هذه الرسالة لعلّها تكون آخر ما أبعث إليك قبل أن يطوي العام صفحته. فما هي إلا أيام قليلة حتى يحلّ كانون الثاني/ياناير. كيف تمضي أيامك في أواخر السنة؟]
‘وكيف تمضيها؟ إنما اقضيها بين زخّ الرصاص ودويّ القذائف، سائلاً عن أحوال والأعداء!’
أدخل داميان يده المصابة بقضمة الصقيع في ماءٍ فاتر، فانساب من فيه أنينٌ مبحوح. كان الألم فوق ما قدّره، ولولا مسكّنٌ سقاه الطبيب العسكري لما احتمله.
وكانت يده في حالٍ لا تمكّنه من إمساك القلم، ومع ذلك كان في ضيق، إذ لا بدّ أن يبعث إلى لينتري رسالة تهنئة بالعام الجديد.
[كيف كان عامك المنصرم؟ …]
ثم توقّف. ‘أنُسأل رجلٌ في أتون الحرب مثل هذا السؤال؟’
كُتب بعدها:[لقد عانيت كثيراً طوال العام. وكيف تعزم أن تقضي العام المقبل؟ إن كنتَ ستظلّ باقياً في ساح الوغى، فذلك مما يحزنني.
لقد سمعت أنّ جنديَّ إستاريكا إذا أتمّ عامين في الجبهة، جاز له أن يطلب التسريح متى شاء. أليس كذلك، يا سيادة الملازم؟ أما وقد أوشكت أن تطوي عامك الثاني، أفلا يحقّ لك الانصراف؟]
‘أهكذا جرى الزمان؟ بلى، فإذا أقبل العام الجديد كنتُ قد بلغت العام الثالث من مشاركتي. وفيما بين ذلك، قد تقلّدت رتبة الملازم… داميان ستيرن، لقد صرتَ صاحب جاه.’
وبعد هنيهة أخرج يده من الماء، فمسحها سريعاً، والقطرات تتساقط من أنامله. ما يزال الألم شديداً، وجلده متلوّن بزرقة قاتمة، لكنه صار ألين مما كان.
ناولَه الطبيب العسكري قفّازاً من صوف الماعز وقال بحزم: “إيّاك أن تستعمل يدك هذا اليوم.”
فابتسم داميان وقال ساخرًا: “لو خُيّرتُ بين قطع الرأس وقطع الأصابع، لاخترتُ الثانية طبعاً.”
قال الطبيب وقد هزّ رأسه: “إذا قلتَ ذلك فما عساني أقول؟ الأمر إليك، إن أردت أن تستعمل يدك أو تكفّ عنها. لكني لا أدري: مع شدّة الألم، هل تقدر أن تضغط على الزناد أصلاً؟”
“هُمم…”
كان طعم المرارة يملأ فمه.
كان هذا الشتاء الثاني الذي يقضيه في ريفرو، شمال إستاريكا، أشدّ قسوة من سابقه. في العام الماضي كانت الإمدادات أوفر، أما وقد طال أمد الحرب فقد عزّ الرجال والزاد معاً، حتى صار المرء لا يقوى على رعاية بدنه.
“أترى الألم يشتدّ كثيراً؟”
“ألستَ تشعر به الآن مع أنّك تناولت المسكّن؟ فإذا زال مفعوله فهو أوخم وأوجع.”
“بهذا الألم لا أستطيع القتال. صف لي المورفين.”
فضربه الطبيب بخفّة على رأسه بدفتر السجلات قائلاً: “أما وجدتم غير المورفين؟ ليس في ألسنتكم دواء سواه؟ ذاك دواء لا يُعطى إلا للمصابين إصابة عظيمة! أما أصابعك المثلوجة فيكفيها المسكّن العادي.”
“لكن ألا ينبغي أن أضغط على الزناد؟” قالها متوسّلاً وهو يئنّ.
فأجابه الطبيب بصلابة: “شدّد عزيمتك واضغطه بالإرادة. المورفين، إن أكثرْت منه، صرتَ جسداً لا يجدي فيه نفعاً، فاجعله آخر دواء.”
موروها. المورفين مسكن قوي ويعد من المواد الادمانية
خرج داميان من خيمة الإسعاف مكرهاً. كان الألم يعتصر أصابعه، لكنه ما كان ليستطيع الامتناع عن الرجوع إلى الخندق. فما في الحرب فسحة للتهاون، ولو في أواخر السنة.
‘فلعلّ كلا الفريقين يترقّب غفلة الآخر بحجّة العام الجديد.’
كان السكون المخيّم لعلّه أشبه بدخول قلب الإعصار.
وكان الثلج يتساقط، يتراكم أبيض على قبعته العسكرية. وما إن لامست يداه الباردة هواء الخارج بعد الدفء حتى عاودته القشعريرة. فأخرج رسالة لينتري وأخذ يقرأ بقيّتها:
“أما تنوي التسريح من الخدمة؟”
ارتجف جفنه.
‘لقد دخلتُ الجيش قبل أن أتعلم كيف أعيش بمفردي. إن تركتُ الجيش، فبأيّ وجهٍ أعيش؟ هذه حياتي منذ ثلاث سنين، وما عرفتُ غيرها. أفأخرج إلى عالمٍ لا أعلم له نهجاً؟ أم أثبت هنا وقد بلغت رتبة الملازم؟’
وكانت القيادة تبشّر بانقضاء الحرب بعد أشهر قلائل، أو بعد عامٍ على أبعد تقدير. لكن المشكلة في النصر والخذلان؛ إذ كان الفريقان يتبادلان الغلبة، فلا يُرى من الأمر مآل.
‘أما أنا، فلستُ من أهل ليف. لو انهزمنا وعدتُ إلى وطني، فلن أخسر كثيراً. لكن… إن سللت سيفك، فلابدّ أن تصيب به شيئاً. ومن بدأ قتالاً وجب عليه أن يتمّه بالنصر. فلِمَ لا أشهد ختام هذه الحرب؟ لعلّي أرفع راية الغلبة بيدي، فأذوق لأول مرة طعم إنجازٍ حقّقته. ولكن… لا بدّ أن أنجو أولاً.’
‘أأنا واثق من النجاة؟ كلا. إن نجاتي حتى الآن ما كانت إلا بالحظ. ففي المعركة الرصاص لا يُدرى من أين يأتي، والنجاة ليست إلا قدراً.’
ومع ذلك، ما كان داميان ليستطيع ترك الجبهة، كأن روح الحرب تقيّده إليها.
[وما دعوتك إلى الفرار الجبان من ساحة الوغى. إنما أردتُ أن تعلم أنّ قلبي يتلوّى قلقاً عليك.]
فغارت عينا داميان في سكونٍ عميق. لقد كان يدرك أنّ لينتري تنسج القلق عليه، وتنتظر رداً منه دوماً. خمسَة أشهرٍ مرّت منذ آخر جوابٍ وصلها… أو قل: ‘مجرد خمسة أشهر.’
هي قالت إنها لا تعني الفرار… لكنه لم يستطع إلا أن يسمعها كنداء بالانسحاب.
‘لقد بلغتُ هذا الحدّ، فكيف لا أرى المنتهى؟ ليتني أعلم ما الذي سأراه إن عاندتُ الموت وظللتُ حيّاً. أيجدر بي أن أتوقف الآن؟ كلا. لا أهرب من القتال. حتى لو كان المصير موتاً حتمياً…’
‘فلعلّي ميتٌ هنا.’
هكذا فكّر وهو يفرك يديه وقد عاودها البرد بعد دفئ الماء.
[إني أرجو أن تكون في مأمن.]
كانت كلماتها قصيرة، لكن خطّها المستدير المهذّب ينضح قلقاً صريحاً. طالما كان داميان في الجبهة، لم يكن لها إلا أن تعيش على هذا القلق.
ومع ذلك، ما كانت لتفهمه أبداً. فهو من جهةٍ يكره أن يورثها هماً بسببه، ومن جهةٍ أخرى لن ينكف باقياً في الحرب.
لقد كان بلا أمنية ولا غاية، فإذا به يجد رغبة جديدة: أن يشهد خاتمة هذه الحرب. ولو بالموت.
‘لا أرغب في الموت بحدّ ذاته، غير أنّ موتي هنا قد يكون أكرم موتٍ في حياتي.’
فإن لم يُقدَّر له أن يملك شيئاً، ولا أن يطلب شيئاً، فما بقي له غير هذا.
بهذا وحده يوقن أن اختياره ساحة الوغى مسرحاً له، إذ يموت ميتةً يُقال عنها إنها في سبيل الحق.
فما كان له إذن عذرٌ يبرّر الرحيل، بل أعذارٌ تبقيه. وما كان يريد إلا أن يعرف: ماذا ينتظره عند النهاية؟ أيكون موته، أم خاتمة الحرب؟
وإن لم يعرف هنا الجواب، فلن يعرف أبداً كيف يعيش بعد ذلك.
‘فدعكِ من القلق عليّ…’
ووضع يده على جيب صدره الأيسر حيث يحفظ منديلها، ومسح عليه. ‘القلق…’
فاشتدّ الألم في أصابعه.
[إني لم أنسَ وعدكِ أن تأتيني.]
وفي لحظة قراءتها تجمّد الدم في عروقه، واحترقت أصابعه وجمد ذهنه. وغمره شعور لا اسم له.
‘الآن أدركتُ. يجب أن تكون هذه آخر رسالة أبعثها إليها. الآن فهمتُ… ولكن بعد فوات الأوان.’
إن كان قد خطر بباله، ولو لحظة، أن تكون هذه الجبهة قبره، فما كان ينبغي له أن يسمح لمثل هذا الوعد أن يُقال.
‘بل لعلّ الأولى… ألا تفكّر بي أصلاً.’
لم يعد يدري أكان الألم في أصابعه أم في صدره.
وتمنى لو أنّ لينتري تمحو من ذهنها ذكراه كلها: الرسائل، المودّة، الصلة التي نشأت بينهما بسرعة مع أنّهما لم يلتقيا وجهاً لوجه.
تمنى أن يُمحى كل ذلك، فلا تعود تحمل همّه، ولا تنتظره، بل تعود فتاة قروية بريئة لا تعرف إلا الصفاء والجمال.
‘لشدّ ما كان خطأً أن أبدأ بهذه المراسلة. كان الأجدر بي أن أدعها تظنني قد هلكت قبل أن يصلها ردّ، ولا أكتب لها شيئاً.’
التعليقات لهذا الفصل " 11"