ليم يكن يُسِرُّ داميان أن يتخيّل فتاةً في الحادية والعشرين من عمرها، لا يعرف من أمرها سوى اسمها، وهي تبكي بكاءً مرًّا. ولقد كان هذا هو السبب في تحذيره لها من أوّل الأمر ألّا تُعلّق قلبها، ولكنّ لينتري لم تصغِ إلى التحذير.
‘سواء بكت أو لم تبكِ، فليس ذلك… من شأني’
، أراد أن يقول هذا، لكنّ نفسه لم تطاوعه…
غسل داميان وجهه غسلاً جافًّا بيديه، وكان رأسه يدور من شدّة ما تلقّاه من لطمات لسان لينتري في رسالتها، حتى لم يقدر على إطالة الكتابة.
فوضع القلم، واتجه رأسًا إلى غرفة بول. طرق الباب ودخل، فإذا بول يستقبله بملامح تدل على الدهشة.
“ما بالُك تطلبني أنت أوّلًا هذه المرّة؟”
“أما تذكر صورتنا التي التُقِطت في المرّة السابقة؟”
“صورة؟ أيّة صورة؟”
“ألم يُوزّع علينا المصوّر الحربي – لمّا جاء لتغطية أخبار الجبهة – صورًا بعد أن التقطها؟ تلك الصور أعني.”
“آه، بلى. أظنها هناك. ولِمَ تسأل؟”
“أيمكن أن أراها قليلًا؟”
ولمّا ألحّ داميان وهو يلوّح بيده، وقف بول في حيرة، إذ لم يعتد أن يرى صاحبه على هذه الحال، ولم يفكّر حتى في سؤاله عن السبب، بل راح يقلب الأوراق بين يديه.
“آه، هذه هي فيما أرى.”
وكان في الظرف الذي دفعه بول إلى داميان جملة من الصور. فأخذ داميان يقلّبها واحدة واحدة، حتى استلّ منها واحدة بعينها.
“أيمكن أن أحتفظ بهذه؟”
فلمّا رآها بول أومأ بالإيجاب، فأدخلها داميان في ظرف الرسالة التي يُعِدّها إلى لينتري، وأدى له التحية العسكرية.
“شكرًا جزيلًا!”
“على ماذا؟ لا يستحق الأمر…”
وبقي بول يتفرّس في داميان وهو يبتعد بخطى منضبطة أكثر من المعتاد.
[فها أنا أُرفق صورتي. فلا تركبي القطار إلى ليف رجاءً.
أما المنديل، فواحد يكفيني، فإنّ الفريد النادر هو الذي تعلو قيمته، ولا أريد أن أنتقص من قدر هذا المنديل. وسأبذل جهدي – ما استطعت – في ألّا أُقتل في المعركة، وإن كنت لا أعلم هل ذلك في مقدوري.
حرّر في 3 تشرين الأول سنة 1878.
من الملازم ماكورْد، الذي ضاق صدره بفضل سيّدتي.
ملحق: هذه المرّة أيضًا أرسلتها بالبريد السريع، فهل وصلت أسرع من سابقتها؟]
بعث داميان الرسالة مسرعًا، وكأنّه يفرّ، ثم لجأ إلى خندقه.
وبعد تمام أسبوع، وصلت رسالة من سيّدتي لينتري، فلمّا رآها داميان هابه أن يفضّها، لأنّه…
[إلى الملازم ماكورْد، الذي لا يُجارى في صِغَر النفس وخِسّة الطبع.
أترسل إليّ صورةً جماعيّة؟ حقًّا، ما أوقحك!]
موروها. متتت😭😭😭
وكما توقّع، جاء السهم من أوّل السطر.
رفع داميان بصره إلى السماء مبتسمًا ابتسامة مُرّة، وقال في نفسه: ‘كنتُ أعلم أن هذا سيحدث، لكنّي أعطيتُها ما أرادت على طريقتي.’
[أتطلب مني أن أحدّدك من بين عشرين شخصًا، دون أن تذكر لي على الأقل الصف الذي أنت فيه، أو ترتيبك بين من فيه؟ وإن كنت سترسل صورةً جماعية، فلتكن على الأقل كبيرة تكفي لتمييز ملامح الوجوه، لا في حجم راحة اليد، بحيث لا يُرى من الوجه إلا عينان وأنف وفم! أنت تعلم أنّ هذا ليس ما أردتُه! ويبدو أنّني سأشتري تذكرة قطار إلى ليف في نهاية المطاف.]
وكاد داميان أن يُعرض عن قراءة باقي الرسالة، ثم غيّر رأيه ومضى.
[على رسلك. لعلّك ترفض إعطاء صورتك لعيبٍ في ملامحك تخشاه… إن كان الأمر كذلك، فقد قصّرتُ في مراعاة مشاعرك، لكن لا بأس، فأنا أرى أنّ باطن الإنسان هو الذي يُعتدّ به، وأمّا المظهر فليس بالذي يهمّ كثيرًا. وأستطيع أن أتقبّلك أيًّا كان شكلك.]
‘ليس الأمر كذلك.’
[وعلى كل حال، أشكرك لأنك – على نحوٍ ما – استجبت لطلبي في الحصول على صورة، لكن تذكّر أنني على أهبة شراء تذكرة القطار إلى ليف في أي وقت.]
فابتسم داميان ابتسامة ساخرة من هذا التهديد المبطّن.
[ومادام الأمر قد آل إلى هذا، فسأحاول أن أجدك في الصورة… هُم… هل أنت في الصف الثاني، الخامس من اليسار؟ إنّ هذه الهيئة تشبه الصورة التي رسمتها لك من رسائلك… أم لست أنت؟
حرّر في 7 تشرين الأول سنة 1878.
من لينتري، التي تثق في براعتها في التخمين.]
فانفجر داميان ضاحكًا ضحكًا عاليًا – وهو نادرًا ما يفعل – إذ كان الرجل الذي أشارت إليه لينتري على طرف النقيض من شخصيّته تمامًا.
كان الرقيب كولت، الذي أشارت إليه لِنْتري، أشقر الشعر، حسن الطلعة، بديع الملامح، إلا أنّه – على خلاف داميان قليل الكلام – كان آيةً في الأُلْفة والأنس بالناس.
‘نعم، لا أنكر أنّ كولت محبوب الطلعة.’
أودع داميان رسالة لِينْتري في الظرف الذي يجمع فيه مراسلاتها، ثم أخرج ورقة وأخذ يلوّح بالقلم قليلًا قبل أن يشرع في الجواب:
[إلى السيدة لينتري، كثيرة المآخذ عليّ،
لقد حزّ في نفسي قولك إنك لم تستطيعي تمييزي في الصورة الجماعية التي أرسلتها لك.
ترى ما الصورة التي في ذهنك عني، حتى خُيِّل إليك أن ملامحي تشبه ذاك الغِرّ، حسن الوجه، عظيم التجبّر، وكأنّك ترين أنني أحمل قسماته؟ خشيت أن يطول بك هذا الوهم، فأكشف لك الجواب: في تلك الصورة، اعتبري أن أجملهم وجهًا هو أنا. ومهما كان الحال، فإنني لا أُتّهم بالقُبح في أي مكان حللت فيه.]
فتعجّب داميان من جرأته هذه، وأحسّ أنه قد غدا متكبّرًا بعض الشيء بتأثير كلام تينانت الذي أثنى على وسامته من قبل.
[وعلى ذكر هذا، فإنّني متشوّق لأعرف: كيف تتخيّلين وجهي؟
حرّر في 11 تشرين الأول سنة 1878.
من الملازم ماكورد الوسيم.]
فجاءه الجواب:
[إلى الملازم ماكورد، الواثق من وسامته أيّما ثقة،
أوه، ما دمتَ تُلقي إليّ تلميحًا بهذه الجرأة، فاستنادًا إلى التلميح لا أملك إلا أن أستنتج أنك الثالث من اليسار في الصف الأعلى. لكن، حتى وإن كان هذا التخمين صحيحًا، فإني أستبعد أن يكون ذاك أنت، إذ تبدو على هذا الشخص ملامح رجل جاوز الثلاثين، وأنت لم تزل ابن عشرين.]
‘همم… يبدو أنني أقلُّ وسامةً من الرقيب فيناس.’
وكان داميان قد رأى أنّه – وإن كان الرجل وسيماً في نظر الرجال أنفسهم – لم يخطر بباله قطّ أن يعدّه في المرتبة الأولى.
[أما أنا فأتصوّرك ذا ملامح منتظمة، غير أنّ خطوط وجهك ليست غليظة إلى الحد الذي يثير انطباعًا قويًّا. رجوليّ القسمات، قد أزحت عنك منذ قليل صورة الفتى الغِرّ، وبدوتَ شابًّا مكتمل النضج. وأما لون الشعر، فقد كنتُ أظنه أشقر، ولكن من حديثك أرى أنه لون آخر، فلعلّه بنيّ فاتح. وأما العينان، فأغلب الظن أن لونهما زيتوني. وأحسب أنّ لك مظهرًا يوحي بالجدّ والمواظبة، ولهذا عَجِلتَ بالترقّي في مراتبك. لكن، حين أجمع هذه الأوصاف، وأبحث بها في الصورة… لا أجدك! إذ لا وجه فيها يطابق هذه الشروط. ومن ثمّ، فقد أرسلتَ إليّ – يا لجرأتك – صورةً لا يظهر فيها وجهك أصلًا! يا للعجب! فما رأيك في استنتاجي هذا؟
حرّر في 15 تشرين الأول سنة 1878.
من لنيتري، التي ترجو أن تُلقّب هذه المرة بالمحقّقة النابهة.]
لكن الحقيقة أنّ داميان كان ظاهرًا في الصف الأوّل، الرابع من اليمين. ولم يسعه إلا أن يضحك من جديد.
في تلك اللحظة، دقّت الأجراس إيذانًا بوقت توزيع العشاء، فترك داميان الكتابة، ونهض من مكانه.
وبينما كان خارجًا، التقى بـبول، فحيّاه بتحية عسكرية مقتضبة، ثم سأله:
“سيّدي الرائد، كيف تظن أنّ ملامحي تكون؟”
فبدت على بول علامات التعجّب، إذ لم يكن يتوقع أن يطرح داميان مثل هذا السؤال، بل بدى منه شيئًا من النفور، لأنّ هذا السؤال تحديدًا لم يكن ليصدر عن داميان عادة.
فاكتفى بول بهز كتفيه، وقال من غير تفكير:
“وسيم.”
فعقد داميان حاجبيه من فتور الإجابة.
“ماذا؟ حتى إذا قلتُ إنك وسيم، بدوتَ مستاءً! ألستَ تريد هذا الجواب؟”
“ليس هذا ما أعنيه، بل أريد معرفة الصورة العامة، الانطباع، وهلمّ جرًّا.”
فأجاب بول على البديهة أيضًا:
“تبدو بلا تعبير.”
“وما الوجه الذي يُقال عنه هذا؟”
“وجه لا يغيّر ملامحه، فلا يُدرى ما يدور في خَلَده، وتبدو عليه العزيمة والعناد.”
“إذن، كيف ينبغي أن تكون الملامح لتُعطي مثل هذا الانطباع؟”
“انظر في المرآة، أليست عندك مرآة؟ لكن، ما بالك تسأل هذا فجأة؟”
ولمّا سأله بول ذلك، أطبق داميان فمه ومضى في طريقه ينظر أمامه. فغَمَزَه بول في خاصرته، وقال:
“امرأة؟ أهي امرأة؟”
فمسح داميان وجهه بيديه غسلاً جافًّا، متعجّبًا: ‘تِينانت من قبل، والآن بول، لماذا إذا سألتُ أي سؤال، يكون الظنّ فورًا أنّ وراءه امرأة؟’
لكنه لم يحر جوابًا، لأنّ الأمر – في هذه المرّة – كان كلام بول حقيقة
التعليقات لهذا الفصل " 8"