“هل تنوي تربية ابنك ليصبح ساحرًا؟“
عندما سمع الصوت الخافت خلفه، استدار سيدريك ليجد الساحرة العظيمة ذات الشعر الأحمر المتطاير بفعل الريح واقفة هناك. تسلل فورًا ليختبئ خلف والدته.
أرسلت إيلين تحية بعينيها نحو ميكائيل وإيزابيلا، ثم ابتسمت واقتربت منهما.
“سيدريك؟ أنصحك بالقوة المُقدسة وليس السحر. لن تجد فيه متعة. لأن قسم السحر في الأكاديمية هو في الحقيقة قسم لغات أجنبية.”
آه، صحيح. الآن تذكّر أن الساحرة العظيمة كانت هناك في ذلك اليوم أيضًا. وكانت قد نصحته بسلوك طريق الفارس المقدس بدلًا من طريق الساحر…
وكانت تلك آخر نصيحة من الساحرة العظيمة خطرت بباله، قبل أن يعود سيدريك إلى الحاضر وهو يفرك ما بين حاجبيه.
بعبارة أخرى، مدى فعالية السحر يعتمد على دقة اللغة المستخدمة في الدائرة السحرية. واللغة التي كُتبت بها تلك الدائرة التي استخدمتها إستيل بلا تفكير وقتلت بها الشيطان فورًا…
“أعرف منها اثنتي عشرة لغة على الأقل…”
بل وكان هناك لغات لم يسبق له أن صادفها في حياته، ما يدل على تعقيد لا يوصف. وبمعنى آخر، حتى يتمكن أحدهم من إعادة إنشاء تلك الدائرة السحرية، عليه أن يكون ملمًا بكل تلك اللغات…
وبالنظر إلى ما قالته إستيل عن أنها لا تتذكر شيئًا من حياتها قبل أن تحبسها الساحرة العظيمة في غلاسيوم وهي دون العاشرة، فالأرجح أن سر تلك الدائرة مدفون في ذكرياتها الممحوة. ثم نظر سيدريك بقلق إلى المرأة التي تجلس بجانبه وهي ترمش بعينيها ببراءة.
‘ربما… قبل أن تُمحى ذاكرتها، كانت هذه المرأة عبقرية في السحر، لدرجة أنها كانت تصلح وريثةً للساحرة العظيمة…’
في هذا الزمن الذي يوشك على الانهيار، لم يكن هناك ما هو أثمن من تلك الذكريات. وبالرغم من أن استعادتها ليس مستحيلًا، فإن المشكلة تكمن في أن من قام بمحوها هي الساحرة العظيمة نفسها.
أعاد سيدريك نظره إلى الإمبراطور وقال:
“الآنسة لا تعرف كيفية التحكم في قواها السحرية بشكل سليم. كما أن الساحرة العظيمة أوضحت الاتجاه المطلوب بطريقة مبهمة للغاية. لذلك لا يمكننا الانطلاق فورًا للقضاء على المتعاقد مع الشيطان.”
“هذا يعني أن…”
كانت كلماته مُحبِطة لكن لم يكن هناك ما يُقال سواها. تنهد ثم أكمل:
“نعم يا جلالة الإمبراطور… نحن بحاجة إلى الوقت. ولكن، حتى لو توفر لنا الوقت فإن ما تنوي الآنسة فعله محفوف بالمخاطر. وإذا فشلت بسبب نقص الخبرة… فقد نكون نحن من يحرر الشيطان في وقت مبكر.”
كان ذلك كلامًا يبعث على اليأس، خصوصًا ونحن على بُعد خمسة أشهر فقط من نهاية العالم. لكن لم يكن هناك مهرب من قول الحقيقة. بدت على وجه الإمبراطور الذي لمح بارقة أمل في كلام سيدريك علامات الأسى مجددًا. ثم، وكأنه اتخذ قراره، فتح فمه قائلًا:
“في النهاية، تلك الدوائر السحرية ستُدمّر عاجلًا أم آجلًا.”
“…هذا صحيح، ولكن…”
“المدة التي حددتها الساحرة العظيمة، وهي عشر سنوات، لم يتبقَ منها سوى خمسة أشهر. وعندها ستنفجر الدوائر الأربع في أماكن مجهولة بالتزامن.”
توقف لحظة، ثم وجه نظره نحو إستيل وقال بهدوء:
“وحين ينفلت الشيطان المكبوت منذ عشر سنوات، من يعلم إلى أي مدى سيفقد السيطرة…”
يا إلهي، أشعر أنني سأُصاب بعسر هضم.
رفعت إستيل رأسها نحو السقف لتتجنب نظرات الإمبراطور. كم هو موقف غير مريح. لا يمكنها تجاهل كلام أرفع شخصية في الإمبراطورية ولا حتى سد أذنيها.
“يبدو أن مصير هذه الإمبراطورية قد حُسم. الدائرة السحرية ستنهار على أية حال بعد خمسة أشهر. لذا، إن استطاعت الآنسة إستيل، أملنا الوحيد، أن تتحرك… كح كح! أن تحاول فقط… كح كح كح! سيكون ذلك جيدًا. مع التأكيد على أنني لا أفرض شيئًا…”
بسبب سعال الإمبراطور المصطنع، هرع إليه إيدلن بقلق وهو يصيح:
“جلالة الإمبراطور، هل أنت بخير؟“
“أنا بخير…! لقد عشت ما يكفيني، لا تقلق. لكن… أولئك الأطفال في الإمبراطورية… كح!”
تجمدت إستيل للحظة ثم بدت عليها الحيرة والتوتر. أثار ارتباكها المفاجئ استغراب سيدريك، وراقبها وهي تعبث بأصابعها في حيرة غير قادرة على تحديد مكان تضع فيه نظرها، ثم رفعت رأسها وقالت:
“لـ، لحظة فقط.”
“إستيل.”
أوقفها سيدريك قبل أن تبدأ بالكلام، وقد عض شفتيه بتوتر. وبينما راقب الإمبراطور كِلا الشابين القلقين، قال:
“الوحيدة القادرة على كسر الدائرة السحرية هي الآنسة إستيل، بصفتها من سلالة الساحرة العظيمة، لكن لا يمكنني إرغامها. كح! نعم، لا يمكنني ذلك.”
في هذه الحالة، كان التهديد المباشر قد يكون أقل إحراجًا. أغلق سيدريك عينيه ببطء، محاولًا انتقاء كلماته بعناية. عندها تمتمت إستيل، وهي تمرر يدها على خدها بتوتر:
“الأطفال… سيموتون…”
صدمة كلماتها جعلت الثلاثة الآخرين يتجمدون في أماكنهم. حدق سيدريك في وجهها، ملاحظًا ذلك المزيج الغامض من المشاعر التي ارتسمت عليه.
وفي النهاية، رفعت إستيل رأسها وابتسمت بمرارة وهي تقول:
” كيف لي أن أتجاهل ذلك.”
اتسعت عينا الإمبراطور بدهشة. “أهذا كل ما تطلّب الأمر لإقناعها؟“
ورغم أن الإمبراطور كان يتحرك بدافع مصلحته، فإنه لم يكن ينوي استغلال منقذة العالم مجانًا. ما قاله سابقًا كان مجرد تمهيد وتمثيل لتهيئة الأجواء. استعاد في ذهنه عدة حوارات جرت بينه وبين الساحرة العظيمة.
“المنطقة الشمالية تتعرض لنهب شرس للغاية. الكثير من الناس قد لا يتمكنون حتى من النجاة هذا الشتاء.”
وحين كان يستخدم مثل هذه الكلمات لاستدرار العطف، كانت إيلين دائمًا تبتسم ابتسامة خفيفة وترد بهدوء…
“وماذا في ذلك، يا جلالتك؟ هل ستمنحني الكثير من المال؟“
يبدو أن الشبه بين الأم وابنتها ليس كاملًا… نظر الإمبراطور بدهشة إلى إستيل الجالسة أمامه، ثم سألها متلعثمًا:
“ي–يا آنسة… هل تقصدين بكلامك أنك…؟“
“نعم، سأبذل جهدي لإنقاذ الإمبراطورية.”
التفت سيدريك بسرعة وقد بدت عليه الصدمة، ونظر إليها وكأنه يسأل: “أأنتِ جادة؟“
إستيل التي قالت ما كانت تفكر فيه منذ أن رأت رسالة والدتها – بل وقالته أمام الإمبراطور نفسه – أغمضت عينيها بإحكام.
أشعر برغبة في البكاء.
هل كانت أمي تخطط لكل هذا منذ البداية؟
لكن، وبكل صدق، لم يعد بإمكانها التراجع.
تذكرت الجملة التي كتبتها إيلين في نهاية الرسالة:
“في عالم يتجه نحو الفناء… لا أظنك ستنجين وحدك.
إن كنتِ ترغبين في النجاة، فابذلي جهدك.”
بمجرد أن قرأت تلك الكلمات، فكرت:
“هل أستطيع فعلًا النجاة إن لم أفعل شيئًا؟“
سواء تدخلت أو لم تتدخل، العالم سيفنى. وإذا فني العالم، فهي ستموت أيضًا.
الفرق فقط هو إن كانت ستموت الآن، أو بعد خمسة أشهر.
إستيل إنسانة عادية.
كانت تفضل العيش بهدوء دون أن تزعج أحدًا، وفجأة طُلب منها أن تنقذ العالم؟ طبيعي أن تفكر في الهرب…
لكن المشكلة أن لا مكان تهرب إليه.
وفوق كل ذلك، تذكرت عبارة الإمبراطور:
“الأطفال سيموتون.”
لقد نشأت وسط أناس كانوا قادرين على مساعدتها لكنها غالبًا لم تكن أولوية لهم.
ورغم ذلك، نجايتُها كانت بفضل قلة من الكبار الذين قرروا مساعدتها فقط لأنها طفلة.
“خذي، هذا لكِ.”
“واو! أرِوين؟ هل هذا طعام؟“
“أمي طلبت مني أن أقدّمه لكِ.”
كان هناك من تحمّل العناء، ولو قليلًا، ليساعدها…
واليوم، هذه الطفلة التي كبرت، إن كانت مستعدة لتحمّل مشقةٍ كبيرة — لا، بل مشقةٍ هائلة — فهي الآن في موقعٍ يتيح لها إنقاذ حياة الكثير من الأطفال.
ضحكت إستيل بمرارة وهي تنظر إلى السقف.
لا مهرب حقًا.
وقد يكون الإمبراطور قد أدرك أن إستيل وافقت على لعب هذا الدور السخيف كـ“بطلة” وهي تجر قدميها نحو مصيرها كمن يساق إلى المذبح، فبدأ يمدحها بأسلوب مبالغ فيه:
“يا لها من تضحية عظيمة! الإمبراطورية لن تنسى أبدًا تضحيتك، يا آنسة إستيل!”
“عذرًا؟ أنا لم أضحِّ بعد!”
ما هذا الكلام؟!
حتى لو أنقذت العالم بجسدي وروحي، فأنا أنوي النجاة!
إن متُّ دون حتى أن أعيش في العالم الذي أنقذته، فسيكون ذلك ظلمًا فادحًا!
وقد بدأت الدموع تتجمّع في عينيها فجأة، وكأنها تلقت حكمًا بالإعدام.
ارتبك الإمبراطور، وسرعان ما بدّل الموضوع:
“يـ، يا آنسة… العائلة المالكة ستمنحك كل ما تستطيع من دعم. نعم! عند عودتك، ستحصلين على مبلغ يمكنه إفلاس الخزينة ثلاث مرات! وبالطبع، سنمنحك لقبًا. ما رأيك بلقب دوقة؟“
أنا على وشك الموت، ومن يهتم بالمال؟!
مسحت إستيل دموعها بعنف، ورفعت رأسها وعينيها تلمعان بالغضب:
“طالما أنكم ستمنحوني شيئًا… فليكن مبلغًا يمكن أن يفلسكم خمس مرات، لا ثلاثًا فقط!”
يا إلهي… هل قالتها فعلًا؟!
سيدريك، الذي نسي حتى أن يمنعها، نظر إليها بدهشة وهي تفاوض الإمبراطور دون تردد.
شعرت إستيل بنظرته، فأشارت نحوه وقالت:
“وأريد هذا الرجل أن يرافقني.”
“ماذا؟ إستيل؟“
كانت عينا إستيل تلمعان بالإصرار.
حسنًا يا أمي… هذا الإرث الذي ورّثتِنيه بموتك؟ سأتقبله.
لكنني لن أتقبله بهدوء… سأتشبث بكل ما أملك لأبقى حيّة.
سيدريك، الذي تلقى الصدمة مثل صاعقة، التفت إليها مذهولًا:
“ماذا قلتي للتو؟“
وبمجرد أن رأى تعبير وجهها، فهم أن هذا الموقف لا يمكن إيقافه بالكلام.
هي نفسها لم تكن مستعدة لهذه “المشاركة الرسمية في الحرب” التي أعلنتها بصوت عالٍ أمام الإمبراطور، فقد بدت شاحبة كأن الدماء فرت من وجهها.
في تلك اللحظة، أدرك سيدريك شيئًا:
عليّ تهدئتها فورًا.
لكن إستيل لم تمنحه الفرصة، إذ واصلت كلامها وقد بدا عليها الجنون:
“لن أذهب وحدي… أبدًا. لا أستطيع. لذلك يجب أن أضمن وجود شخص قوي برفقتي…!”
لا مجال للتهدئة الآن، لقد بدأت تنفجر حقًا.
سيدريك وضع يده على جبهته وكأنه فقد الأمل، بينما نظر الإمبراطور إليهما بتردد وسأل:
“ألستما متفقين على التحرك معًا منذ البداية؟ ظننت ذلك لأنكما أتيتما سويًا…؟“
“أنا أيضًا ظننت ذلك…”
تذكرت إستيل كيف كان سيدريك يتردد حين سمع أنه استُدعي إلى القصر.
أنا بحاجة إلى ضمان…
فقالت بنبرة فيها تلميح:
“هذا الرجل يتردد كثيرًا، ويجعلني أشعر بعدم الأمان… لذا أردت شيئًا رسميًا يؤكد بقاءه بجانبي، مفهوم؟“
فجأةً، عادت النظرة الحادة إلى عينيها، ثم رفعت رأسها وهتفت:
“أرجو أن تُصدر أمرًا إمبراطوريًا يُلزمه بمرافقتي، يا جلالتك!”
هل جُنّت؟
سيدريك نظر إليها بذهول.
كان من المفترض أن يرافقها على أية حال، وقد وعدها بذلك… لكن أن يصدر فيها “أمر إمبراطوري“؟
هذا يعني أن الأمر أصبح رسميًا، وله تبعات سياسية… وكان يجب التفكير فيه بعناية.
وقبل أن يستطيع حتى ترتيب كلماته لتدارك الموقف…
“ليُرافقها اللورد سيدريك إيرنيست!!”
…صرخ الإمبراطور وأصدر الأمر بنفسه، دون تردد.
ترجمة : سنو.
انستقرام : soulyinl
التعليقات لهذا الفصل " 28"