رفعت بريسيبي رأسها ببطء، والتقت نظراتها بنظرات فينريك الذي كان يحدّق بها بهدوء.
“…….”
نظراته نحوها لم تختلف عن المعتاد. لم تظهر فيها أي مشاعر يمكن فهمها، ولا يمكن التنبؤ بما يدور في خلده، كما هو الحال دومًا.
وهذا بالضبط ما جعلها تشعر بالقلق.
خشيت أن يكون الشخص الوحيد الذي كان يواسيها داخل هذا العالم اللعين، على وشك أن يتخلى عنها أيضًا.
ما إذا كان فينريك يشعر بذلك أم لا، لم يكن واضحًا. لكنه لم يقل شيئًا. فقط خطا خطوات هادئة نحوها، ثم انحنى على ركبة واحدة أمامها، وهي جالسة على السرير، ومدّ يده بلطف ليمسك وجنتها برفق.
“لمَ هذا التعبير؟”
“…….”
“هل أُصبْتِ بأذى؟”
هزّت بريسيبي رأسها نفيًا، بدلًا من الإجابة.
“يبدو كما لو أنكِ اقترفتِ ذنبًا عظيمًا.”
وبالفعل، من بعض النواحي… كانت قد اقترفت ما يشبه الذنب.
“كيف وصلتِ إلى الغابة المحرّمة؟ كانت خطيرة جدًّا.”
“كان هناك طريق جانبي غرب القرية…”
نطقت بها بريسيبي بصوت خافت، يكاد لا يُسمع.
“لا، بل… في منزل فانيسا… في منزل والدتي، وجدت شيئًا يبدو أنه يخص والدي.”
ثم أخرجت من عباءتها شيئًا كانت تُخفيه: حرشفة من نيدهوغ، التنين.
“إنها حرشفة تنين.”
كان من المستحيل على فينريك، الذي قاتل الوحوش مرارًا، أن لا يتعرف عليها.
ضيّق عينيه وهو يحدّق فيها، وسيل من الأسئلة بدأ يتراكم في ذهنه:
ذلك الطريق الجانبي كان تحت الحراسة، فكيف تمكنت من عبوره؟ هل كان ذلك بسبب دماء الوحوش التي تجري في عروقها؟
لكنه لم يُفصح عن شيء من ذلك.
فوجه بريسيبي بدا مذنبًا للغاية، كأنها تحمل عبء العالم كله.
“سمعت أن والدتي وُجدت ذات مرة فاقدة للوعي قرب ذلك الطريق، قبل أن تصبح محظية.”
“ثم ماذا؟”
“فكرتُ أنني قد أجد خيطًا يقودني إلى شيء… إلى والدي ربما.”
فكّرت للحظة، هل من الحكمة إخبار فينريك عن فيدار؟
لكن بعد كل ما جرى، سيكون من الغباء أن تعترف بأنها تلقت المساعدة من مخلوق مريب أشبه بالوحوش.
لحسن الحظ، كان لديها حجة مناسبة حتى لتفسير وصولها إلى أعمق منطقة في الغابة:
“كما لاحظت، الوحوش لم تهاجمني، لذا لم أواجه صعوبة في الوصول.”
تمامًا كما قال هو نفسه.
“أما زيغفريد…”
لم يكن هناك مجال للهرب من هذا الموضوع.
فينريك بالتأكيد سمع بما حصل، بل هناك شهود أيضًا.
“زيغفريد…”
أرادت أن تخترع عذرًا مناسبًا… لكنها لم تستطع.
فكل الأعذار الممكنة بدت واهية، لذا انخفض صوتها، وطأطأت رأسها بصمت، تمامًا كما يليق بمذنبة حقيقية.
لكن فينريك لم يقل شيئًا.
لم يُجبها، لم يستجوبها، لم يعاتبها.
بل فقط… احتضنها بصمت.
“…….”
تجمّدت بريسيبي في مكانها للحظة من المفاجأة، لكنها لم تدفعه بعيدًا.
“على أي حال، قائد الفرسان لم يمت.”
وفي الحقيقة، حتى لو لم تكن قد فعلت شيئًا، فكان من المفترض أن يموت على يديه هو.
“وأي شخص يواجه عددًا هائلًا من الوحوش لا بد أن يُصاب بالذعر. ما حصل لا علاقة لكِ به، فلا تُحمّلي نفسك فوق طاقتك.”
وفينريك كان يعرف الحقيقة.
كان يعلم أن ما فعلته بريسيبي عندما داست يد زيغفريد لم يكن بإرادتها.
وحتى لو كان ذلك بإرادتها، لما استغرب.
لأنه كان يعلم تمامًا كم عانت في محاولاتها السابقة للنجاة من زيغفريد.
“ولأوضح نقطة قد تكون تدور ببالك… حتى لو كنتِ من نسل الوحوش، أو لو كنت الوحيدة التي لم تُهاجم، فهذا لا يُغير شيئًا بالنسبة لي.”
ربّت على ظهرها بلطف وهو يتحدث.
“ما يهمني حقًا، ليس تلك التفاصيل التافهة.”
تلك “التفاصيل التافهة” تعني أن والدها قد يكون وحشًا… أو تنينًا… وأنها ليست بشرية بالكامل.
ومع ذلك، بالنسبة لفينريك، لم يكن ذلك يستحق حتى الذكر.
وكأنه قرأ ما يدور في ذهنها، واصل كلامه بثبات:
“كما قلتُ سابقًا مرارًا، أولويتي القصوى هي سلامتكِ.”
“…….”
“طالما أنكِ لم تصابي بأذى، فهذا يكفيني… بغض النظر عما حدث.”
لو قال هذا أي من الشخصيات الخمسة الأخرى التي سبق وأن حاولت كسب قلوبهم، لكانت سخرت منهم.
كانت ستتساءل بسخرية عن هذا الكلام الذي لا يُصدَّق.
لكن… فينريك لم يكن مثلهم.
كان الوحيد الذي لطالما حماها بإخلاص، بلا شروط، وبلا مصالح.
الوَحيد الذي لم يُخيبها يومًا.
لذا… كان بإمكانها أن تصدّقه.
دون أدنى شك.
“…شكرًا لك.”
همست بريسيبي وهي تستند إلى صدره، مدفونة في دفئه.
تجمّد فينريك لثانية، لكنه، كما فعلت هي سابقًا… لم يدفعها بعيدًا.
“…….”
وجه بريسيبي، وهي تحتضن فينريك بقوة، امتلأ بمشاعر لا حصر لها.
[هل يمكن أن تعديني أنتِ أيضًا، بريسيبي؟]
[بماذا؟]
[بألا تُخفي عني شيئًا بعد الآن.]
رغم أنهما تبادلا هذا الوعد من قبل، شعرت بريسيبي بالذنب لأنها لا تزال غير قادرة على البوح بكل شيء لفينريك.
ربما لم يكن السبب فقط أنها تملك سرًا تخفيه.
بل لأنها كانت تدرك تمامًا مدى صدق فينريك معها، ومدى أهميته لديها، بقدر ما هو يقدّرها أيضًا.
ولهذا، كان احتضانه لها رغم معرفته بأنها تخفي شيئًا عنه، دافئًا جدًا… وحنونًا للغاية.
لو كان بإمكانها أن تنعم بهذه الطمأنينة، دون أن تبحث عن أي بطل آخر…
لو كان بإمكانها البقاء فقط في هذا الحضن…
ربما كان ذلك أفضل.
[يبدو أن الشائعات تنتشر كالنار، يقولون إن الدوق فينريك يحمل لكِ مشاعر مختلفة.]
في تلك اللحظة، همسة ڤيدار تسللت إلى أذنها، كأنها رياح عبرت ذاكرتها.
[ليست شائعة بلا أساس. وإلا، لما تجرأ على تحدي إرادة الإمبراطور من أجلك.]
…هل يعقل؟
هل فعلاً ما يشعر به فينريك تجاهي… هو ذاك النوع من المشاعر؟
وإن كان كذلك… ماذا عني أنا؟
“بريسيبي؟”
عندما ابتعدت بريسيبي عنه قليلًا، نظر فينريك إليها بدهشة، وكأن لا شيء ممّا تفكر فيه قد وصله.
“…….”
تأملت بريسيبي انعكاس وجهها في عينيه الحمراوين… خديها قد احمرّا قليلًا دون أن تشعر.
لكن، وماذا بعد؟
حتى وإن كانت مشاعرها حقيقية، فماذا بوسعها أن تفعل؟
في النهاية، هي ما زالت تريد الخروج من هذا العالم.
فالخروج من اللعبة هو السبيل الوحيد للعودة إلى واقعها.
لكن ذلك يعني… وداعًا أبديًا لفينريك.
فبمجرد أن تخرج، لن تراه مجددًا أبدًا.
هو ليس أكثر من شخصية لم تكن حتى ضمن النظام الرسمي للعبة.
وحتى لو لعبت اللعبة مجددًا، فلن يظهر.
لن تجده.
وحين تختفي، كيف سيكون حاله؟
هل سيعود إلى “الإعدادات الأصلية” ويكون بنفس الحنان مع بريسيبي الحقيقية؟
كما كان معها هي؟
لا تعرف. ولا يمكنها أن تعرف.
“جراحك…”
همست بريسيبي وهي تنظر إلى صدر فينريك المكشوف قليلاً تحت قميصه.
“سأقوم بمعالجتها.”
لم تكن جراحه عميقة، لكنها كثيرة بسبب قتاله المتواصل ضد الوحوش.
شعرت أنها على الأقل تريد أن تفعل شيئًا لأجله.
هذا هو الشيء الوحيد الذي تستطيع فعله الآن.
“انزع قميصك، من فضلك.”
أومأ فينريك بخفة، وخلع قميصه دون تردد.
بجانبهما كانت توجد أعشاب طبية، وماء دافئ، وضمادات — أعدّتها ماليّا على عجل، وهي في حالة ذهول.
مدّت بريسيبي يدها إلى منشفة نظيفة، بلّلتها في الماء الدافئ، وبدأت تمسح بها جسده بلطف.
كلما لامست يدها جلده، كان فينريك يعض شفتيه خفيفًا، وكأنه يحبس ردة فعله.
لكنها لم تلاحظ ذلك، منشغلة كليًا بتنظيفه.
—
وكأن مجزرة الوحوش لم تقع هناك… الغابة المحرمة أصبحت صامتة تمامًا.
“…….”
خطوات فيدار كانت خفيفة وهو يتجول فيها.
مرّ بجثث الفرسان، وبقايا الوحوش، وبِرَك الدم، وكأنها مجرد أشياء لا تهمه.
وكانت وجهته… إلى مكان لا حياة فيه، لا صوت، لا وجود بشري.
إلى مغارة الصمت.
الناس كانوا على حق.
كان ملك الوحوش، في الماضي، يعيش في غرب الغابة المحرّمة.
وإن كان ذلك زمنًا قد ولّى.
“…….”
مدّ فيدار أصابعه البيضاء الطويلة على جدار المغارة، والتي كانت مليئة بعلامات غير مفهومة.
كانت علامات لعدد لا يُحصى من الأيام، والأسابيع، وربما حتى القرون…
كأن سجينًا موجود ليحسب زمن سجنه.
وكان ذلك السجين… هو نفسه.
“حتى بعد كل هذا الوقت… لا شيء تغيّر.”
تغيّر إلى حد السخرية.
تمتم فيدار وهو يحدّق في الضباب الكثيف داخل المغارة، ثم ابتسم بسخرية باردة.
كان يحدّق في بيته القديم.
ذاك المكان الذي قضى فيه آلاف السنين.
لقد عاد إليه أخيرًا.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 70"