كان داميان يجد في رسائل لينتري بقدر ما يُسرّ، بقدر ما يُثقل صدره ويزيده عِبئاً.
فلذلك قال في نفسه: ‘هنا ينبغي أن أقف. قبل أن يفوت الأوان يجب أن أضع حدًّا للأمر.’
[ثم إنّي أبعثها في البريد العاجل، غير أنّه يخيل إليّ أنّ زمن وصول الرسائل قد أخذ يطول يوماً بعد يوم. أتُراني أوهَم نفسي؟ لا، ما قصدت إزعاجك، فأنت لا شك مشغول بما هو أعظم. لكنّ الحزن يغمرني بغير اختيارٍ منّي، فما أنا إلا فتاة في ربيع العمر، رقيقة الطبع. فاصبر عليّ ببعض هذه الشكاية.]
كتبت لينتري هذا الكلام على سبيل المزاح وبأسلوب لطيف، غير أنّ داميان ردّد عبارتها في ذهنه مراراً، يتأمّلها بجدّ.
[احفظ نفسك دائماً، وليكن لك في العام الجديد حظّ و السعادة نشوة أنتصار
في آخر أيّام سنة 1878، في السابع والعشرين من ديسمبر.
تكتب إليك لينتري.]
قبض دلميان على الرسالة، فطواها بعنف حتى صارت كرة، ثم رفع يده ليلقي بها بعيداً، لكنه ما لبث أن أوهن ساعده وأنزلها ببطء، فسقطت من كفّه، وتدحرجت على الأرض.
هنالك عزم داميان ألا يبعث تهنئة بالعام الجديد إلى لينتري.
—
[إلى صديقي القريب، الملازم ماكورد.
مضى نصف شهر منذ بعثتُ رسالتي الأخيرة، ولم يصلني بعدُ جوابك. أترى وقع خلل في إيصالها؟ أم ألمّ بك أمرٌ عظيم؟ ليت الأمر الأول هو الصواب! لم أتلقَّ بعدُ تهنئة العام الجديد منك، وأخشى أن يمضي الزمن حتى يصير الوقت حرجاً لا يُسمّى معه العام جديداً.
في الرابع عشر من كانون الثاني سنة 1879.
المشغولة بك وبالغة القلق عليك، لينتري.]
[إلى سيّدي الملازم ماكورد الذي يجعل قلبي مضطرباً ببطء جوابه.
لقد ولّت الأيّام حتى بلغني وقتاً لا يليق أن نسمّيه عاماً جديداً. ها هو فبراير يطرق الباب. وإذ ذاك لم أظفر بعدُ بردّك، فيزداد خوفي. أيكون العنوان الذي بعثتُ عليه رسائلي خطأ؟ أم خرجت من معسكرك بأمر نقلٍ إلى مكان آخر؟ فهل حال ذلك دون وصول كتابي إليك، حتى تظنّ أنني مللتُ مراسلتك فأهملتَ الردّ؟ فإذا عزفتَ عن الكتابة متأثراً بوهمي، فتلك كارثة عظيمة!
لكنّ الأمر يظل عجيباً، فإنّك لو تحوّلت إلى موضع آخر لأعلمتني بعنوانك الجديد، إذ أنت من يحرص على ذلك.
فأنت بخير، أليس كذلك؟ لم يُصبك مكروه، أليس كذلك؟ بالله أرسل إليّ جواباً
في التاسع والعشرين من كانون الثاني سنة 1879.
المنشغلة بك والمستغرقة في الهمّ عليك، لينتري.]
[إلى الملازم ماكورد الذي لا أدري أحيّ هو أم ميت.
مولاي، أأنت حيّ؟ أيكون قد أُصبت في ساحة القتال؟ لو كانت يداك سليمتين وأنت مع ذلك لا ترسل إليّ رسالة، فإني سأركب القطار إلى ليف بنفسي! أسرع فأبعث إليّ كتاباً.
في السادس عشر من شباط سنة 1879.
التي اعتراها شيء من الغضب، لينتري.]
—
“الملازم ستيرن، الرسائل إن لم تطلبها بنفسك في حينها فستُترك مكدّسة.”
كان بول قد دخل على داميان في خيمته، فوجده قد لفّ جسده بالغطاء وأخذ يتناول طعام الجيش الجاف. فجاءه بول بحزمة رسائل مدوّرة على هيئة أسطوانة، وأخذ يضغط بها على صدغيه من الصداع.
حرّك داميان عينيه نحوها قليلاً ثم صرف وجهه عنها.
“ليست لي. إنها للملازم ماكورد.”
“وأنا أعلم علم اليقين أنّك تستعمل اسم ماكورد قناعاً لمراسلاتك! فكيف تنكر؟”
“وكيف عرفت؟”
“أفلا تعلم أن كل رسالة تمرّ عليّ فأفتشها وأقرؤها؟ أفتظنّ أن ذلك يخفى عليّ؟”
فسكت داميان قليلاً وهو يمضغ الطعام، حتى إذا ابتلع ما في فمه قال: “لستُ الآن ماكورد.”
“ما هذا الكلام؟”
“انتهى الأمر. وعلى ذكره، فبلّغ من يعنيه الأمر أن يُتلف كل ما يأتي باسم الملازم ماكورد.”
نظر بول إلى الرسائل في يده، ثم إلى داميان.
“إذن قطعت المراسلة؟”
“نعم.”
“لِمَ؟”
“سئمتها.”
“هممم…”
بدت على وجه بول حيرة، غير أنّ ملامح داميان لم تتغير. وما زال بول يمدّ إليه الرسائل، فمدّ داميان يده بتثاقل وأخذها، ثم ألقاها مباشرة في النار التي أوقدها ليسخّن عليها طعامه.
فصاح بول: “ويحك!”
“ما بالك؟”
“على الأقل اقرأها عرفاناً لمرسلها.”
“وما الحاجة؟ لن أردّ عليه.”
“أفلا يساورك فضول لما كتب؟ لِمَ تحرقها إذن؟”
“أيعني الفضول شيئاً؟ لقد عزمت ألا أهتمّ. حتى ما تلقيته من رسائل سالفة قد أحرقته.”
“أدخلتَ في شجار معها؟”
“لا. لكنّي حقّاً قد مللت.”
هزّ بول رأسه يائساً وقال: “أتراك بخير؟”
“وما الذي يُسوءني؟”
“لعلّك على حق.”
ظلّ بول يرقب الرسالة وهي تتحوّل رماداً، في أسى، بينما داميان لم يُعرها التفاتة واحدة.
فقال داميان محوّلاً الكلام بجلاء: “دعنا من هذا. غداً العملية. أترانا كتيبة كافية؟”
نظر بول إليه بوجه متجهّم.
“ما أريد أن أزجّ برجالي في مهلكة. أطالب بتعزيز.”
“هذا طلبك للمرّة الثالثة، وجوابي هو ذاته: لا تعزيز.”
قال داميان بحدّة: “لِمَ؟ قيل لنا إنها عملية تضليل، فإذا هي في حقيقتها فخّ، نكون نحن الطعم، فإن هلكنا أو عشنا، فالغاية أن يُباغت العدو من الخلف. لكنّ العدد لا يكفي، والواضح أن الخطة تُلقي بنا إلى التهلكة.”
“لم يقل أحد إنكم تُتركون للهلاك. قيل لكم: انسحبوا إلى الموضع الآمن وانتظروا القصف. فالمعركة ستُحسم بالقذائف بعد أن يُطوَّق العدو. إن سارت الخطة كما ينبغي فلن تُبادوا. لسنا نضحّي بكم.”
لكن بول لم يُبدِ أي نية لتغيير القرار. فغيّر داميان سؤاله:
“لِمَ اخترتَ كتيبتي دون غيرها؟ لسنا أصلح من سواها. فما السبب؟”
نظر بول إليه نظرة صارمة عسكرية، فابتسم داميان بسخرية وقال: “ألأنّي فيها؟”
“ما الذي ترمي إليه؟”
“إن سُئلتَ: أيّ جنديٍّ أنسب لأن يُقتل، فلن يقع اختيارك إلا عليّ.”
فأمسك بول بياقته ورفعه قائلاً: “أعِد كلامك!”
فضحك داميان وقال: “لو متُّ لفرح الماركيز جيسكا. غير أنّي قد عشتُ عامين صامداً، فلا شك أن صدره يشتعل غيظاً. وها أنت تُلقيني في عملية انتحارية، فإن متُّ، لم يلومك أحد!”
فصاح بول غاضباً: “أتعلم ما الذي تقول يا ملازم؟”
قال داميان: “إنّي لا أثق بك. فأنت من آل جيسكا. تقول إنك ابن عمٍّ قريب؟ هراء! تبقى عيناً للماركيز.”
قال بول: “لن أحتمل مزيداً من الإهانة!”
قال داميان: “فامنحني التعزيز. لا أريد لرجالي أن يموتوا.”
حدّق فيه داميان بعينين معتمتين، فردّ بول النظر حتى أطلق لسانه بغيظ وقال: “إنّما اخترتُ كتيبتك ثقةً بقدرتك. لقد نلت وسامين ورقيتَ سريعاً بفضل كفاءتك.”
قال داميان: “تلك كفاءتي وحدي، لا كفاءة جنودي.”
قال بول: “قدرة الجند مرهونة بقدرة قائدهم.”
ثم حرّك عنقه يمنة ويسرة حتى طقطق عظامه وتنهد قائلاً: “سأعدّ ما قلته قبل قليل كأنّي لم أسمعه، لكن إياك أن تكرّره ثانية، وإلا حكمت عليك بعقوبة فورية.”
صرف داميان بصره عنه، وهو يعلم أنّه إنما يفتعل الخصومة ليفرّغ غيظه، وربما ليستدرّ فرصة للخروج من العملية أو طلب التعزيز.
قال بول بصرامة عسكرية: “ومهما قلت، فلن يكون ثمّة تعزيز. هذا أمر.”
فعضّ داميان على شفته.
—
أخونا متغاظ من نفسه عشان الرسائل وبيفش غله في بول المسكين.
التعليقات لهذا الفصل " 12"