حتى أن وهْمًا غريبًا تسلل إليها، وكأنها لم تبرح بعد الدورة السابقة، وظلت عالقة فيها بلا مخرج…
ومع كل خطوة خطتها برفقة فنريك، كانت تُسمع أحيانًا أصوات أشبه بعواء الوحوش. لكن تلك الكائنات لم تُبدِ نفسها كما كانت تفعل في الماضي.
ولم يطل الأمر حتى وصلت بريسيبي مع فنريك إلى أعمق نقطة في الغابة المحرّمة.
أي إلى الشمال منها.
إلى حبل السُّرّة للوحوش.
لم تكن قد خططت أصلًا للمجيء إلى هذا المكان، لكنه كان أمرًا لا مفر منه. فالممر الذي يصل بيفروست بالغابة المحرّمة لم يكن يوجد إلا في هذه الجهة.
“…….”
تقدمت بريسيبي حتى حافة الجرف، وألقت نظرة إلى الأسفل.
لكن “حبل السُّرّة للوحوش” لم يعد يشبه ما رأته آخر مرة.
لم يعد يغلي كبركان يفيض بالحمم، ولم تعد شظايا الوحوش تُخلق باستمرار من مستنقع غامض كما رأته في أول لقاء لها معه.
كان محض هوّة سحيقة، لا قاع لها ولا نهاية. كل ما قابلها هناك كان ضبابًا شاحبًا يلفّ القاع في صمت.
“…….”
أما فنريك، فلم ينطق بكلمة. كل ما فعله هو أن يثبت بصره على ملامح بريسيبي وهي تحدق إلى أسفل الجرف.
…… تُرى، ما الذي يجول في خاطرها الآن؟
لقد أدرك فنريك الحقيقة. أن من خلق فيدار لم يكن أحدًا غير بريسيبي نفسها.
فرؤية ذلك الفيدار، وهو يتلاشى غارقًا في حقدٍ لا ينطفئ، لا بد أنها تركت في قلبها أثرًا لا يُمحى.
لكنه لم يجرؤ على افتراض مشاعرها. اكتفى بمحاولة استشفافها في صمت، بينما يشد على يدها أكثر.
“…….”
انعكست خيوط الضباب الشاحب في عينيها البنفسجيتين.
[الناس عادوا يتهامسون من جديد: لعل ملك الشياطين لم يكن موجودًا أصلًا.]
بغتةً تذكرت حديث فنريك لها عند الطريق الذي يصل إلى الغابة المحرّمة.
[أو ربما… بعدما كبَحه محارب أتيلّويا، لا يزال عاجزًا عن الاستيقاظ حتى الآن.]
وخلال الرحلة بأكملها، لم تفارقها هذه الفكرة:
هل اختفى فيدار حقًا؟
هل لم يعد موجودًا في هذا العالم؟
(لا……)
لم يختفِ.
كان في داخلها يقينٌ غريبٌ بأنه لم يندثر.
لو كان قد اختفى فعلًا، لزال من هذا العالم بأسره مفهوم “ملك الشياطين”.
إذن، فغياب فيدار، بخلاف بقية الشخصيات، لا بد أن له سببًا آخر…
[……ماذا كنتَ تريد أن تفعل؟ حين أعود، ماذا كنتَ ترجُو أن نفعل معًا؟ لا بد أن هناك شيئًا تمنّيتَه.]
[لا أعلم.]
“…….”
[لكن… لو اخترتِني، لو أحببتِني… كنتُ أؤمن أنكِ ستفهمينني. على خلاف سائر البشر. ربما كنت أبحث عن تعويضٍ لذلك الزمن الموحش. وربما كنت أريد، أخيرًا، أن أرتاح بسلام.]
انحدر صدى صوت فيدار، المبحوح والمنخفض، إلى مسامعها كأنما يهمس بها من قلب الصمت.
[……لقد تعبت كثيرًا. من هكذا حياة.]
بعد أن تلاشت قيم الإعداد، استعادت الشخصيات ذواتها الحقيقية.
وفيدار لم يكن استثناءً.
فلعل هذه المرة، أخيرًا، حقق ما كان يتوق إليه.
لعلّه أخيرًا ينعم بالراحة.
نائمًا إلى الأبد.
بانتظار أن يُطوى من ذاكرة البشر ذات يوم.
هكذا فكرت بريسيبي.
ثم……
المكان الذي اختاره ليرقد فيه رقدته الأبدية، كان بلا شك…
هو ذاك الموضع الذي تولد منه جميع الوحوش، رحمها الأول.
هنا بالتحديد.
لم يكن كهف الصمت الذي وُلد من طول الانتظار الموحش، ومن قسوة الوحدة التي التصقت بجدرانه.
[كنت أرجو أن تناديني باسمي، أن تضمّني، أن تعتذر إليّ، أن تقول إنك فهمت قلبي كله.]
فهل يا ترى، وقد نسيتَ كل المشاعر التي نسجها النظام عني، وجدتَ الآن السلام؟
أخيراً…
[برسيبي، أتمنى أن تبقي متألّمة إلى الأبد. أن تدركي أن “أنتِ” في العالم الحقيقي قد متِّ بالفعل. وأنه حتى لو حاولتِ مع استراتيجية البطل الحقيقي، فلن تتمكني من الخروج من هذا العالم. وأتمنى أيضاً… أن تنسي كل ما مضى، وتبقين تائهة بلا نهاية تبحثين عني في عالم خالٍ مني.]
لكن للأسف، لم تستطع برسيبي أن تحقق حتى آخر أمنية من أماني فيدار.
ومع ذلك، لم يكن بوسعها أن تكرهه فحسب، حتى وهو قد لعنها حتى النهاية.
ففيدار، على أي حال، كان أيضاً شظية من حياتها الماضية كيون جو-يون.
لذلك، لم يكن أمام برسيبي إلا أن ترفع دعاءً واحداً.
“… فيدار.”
نادته برفق، في قلبها، بكل حذر.
نم قرير العين.
و…
“وداعاً.”
لتدم رقدتك هادئة يا فيدار، بقدر ما تتمنى وتشتهي.
ولكي لا تكون بعد اليوم مثل يـون جو-يون القديمة، وحيداً في عزلتك.
هكذا دعت برسيبي بكل ما في قلبها من صدق.
وفجأة، سُمعت صرخة عالية من مكان بعيد. رفعت برسيبي رأسها ببطء. وهناك، بعيداً في السماء، حلّق شيء ضخم.
كان غريفون.
غريب… يشبه ريك.
“……”
ظلّت تحدّق بذلك الغريفون الكبير الذي أخذ يبتعد أكثر فأكثر، ثم نظرت لآخر مرة نحو حافة الجرف.
رغم أن سيرهما في الغابة المحرّمة أخّر الجدول الزمني أكثر مما توقعا، فإن برسيبي وفينريك عادا سالمين إلى بيفروست.
وفي وقت متأخر من المساء، صعدا إلى السفينة المتجهة إلى ألفهايم.
السفينة كانت ضخمة، فأخذت برسيبي تتأملها بدهشة. فابتسم فينريك وقال:
[الطريق إلى ألفهايم طويل جداً.]
[إلى أي حد؟]
[لنقل… على متن هذه السفينة، ستقضين على الأقل عدة أيام.]
وكما قال، كانت الرحلة طويلة بالفعل.
لكنها لم تكن مرهقة.
ففي المقصورة، إلى جوار فينريك، غرقت برسيبي في النوم العميق بلا انقطاع.
كمن أنهكته سنين طويلة من الحرمان من الراحة، وأخيراً وجد الفرصة لينزل عن كاهله الحمل الثقيل، ويأخذ أنفاسه.
هل كان ذلك بسبب شعورها بالاطمئنان وهي تبتعد نهائياً عن أتيلويـا؟ أم أن هناك سبباً آخر؟ لم تستطع أن تحدد.
أما فينريك، فلم يحاول إيقاظها أبداً، بل ظل بجوارها، يحرس نومها بهدوء.
ثم بزغ صباح أحد الأيام.
فتحت برسيبي عينيها ببطء، جفناها مثقلان بالنوم.
“……”
لم تكن قد استفاقت تماماً بعد، فأطرقت بعينين شاردتين، ترمش ببطء.
وكأنها حلمت أحلاماً كثيرة، رأت فيها كل من لن تلتقيهم مجدداً.
لكن لم يبقَ في ذهنها شيء واضح.
كل ما تتذكره أنها، كلما استيقظت لحظة بين النوم والنوم، كانت تلقائياً تغوص أكثر في حضن فينريك الدافئ.
وهناك، في صدره، كانت تغفو مجدداً.
“صباح الخير، برسيبي.”
باغتها صوته، فرفعت رأسها بتؤدة، وحدّقت في وجهه بينما لا يزال يحتضنها في تلك اللحظة.
فأجابت بابتسامة مشرقة بدلاً من الكلام.
“البقاء هكذا جميل، لكن اليوم إن غفوتِ مجدداً سيكون الأمر مزعجاً بعض الشيء.”
“هم؟ ولماذا؟”
“لأننا وصلنا إلى ألفهايم.”
“انظري.”
وأشار فينريك إلى النافذة بجوار السرير. عندها التفتت برسيبي ونظرت من خلالها.
وبعيداً هناك…
بدا الشاطئ يقترب شيئاً فشيئاً.
“واو…”
قفزت من السرير مندهشة دون أن تشعر. ثم جلست لصق النافذة، تكاد تلتصق بزجاجها.
دفعت النافذة بكل قوتها، ومدّت عنقها، تطل على الخارج.
أمواج البحر تلمع تحت أشعة الصباح. وأعلام الإمبراطورية ترفرف مزهوة مع نسمات الريح. وهناك في الأفق، مبانٍ بالغة الروعة تتلألأ بجمال لا يوصف.
عندها فقط أدركت برسيبي يقيناً أنها وصلت ألفهايم.
“يا له من جمال…”
صحيح أن أتيلويـا كانت إمبراطورية قوية وعظيمة، لكنها بدت على الدوام كئيبة، يلفها ثِقَل وحزن خفي.
أما ألفهايم، فكانت مختلفة تماماً؛ أرضاً مشرقة مضيئة، وكأن السلام لا يفارقها.
فهمت الآن لماذا قال فينريك من قبل إن من يعيش هنا، يجد السكينة.
وهي أيضاً… مع فينريك… ستجدان السلام هنا.
“أهلاً بكِ في ألفهايم، برسيبي.”
قالها فينريك هامساً، وهو يلف ذراعيه حولها من الخلف بينما كانت تجلس عند النافذة.
فابتسمت برسيبي، وأمسكت بذراعيه حول صدرها، واستندت بجسدها إليه حتى لحظة وصول السفينة إلى الميناء.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات