارد إطلاقًا. حدّق فيها وقال:
“سحر…”
كما لو كانا متفقين مسبقًا، اقترب الاثنان من المكان في نفس الوقت. مدت إسـتيل يدها بحذر ورفعت إحدى الكروم فكشفت عن جدار حجري نصف منهار وعلى سطحه رسم تعويذة معقدة.
“دائرة سحرية…”
كانت دائرة سحرية مرسومة باللون الذهبي على الجدار الباهت من عمل الساحر العظيمة. ناولها سيدريك القلم بسرعة وقال:
“انسخيها حالًا.”
“أ–أنا؟“
“نعم. انسخي شكل الدائرة والنصوص بشكل منفصل. قد تنشط التعويذة لو نسختيها كاملة دون فصل.”
أخذت القلم منه وبدأت بنسخ التعويذة على صفحة فارغة من دفتر ملاحظاتها، خطوطها المرتجفة تظهر بوضوح. وبينما تكمل تمتمت وهي تميل رأسها:
“لكن ما تأثير هذه الدائرة؟“
وفجأة، التفت كلاهما في نفس اللحظة بعد أن أحسا بشيء غريب.
الكروم التي كانت تحيط بالمكان اختفت تمامًا، ليجدا نفسيهما فجأة في ساحة مفتوحة بدون أي غطاء. وبينما كان سيدريك يراقب المكان بتمعن، لاحظ أن الكروم تعود لتغطي الدائرة السحرية من جديد عندما تلتف حولها، فتختفي الساحة مرة أخرى تحت غطاء الكروم. وعندما أزال الكروم مرة أخرى، تلاشت الكروم وظهر المكان مكشوفًا كما كان في البداية.
بمعنى آخر، هذه الدائرة…
“إنها دائرة سحرية عاكسة.”
حالما يلقي ظل على الدائرة السحرية، تعكس هذه الدائرة كل شيء حولها بشكل كامل. مدّ سيدريك يده نحو إحدى أوراق اللبلاب المنعكسة على السطح، لكنه اكتشف أنها ليست حقيقية، إذ مرّت يده عبرها كما لو كانت مجرد ظل شفاف. عندها عبّرت إستيل عن استغرابها بتجهم وجهها.
‘إذًا، مجرد انعكاس… لا شيء حقيقي. مجرد مرآة…’
تمتمت بصوت خافت غير راضٍ:
“وما علاقة هذا بعقد الشيطان؟“
ثم فكّرت:
‘متى ستنفعني أمي في حياتي، بالضبط؟‘
أمام الدائرة التي جعلت بروفيسورات السحر يبكون من فرحتهم فور اكتشافها، كانت ابنتها تغلي من الإحباط.
‘رائع، دائرة مرآة بزاوية 360 درجة… لكن ماذا بعد؟ أعطوني شيئًا مفيدًا بحق! هل سأستخدمها لأضع مساحيق التجميل؟‘
كادت تكسر القلم من الغضب وهي تحدق في الدائرة، لكن سيدريك انتزعه منها بهدوء قبل أن تحطمه.
“احفظي هذه الدائرة أولًا.”
“الشيطان يريد على ما يبدو أن يقول: مرآتي مرآتي، من الأجمل في العالم؟“
غمغمت بتذمر، ثم نظرت إلى الدائرة التي نسختها. ‘كيف من المفترض أن أهزم شيطانًا بهذا؟‘ تنهدت وفتحت دفتر يوميات والدتها باحثة عن دليل. لكن كل ما وجدته كان تفاهات من أيام الدراسة، لا شيء له علاقة بدائرة المرآة.
توقفت فجأة وهي تقرأ عن أول محادثة لها مع إيزابيلا، ثم قالت بصدمة:
“كم الساعة الآن؟“
أخرج سيدريك ساعة الجيب من جيبه، وقضم شفتيه نادمًا:
“الساعة الخامسة وعشرون دقيقة.”
‘لقد تأخرنا!’
دون أن ينطق أحدهما، انطلقا معًا نحو مخرج الغابة. وبمجرد مغادرتهما، توهجت الدائرة السحرية المنقوشة على ظهر أوراق اللبلاب باللون الذهبي.
ثم اشتعلت فجأة وكأنها أنهت مهمتها وتحوّلت الكروم إلى رمادٍ تناثر في الهواء. أما الدائرة التي كانت مرسومة خلفها، فقد اختفت بلا أثر.
* * *
أمسك البروفيسور إيدغار لوران وهو ينظر بلا مبالاة إلى قاعة المحاضرات المليئة بالطلاب بالطبشور في يده.
نقّ، نقّ… بدون أن يقول كلمة بدأ يهز الطبشور وهو مطوي الذراعين. ثم فتح فمه بصوت هادئ:
“اليوم سنتحدث عن النوعين الأول والثامن والعشرين من بين 28 تعويذة سحرية تركها الساحرة العظيمة والتي لا تزال لغزًا حتى الآن.”
رسم بالطبشور دائرة بيضاء على السبورة. وبعد أن كانت الدائرة فارغة بدأت تتملأ بأشكال هندسية مختلفة وكتب عليها بعض الكلمات التي تُستخدم لتشغيل الدائرة السحرية. ترك الطبشور وهو يبتسم ثم سأل الطلاب:
“ما هي لغة هذه الدائرة السحرية برأيكم؟“
حدق الطلاب في الدائرة وهم ينسخونها مظهرين علامات الاستغراب. فحتى الطلاب الذين يجمعون لغات من ممالك مختلفة لم يروا مثل هذه الأحرف الغريبة من قبل. ماذا عن كل تلك المربعات والدوائر…؟
في ظل هذا الغموض وصمت الطلاب، ابتسم إيدغار بخفة وتهبت خصلات شعره الوردية بفعل الرياح تاركًا إياها دون ترتيب، ثم قال:
“يقول كتاب السحر الأساسي للأكاديمية إن ‘اللغة المستخدمة في رسم الدوائر السحرية من الأفضل أن تكون لغة شائعة‘. هذا القول كُتب لتبسيط الأمر على المبتدئين، لكنه ليس خاطئًا. لكن إذا عدلنا هذه النظرية قليلاً، فالحقيقة هي كما يلي.”
كتب على السبورة جملة بهدوء وكان الطلاب يحدقون بدهشة، إذ تهدمت الأسس التي تعلموها عند دخولهم الأكاديمية:
“طالما أن الساحر ماهر في تلك اللغة فالدائرة السحرية تكون فعالة بغض النظر عن مدى انتشار اللغة.”
رفعت أحد الطلبة يدها بسؤال مرتاب:
“هل هذا يعني يا بروفيسبور، أن اللغة الميتة أو المنقرضة يمكن أن تكون فعالة طالما الساحر يتقنها؟“
“بالضبط.”
رفعت طالبة أخرى يدها بقلق متطلعة إلى الأحرف الغريبة على السبورة:
“هل يعني هذا أن الشيفرة التي اخترعتها الساحرة العظيمة نفسها يمكن أن تكون فعالة أيضًا؟“
أجاب إيدغار مبتسمًا:
“الجوهر ليس في الحروف بل في اللغة. كما يجب أن يكون النطق بطريقة خاصة. التعبيرات البسيطة المعدلة لا تؤدي إلى تفعيل الدائرة.”
قال أحد الطلاب:
“إذاً، اللغة المستخدمة في تعويذات الساحرة العظيمة التي لم تُفك شفرتها حتى الآن هي…”
ابتسم إيدغار ووضع الطبشور ثم نظر إلى الباب حيث دخل شخصان بسرعة.
فتاة ذات شعر أبيض ترتدي زي الأكاديمية، ألتقت بعيونه ثم انكمشت كما لو تحاول الاختباء.
بابتسامة تحمل قليلًا من الانزعاج، أجاب إيدغار:
“لا أحد يعلم.”
“حتى وإن كانت لغة ميتة…”
“لقد بحثنا في كل السجلات الخاصة باللغات المنقرضة، ولم نجد أي لغة تطابق هذه الرموز وأشكالها. لذلك هناك احتمالان.”
نقر على الطاولة بعصبية ورفع إصبعيه:
“الأول، أن العظيمة اخترعت اللغة بنفسها. الثاني، أنها لغة لا تعرفها سواها.”
حدق الطلاب بفضول في دفاترهم. نظر إيدغار إلى الفتاة التي وصلت متأخرة بابتسامة ساخرة، ثم أضاف:
“كلاهما يبدو مستبعدًا، لكن بما أنها تعود للساحرة العظيمة، قد يكون ذلك ممكنًا.”
ضحك الطلاب معه، ثم استمر في المحاضرة:
“الدائرتان السحريتان المكتوب عليهما هذه اللغة الغامضة هما الأولى والثامنة والعشرون، وهما الوحيدان اللتان لم تُحل ألغازهما. حتى أنا لم أتمكن من حلها.”
ارتسم على وجهه ابتسامة تحمل هالة من الجنون، وقال بصوت منخفض:
“أرغب في التنقيب عن قبر الساحرة العظيمة، وإعادة إحيائها، وسؤالها عن معنى هذا كله.”
تجمد الطلاب من الخوف للحظة، بينما سمعت إستيل الطالبات تهمس لبعضهن: “ألم أقل لك؟ إنه مجنون. لكنه مجنون وسيم على الأقل.”
مع توتر الأجواء، أعلن إيدغار بكل ثقة وهو يضع كتبه:
“لننهي محاضرتنا هنا اليوم.”
ترجمة : سنو
انستا : soulyinl
واتباد : punnychanehe
التعليقات لهذا الفصل " 35"