تجمّد في مكانه من وقع الأمر الإمبراطوري الذي أُعلن بسرعة خاطفة، حتى إنه لم يستطع التقاط أنفاسه. كان ذلك انعكاسًا واضحًا لعزم الإمبراطور على تهدئة إستل بأي طريقة ممكنة ومنع سقوط الإمبراطورية
في هذه المرحلة، لم يعد يشعر بالغضب بل فقط بالذهول.
آه… إذًا هكذا يتم تأكيد مشاركتي رسميًا في الحرب، أليس كذلك…
لا يزال في حالة ذهول وهو ينظر إلى إستيل، التي كانت على وشك البكاء.
حقًا، منذ أن التقى بهذه المرأة، لم يسر شيء كما يجب…
على أية حال، كان الأمر الإمبراطوري لا يزال أمرًا.
ركع على إحدى ركبتيه أمام الإمبراطور وانحنى رأسه.
“أتلقى الأمر الإمبراطوري.”
نظرات سيدريك نحو إستيل كانت حادة كالسيف، وكأنها تقول: “سوف نلتقي لاحقًا، أيتها العدوة…”
لكن إستيل واجهته بوجه خالٍ من الندم وبوقاحة، ثم حرّكت شفتيها قائلة:
“لا مفر من ذلك، صحيح؟“
“لا مفر؟“
هل أصبحت أكثر وقاحة من قبل؟
وبينما كانت تعلو وجهه ملامح الانزعاج، اقترب الإمبراطور ووقف أمامه.
“يا نائب الدوق إرنيست، بشأن إستيل…”
توقف الإمبراطور قليلًا بتعبير غير مريح، ثم التفت إلى سكرتيره:
“بلانشيه… هي الآن آنسة بلانشيه، أليس كذلك؟“
“نعم، يا جلالة الإمبراطور.”
“أن أذكر ذلك الاسم مجددًا…”
في صوته كان هناك لمحة من الخوف.
بعد تنفسٍ عميق، أكمل الإمبراطور:
“نائب الدوق إرنيست، ساعد الآنسة إستيل بلانشيه في حماية الإمبراطورية.
والعائلة الإمبراطورية تعد بأن تقدم لكما أقصى ما يمكن من الدعم.”
الصوت الصارم والثقيل الذي ملأ أرجاء المكتبة جعل كل دموع الأمل والفرح السابقة تتلاشى وكأنها لم تكن.
وبينما كان الإمبراطور يحل المشكلة العاجلة، كان يستعد للتفكير في المشكلة التالية:
كيف سيواجه الدمار المتوقع بعد خمسة أشهر؟
لكن الآن، مع انضمام إستيل، بات لديه الجواب.
الخطوة التالية: كيف نضمن نجاح مشاركتها؟
وبينما كان يفكر، سأل:
“آنستي، ونائب الدوق… ما خطوتكما التالية؟
نظر الاثنان إلى بعضهما لثوانٍ، ثم قالا معًا:
“سنذهب إلى الأكاديمية.”
“لا بد من الذهاب إلى الأكاديمية، أليس كذلك؟“
كانت إيلين قد قضت حياتها تبحث عن طرق للتخلص من المتعاقدين مع الشياطين،
وإن تعقبنا حياتها، فقد نجد الجواب.
وأول ما فعلته الساحرة العظيمة عندما استقرت في جسدها هو الالتحاق بالأكاديمية.
لذا فلا بد من الذهاب إلى هناك.
“هاه… حسنًا. هناك الكثير من الأبحاث هناك، قد تساعدكم في تحديد الاتجاه المناسب. كل نفقات الرحلة تُحمّل على القصر الإمبراطوري.
أوه، الآن تذكرت…”
قطع الإمبراطور كلامه وتنهد بخفة، وكأنه تذكّر شيئًا.
وبينما كانت إستيل تنظر إليه بعيون واسعة، سألها:
“قلتِ إن مهارتك في السحر ما زالت ضعيفة، صحيح؟“
“نعم، لماذا تسأل…؟“
“هناك ساحر إمبراطوري يعمل في الأكاديمية حاليًا.
إن رغبتِ، يمكنني ضمه إليكِ.
ستتعلمين منه الكثير، وهو أحد من ورثوا أبحاث الساحرة العظيمة.
يبدو أنه قد يكون مفيدًا… ما رأيكِ؟“
“هممم…”
استنشقَت نفسًا عميقًا ودخلت في تفكير.
“من هو هذا الشخص؟“
الإمبراطور تردد قليلًا، ثم دخل في صمت.
وبعد دقائق من التفكير، قال أخيرًا:
“إنه… موهوب جدًا! صحيح أنه… غريب بعض الشيء، لكن—”
* * *
داخل مختبر يغمره الدخان والروائح النفّاذة، كان السائل يغلي ويتبخر.
في وسط المختبر، وقف رجل يحرّك يده، فتقلبت صفحات عشرات الكتب المعلّقة في الهواء بصوت خفيف.
وعندما سقط ضوء القمر على شعره الوردي الناعم، تلألأ بلون أرجواني باهت.
قرأ الرجل صفحات الكتب بسرعة مذهلة، ثم تنهد بصوت خافت، وتمتم بصوت حالِم، كما لو كان يحلم:
“…ممل.”
فكر قليلًا.
ماذا يفعل؟
هل يذهب بلطف ويخبرهم بالحقيقة بنفسه؟
أم يكتب بحثًا علميًا ويرسله إليهم؟
لكن…
نقر بلسانه بضيق وقال:
“مزاجي سيء.”
لم يكن في مزاج يسمح له بأن يكون مهذبًا.
نظر إلى المختبر المنظّم من حوله، وراح يحك خده بتعبير خالٍ من المشاعر.
تردد لثلاث ثوانٍ فقط، ثم اتخذ قراره البسيط والمجنون.
مدّ إصبعه ورسم دائرة سحرية متوهجة بلون أخضر في الهواء.
كانت الدائرة معقدة جدًا، لكن يده لم تتردد للحظة أثناء رسمها.
وفجأة، انطلقت جميع المواد الكيميائية الموضوعة على الطاولة إلى الأعلى، وانفجرت في الهواء بصوت “بوم!”.
فتحت الطالبة التي كانت مشغولة بتنظيم الملفات عينيها على مصراعيها.
“ب–ب–ب–بروفيسور؟ ماذا… ماذا فعلت للتو…؟!”
“ألستِ ترين؟“
أجابها ببرود، ثم رسم دائرة سحرية أخرى.
شاهدت الفتاة بأم عينيها كيف تبخرت أبحاث كانت تكلفتها خيالية، وهي تذهب أدراج الرياح.
انهارت وسقطت جالسة على الأرض.
تناثرت القوارير الزجاجية التي كانت تحتوي على المحاليل، وامتزجت محتوياتها مسببة انفجارات وضوضاء شديدة.
ورغم كل تلك الفوضى، ظلّ الرجل واقفًا في وسطها، مبتسمًا بهدوء.
“دوووم!”
انفتحت الأبواب بقوة، وتدفّق الباحثون المساعدون وهم يهرعون لجمع المواد المنسكبة بالسحر، لكنهم لم يعرفوا ما الذي كان في أي قارورة بالضبط، مما صعّب عملهم.
دخل العميد وسط الفوضى، ووجهه محتقن، وصرخ:
“بروفيسور إيدُغا روران-!! ما الذي فعلته!!”
“آه، عميد الأكاديمية.”
ردّ عليه بهدوء مدهش، وكأنه لم يرتكب أي خطأ.
أومأ له تحية خفيفة، ثم ابتسم.
“كنت أنوي زيارتك، لكنك سبقتني.”
“أستاذ روران، عليك أن تفسّر فورًا! لقد دمّرت بيانات أبحاثٍ ثمينة! أليست مهمتك أن تساعدنا؟!”
هزّ كتفيه وكأنه لا يفهم سبب الغضب، ثم أجاب:
“آه، ألا تقدّرون نيّتي الطيبة؟ لقد ساعدتكم.
وفّرت عليكم عناء التخلص من هذه القمامة.”
“ق–قمامة؟! هذه الأبحاث كانت تهدف إلى إثبات وجود خلل نظري في تعاويذ الساحرة العظيمة!”
لكن إيدُغا قاطع كلام العميد بحركة كسولة بيده، ثم تنهد بملل وهو ينظر حوله.
“منذ متى بدأ هذا البحث؟ ومن يقوده؟“
“منذ حوالي ستة أشهر، تحت إشراف البروفيسور هايدل…”
“ستة أشهر؟“
ابتسم بسخرية، ثم أشار إلى كتاب كان معلقًا في الهواء.
طار الكتاب إلى يده، وفتحه وناوله إلى العميد، قائلاً ببرود:
“هذه الأخطاء اكتشفتها بعد ثلاث ساعات فقط من وصولي لهذا المختبر.
ويبدو أن نظرية الساحرة العظيمة ما زالت قائمة.”
رغم أن صوته كان يحمل خيبة أمل خفيفة، فإن العميد قد غرق في ذهوله، لم يلحظ ذلك وظل يحدق في دفتر الملاحظات فقط. وبينما يقرأ بخط يد إيدُغا المكتوب بالأحمر كما لو كان يصحح ورقة امتحان لطالب جامعي، تمتم:
“هذا… هذا غير معقول…”
أي بحث يُجرى باسم الأكاديمية لا يمكن أن يبدأ إلا بعد المرور بمراحل مراجعة دقيقة. أي أن النظرية التي طرحها البروفيسور هايدل قد تم التحقق من صحتها بالفعل من قِبل نخبة من بروفيسورات الأكاديمية. ومع ذلك، هل يُقال الآن إنها تحتوي على أخطاء؟ المزعج في الأمر أن الملاحظات التي أشار إليها إيدُغا كانت صحيحة تماماً.
بحث استمر لمدة ستة أشهر، تحول إلى هراء في غضون ساعات قليلة بعد وصول هذا الرجل “إيدُغا“، الذي ألقى نظرة خاطفة على وجه العميد المصدوم، تمتم:
“يا سيادة العميد، لا أقصد التقليل من شأن الأكاديمية. لكن عادةً من داخل المنظومة يصعب رؤية الأخطاء.”
ولهذا السبب بالتحديد كان يتجول مبتعداً عن القصر الإمبراطوري، لكن هذه المرة أيضاً، لا جديد…
همس بذلك بصوت منخفض بالكاد يُسمع، ثم لوّح بيده برفق نحو معطفه المعلق بعيداً. طار المعطف في الهواء ليصل إلى يده، فارتداه وخرج من المبنى.
وبينما كان يتجه مسرعاً إلى مكان آخر، تذكر شيئاً، ورفع رأسه نحو السماء.
(قالوا إن هناك من يعارض نظرية الساحره العظيمة، فجئت بنفسي. وكما توقعت.)
رغم أنه لم يكن يتوقع الكثير أصلاً، إلا أن طعم المرارة ملأ فمه. ما زالت إيلين إيفرغرين هي الجدار الذي لا يمكن تجاوزه. ومع تعبير بارد على وجهه، تمتم كأنها عادته:
“…ممل.”
كانت عيناه الخضراوان تنظران إلى السماء الصافية الخالية من الغيوم، يغمرهما ملل عميق. وبعد أن تثاءب مرة، مضى بخطوات طويلة إلى الأمام.
* * *
الوقت الحالي، قبل نهاية العالم بخمسة أشهر، كانت إستيل مستلقية بهدوء في حديقة منزل دوق إيرنيست، تستمتع بدفء أشعة الشمس، تتبادل بعض الأحاديث العشوائية.
“إذاً، هل فكرت في نوعك المثالي؟“
كان هذا هو السؤال الثالث الذي تطرحه اليوم. بدأ سيدريك يشعر بالحيرة من هذا الإصرار، متسائلًا عن سبب هوسها الغريب بمعرفة ذوقه. بتعبير منزعج على وجهه، سأل:
“ولماذا تسألين ذلك بالضبط؟“
“قلتُ لك إنني سأساعدك في العثور عليها! هيا، هذه السنة يجب أن تتزوج! عندما أسألك في المرة القادمة، أريد إجابة حقيقية. اتفقنا؟“
كم هي مزعجة… لو رفض، فسيلاحقه إزعاجها بلا هوادة. لذا أومأ سيدريك برأسه دون اهتمام، وعاد يركز على الكتاب الذي كان في يده.
بينهما، وعلى مسافة بسيطة، كانت هناك عدة كتب موضوعة، تبدو وكأنها كتب دراسية من الأكاديمية، وكان سيدريك يتصفحها، حين سألت إستيل:
“اسمه كان… إيدُغا روران، صحيح؟“
“نعم.”
“هل تعرفه جيدًا؟“
اتجهت عيناه الزرقاوان نحو الأعلى واليمين وكأنه يحاول استحضار ذكرياته. إيدُغا روران… الاسم يبدو مألوفاً. وبعد برهة، تذكر السبب، فرد بصوت خالٍ من الانفعال:
“أعتقد أنني سمعته عدة مرات من والدتي.”
“آه، صحيح! حين أخبرتها عن الأمر، كانت سعيدة جداً، بالمناسبة.”
كان من المفترض أن تتلقى إستيل دروساً أساسية في السحر من إيزابيلا، لكن بعد صدور المرسوم الإمبراطوري، تم تقديم موعد انطلاقها، وبالتالي أُلغيت الدروس تلقائياً.
وكانت إيزابيلا قلقة من مغادرتها المفاجئة، لكنها ما إن سمعت اسم “إيدُغا روران” حتى ابتسمت بسعادة وقالت:
“طالما أنه إيدُغا، فلا داعي للقلق!”
هل هما قريبان؟ بينما كانت إستيل غارقة في التفكير، كان سيدريك يحدق بها بتعبير متجهم حين سمعها تنادي والدته بلطف شديد.
“قلتُ لك من قبل، أليس كذلك؟“
“عن ماذا؟“
“ألا تنادي والديّ بهذه الأريحية.”
“آه، صحيح، قلتها! لكن والديك، كما يبدو، يفضلان هذه الطريقة. لذلك سأستمر باستخدامها.”
الشفتان اللتان كانت ستطلقان احتجاجًا، انغلقتا فجأة.
وللأسف، كانت على حق. ميكائيل وإيزابيلا كانا يبتسمان وكأنهما يملكان العالم في كل مرة تركض إليهما إستيل قائلة “أمي! أبي!” بل وكانا يرمقان ابنهما بنظرة جانبية كل مرة، وهي نظرات ضغط صامت، بالكاد يستطيع سيدريك تجاهلها.
ترجمة : سنو.
انستا : soulyinl
واتباد : punnychanehe
التعليقات لهذا الفصل " 29"