[ولكن الحق أنّي لا أرغب في رؤية وجه السيّدة، ومن أجل ذلك أرجو ألّا تبعثي إليّ صورتك. وليس هذا من كراهيتي لكِ فأعزف عن النظر إليك، بل هو أمر يخصّني، فلا أريدك أن تحزني له. إنما…]
حدّق داميان في الحرف الأوّل ‘أنا’ الذي كتبه، ولم يسهل عليه أن يرفع عنه سنّ قلمه، حتى سال الحبر وتموّه الخط.
فقال في نفسه: ‘كيف أُبلغ لينتري هذا القول دون أن أسيء إلى خاطرها، ودون أن أظهر لها ضعف نفسي؟’
ثم شطب كلمة ‘إنما’ بالقلم شطبًا شديدًا، وأتمّ كتابة الرسالة.
“على أني، إن اتفق لي يومًا أن أزورك، فهل ترينني وجهكِ آنذاك؟”
وما إن خطّ هذه الجملة حتى ضرب وجهه بكفّه.
‘تبًّا! يا تينانت، لقد نسيت وصيتك، وأطلقت وعدًا كهذا. اعذرني، غير أنّي لن أموت. ولأكون صريحًا، فإني لا أضمر في نفسي الوفاء بهذا الوعد أصلًا.’
وتردد داميان في أن يستبدل الورقة بأخرى، ثم رأى أن يتركها على حالها. ‘فما هو بوعد ذي شأن، ولا أنا بعازم على تنفيذه، فلا ضير من إبقائه.’
[وأستميحك عذرًا، فإني كذلك لا أستطيع إرسال صورتي إليك. وليس ذلك خوفًا على الأمن، وإنما لأنني جنديّ لا يعلم متى يدركه الموت. فما الخير في أن تحتفظي بصورة رجل كهذا؟
إني أخشى أن تألفيني وتأنسي بي. ولأكون صريحًا، فليتك لا تنتظرين رسائلي. فإن انقطعت عنك رسالتي، فذاك أني قد قُتلت في المعركة. ولست أحب أن أراك تنتظرين رسالة رجل قد قُتل، انتظارًا لا نهاية له. فلذلك أريد أن أقتصر معك على أحاديث عابرة، وشؤون تافهة صغيرة.
وأحسب أنه لم يكن ينبغي لي أن أختار رسالة السيّدة من بين الرسائل. كان الأجدر أن يأخذها جندي آخر.
حرر في الرابع والعشرين من أيلول سنة 1878.
الملازم ماكورد، الذي يعجز عن احتمال فضولك]
كان داميان في ذلك اليوم يجد مشقة عظيمة في كتابة الرسائل. وبعد أن أرسلها وهو منهك، عزم أن ينساها زمنًا، لكن الرد الذي كان يستغرق وصوله في العادة أسبوعين، جاءه على غير العادة بعد تسعة أيام فقط.
وما إن فض الظرف وهو يطرف بعينيه، حتى فاح منه ذلك العطر المألوف. ثم تلقى داميان غضب لِنْتري الجارف مواجهة بلا حائل.
[إلى حضرة صاحب الجلالة ملك الحمقى الأوحد، الملازم ماكورد.
لقد نطقت بأغبى ما سمعتُه في حياتي. أما قولك إنك لا ترغب في رؤية صورتي، فقد بدا لي أن وراءه سببًا لا يُقال، فقبلته وتفهّمته. (ألعل لكَ خطيبة؟ فإن يكن، فقد أسأتُ إليك حقًّا.)
لكنني، إذ سمعت قولك، أدركت أنك حقًّا في حرب قد يُقتل فيها المرء في أي ساعة. فإذا كان الأمر كذلك، فأنا أريد أن أبادلك أكثر ما يمكن من الحديث قبل موتك. إني مرتاحة لك، ويعجبني تبادل الرسائل معك، فهو أمر يبهجني كثيرًا. ولهذا سأبعث جميع رسائلي القادمة بالبريد العاجل الدولي. وأرجو أن تفعل مثلي. وإن شق عليك ثمن الإرسال، فأرسلها على نفقتي عند الاستلام، ولا ضير.
وأما قولك إن الاحتفاظ بصورة رجل قد يموت لا خير فيه، فأي حماقة أفظع من هذه؟!
لقد ماتت أمي وأنا صغيرة، وما بقي لي منها إلا أشياء قليلة وصور معدودة. وأنا اليوم إذا اشتقت إليها نظرت في صورها أستحضر ذكراها. ولو لم تكن لدي تلك الصور، لكنت قد عشت أتعس اللحظات وأنا أرى وجهها يتلاشى في ذاكرتي شيئًا فشيئًا.
وإنه ليؤلم القلب، لكن الفرق بين أن أستطيع رؤية وجه عزيز في صورة، وبين أن تذوي العاطفة حتى يبهت الوجه في الذهن، فرق عظيم. وإن كان النسيان قد يرفع عن المرء بعض العذاب، ففي أحوال كثيرة يكون النسيان نفسه هو أشد أسباب العذاب.
ولذلك، حتى لو متَّ ولم تبعث إلي ردًّا، فسوف أحتمل ألم الانتظار بأن أنظر إلى صورتك. فإن كنت لا تريد صورتي فلن أرسلها، ولكن أسرع فأعطني صورتك. أنا لا بد أن أعرف هيئتك. وإلا، فربما وجدتني في الأسبوع المقبل أركب القطار إلى ليف ومعي آلة تصوير لألتقط لك صورة بنفسي.
نعم، لأرى تلك الطلة بعيني وأوثّقها.
وأما قولك ألا أتعلّق بك، فاعذرني، فقد فات الأوان. فمنذ تلقيت رسالتك تلك وأنا أسهر الليل قلقًا عليك. وإن متَّ، فاعلم أني سأحزن وأبكي بكاء مرًّا. فإذا لم تكن تريد أن ترى ذلك، فلا تَقتلْك الحرب أبدًا!]
وكان داميان، كلما قرأ سطرًا، ازداد انكماش كتفيه شيئًا فشيئًا، وهو لا يعرف وجه لينْتري ولا صوتها، لكنه شعر بحدّة عتبها كأنها سقطت على أذنه سقوط السهام.
كان خطُّها – الذي كان في العادة مستديرًا منسّقًا حسن الطلة – قد بدا اليوم خشنًا، كأنّ الغضب هو الذي ساق القلم، وآثار الاندفاع بادية فيه. وفي بعض المواضع كأنّها أوغلت في الضغط على سنّ القلم حتى تموّج الورق نفسه.
وكان قد ظنّها – وإن كانت مشاكسة – سيّدةً أرستقراطية طيّبة الطبع، صافية القلب، فإذا بها تملك لسانًا يرسل مثل هذا اللوم العنيف! أما أن تُلقّبني (جلالتك)… فذلك ما لم يخطر لي على بال.
[ولكن في رسالتك موضعًا يعجبني. ألعلّك تنوي يومًا أن تأتيني؟ إن جئتني حقًّا فسأستقبلك بفرح بالغ ورضًا تام. حسنٌ إذًا، لترَ وجهي حينها، فاعمد إلى لقائي سالمًا. غير أنّي – لست مثلك في طول الصبر – فلا بدّ لي أن أظفر بالصورة قبل ذلك.]
‘ما أحرصكِ وأشدّ ملازمتكِ، يا سيّدتي لينتري…’
“وأما أمر المنديل، فقد أصبتَ في ظنّك. لقد كنت أهيّئه لك من قبل، حتى إذا جاءت رسالتك تلك وجدتُه مهيأً. وأما العطر الذي رشيته عليه، فهو عطري الذي أتعطّر به كلما خرجت للنزهة، يبتدئ برائحة زهرة الخزامي والبَرْغاموت، ثم يتلوهما عبق الورد والفَاوْنِيا، ويختم بعطر المسك الأبيض*.]
موروها. صورهم كلهم نهاية الفصل في التيليجرام.
ولم يكن داميان يعرف أسماء الأزهار ولا يميّز شذاها، لكنه حدس أنّها تريد القول إنه مزيج من روائح الزهر المتنوعة، فترك الأمر عند ذلك.
[ألا تحسّ كأنك في وسط بستان زاهر؟ لقد خشيت أن يضمحل العطر في أثناء الطريق، فأفرغت ثلث قارورة العطر في المنديل. ولهذا صار ورق التغليف رطبًا بعض الشيء. فإن أردت مناديل أخرى معطّرة، فقل، أرسلها إليك ما شئت، ولكن لا تدّخر المنديل في غسل يديك حتى تتقاطر عليه المياه.
حرر في الثلاثين من أيلول سنة 1878.
من لِينْتري، التي تنتظر صورة جلالتكم.
“ملحق: أبعث إليك – عوضًا عن صورتي – صور ‘تيمو’ والجراء.”]
فلما بلغ داميان تلك الجملة، مدّ يده إلى داخل الظرف، فإذا فيه صورة: أُمّ من فصيلة السَّبَانِيَل* تحوط جراءها الصغار المتقافزين وقد اجتمعوا حولها.
موروها. آخر الفصل نسخة التيليجرام.
فما لبث قلبه – الذي كان مشدودًا طوال قراءته الرسالة – أن لان قليلًا.
‘إن لم اُسارع إلى الردّ، فقد تقتلني لينتري بكلماتها قبل أن تفعل رصاصات العدو’
فقبض على القلم على عجل.
[إلى سيّدتي لينتري، التي تُحسن القول كما يحسنه معلّمو المدارس الصارمون:
أستهلّ بالاعتذار، إذ لو لم أعتذر، خُيّل إليّ أنك ستعتلين القطار إليّ حقًّا. ما كنت أظنّ أنك ستغضبين إلى هذا الحد. وليس لي خطيبة. وأمّا امتناعي عن قبول صورتك، فسببه غير ما تظنين. لكن ما كنت أحسب أنك ستجعلين حياتك رهينة لصورة!
إنّ خوفي عليك أمرٌ صادق، وقولي إني أكره أن تتأذّى نفسك من أجلي قولٌ حق. وأما خوفي من أن يكون جوابي الآتي جوابًا أخيرًا لا يتبعه ردّ، فذلك هاجس لا أظنّك تستطيعين نزعه من قلبي. وليتك تعلمين أنّني أقلق عليك كما تقلقين عليّ، بل أكثر.]
ثم خطر له فجأة أنّه لو مات الآن لما كان في الأمر بأس؛ فقد صار في الدنيا من يذرف عليه الدمع إن قُتل. ولِينتري لا شكّ ستبكيه. كان ينبغي أن يفرحه هذا… ولكن…
التعليقات لهذا الفصل " 7"