“جئتُ إلى هنا فقط لأصل إليك. لذا أرجوك… هذه المرة فقط، اختاريني.”
كان صوت فينريك وهو يهمس بجانب أذنها أقرب إلى التوسل منه إلى أي شيء آخر. نظرت بريسيبي إليه بملامح مذهولة، وعقلها يتقلب بالشكوك.
إذن، هل كنتُ على حق منذ البداية؟ هل فعلًا اقترب مني وهو يخفي كل شيء؟ كما فعل الآخرون جميعًا… فقط ليقيدني؟
لكن فينريك، وكأنه قرأ ما يجول في خاطرها، أسرع بالكلام:
“الذين آذيتهم… الذين سأؤذيهم… لم يكونوا سوى هم.”
“……”
“الذين قتلوك. أولئك الذين امتلكوا الحق في أن يختاروك. لذا… مهما فكرتِ بي، لن أندم. كان هذا هو طريقي الوحيد.”
“طريقك الوحيد…؟”
شعرت بريسيبي أن فمها صار جافًا كمن ابتلع الرمل دفعة واحدة، فخرج صوتها مبحوحًا متألمًا:
“فيدار قالها لي… إن قتلتُهم واحدًا تلو الآخر، وانتزعتُ من كل منهم حق البطل في أن يُختار… سأتمكن أنا أيضًا من الوصول إليك.”
“……”
“لهذا فعلتُ ما فعلت. وحتى لو عدتُ إلى الوراء، سأختار الشيء ذاته.”
حينها فقط أدركت بريسيبي سرّ العلاقة التي جمعت فيدار بالدوق. لقد كان السبب واضحًا. كلاهما كان يعرف الحقيقة منذ البداية، وفينريك هو من قبل عرض فيدار…
“……”
وبينما كانت بريسيبي غارقة في فوضى أفكارها، مدّ فينريك يده الملطخة بالدماء، ليمسح برفق على خدها. كان اللمس حنونًا كما اعتادت منه دائمًا، غير أن شيئًا غريبًا خيّم في الجو، كظلٍ ثقيل من التملك الذي أوحى لها بالخوف.
هل كان الدوق الذي عرفته يومًا… حقيقيًا؟ هل كل ما رأيته منه كان صدقًا؟
“لكن… ربما لم يكن السبب الوحيد.” نطق فينريك ببطء.
“أردتُ الانتقام.”
“……”
“من أولئك الذين عذّبوك بوحشية، وانتهكوك، وأغرقوك في الألم. أردتُ أن يذوقوا ما أذاقوك.”
تمامًا كما خُنقت بريسيبي بالسلاسل يومًا، هكذا مات أتاري هانان. وكما سُجنت بريسيبي في غرفة مظلمة، ذُبح نواه دفِرن على يد وحش محنّط. صور جثثهم التي أراها فيدار، ورسوم النهاية المروّعة التي انتهت بها حياتها بسببهما، تلاحقت أمام عينيها ككابوس حي.
أمسك فينريك يدها البيضاء الكبيرة بيده، ثم وضعها على صدره حيث ارتسم وشم أوراق الشجر.
“منذ اللحظة التي حُفرت فيها هذه الأوراق على جسدي، كان لي هدف واحد فقط.”
“……”
“أن تختاريني.”
نعم، لم يكن له سوى هذا الهدف. دائمًا، وإلى الأبد.
“لم أرد يومًا أن أربطكِ بي بالقوة، أو أقيّدكِ بالألم.”
ارتعشت عينا بريسيبي وهما تغوصان في ملامحه.
“كنتُ فقط أريد أن أضحك بجانبك… لوقت طويل جدًا. لا كأميرة بائسة منزَوعة المكانة، ولا كأسيرة في عالمٍ زائف… بل فقط كـ بريسيبي.”
“……”
“أما السبب الذي جعلني لا أبوح لك بالحقيقة منذ البداية… فكان واحدًا.”
لأنني قد أهرب؟ لأنني قد أخافه؟ أم كليهما معًا؟ ظلت بريسيبي صامتة، تنتظر ما سيقوله.
“كنتُ فقط أريد أن يزول خوفك.”
الكلمات التي تبعت لم تخطر لها على بال.
“أردتُ أن تتوقف عن الارتجاف رعبًا، وأن تتوقف معاناتك. لقد عانيتِ أكثر مما يحتمل، وتألّمتِ بما يكفي. ربما انتهى بي الأمر لأجعلكِ تعانين العكس تمامًا… لكن هذا كل ما أردته.”
“……”
“هذا هو كل شيء كنتِ تريدين معرفته.”
ابتسم فينريك ابتسامة صغيرة حزينة، وكأنها مزيج من السخرية والمرارة.
هل يندم الآن؟ لأنه لم يخبرني بالحقيقة في وقتها؟ هل كان سيتغير شيء لو فعل؟
“أنا أحبك.”
مَحا كل أثرٍ للابتسامة عن وجهه، ونظر إليها بعينين عميقتين وهو يضيف:
“حتى لو عدتُ إلى الوراء، سأفعل هذا الجنون مرة بعد مرة.”
“……”
“حتى لو اضطررتُ إلى التوسل أن تحبيني.”
في عينيه، لم يكن هناك أي أثر للكذب. تمامًا كما كان دائمًا.
وسرعان ما أدركت بريسيبي الحقيقة. حتى لو كان فينريك قد باح لها بكل شيء منذ البداية، أو أخفاه عنها كما فعل الآن… لما تغيّرت مشاعرها نحوه.
هو من ظل يراقبها بصمت طوال الوقت، حين لم تكن تعرف حتى بوجوده. هو من تألم لأجلها حين دُمِّرت روحها بعد تكرار الموت والإذلال. هو من خطط بعناية، خطوة بخطوة، وضحى بحياته لينقذها أخيرًا.
…نعم، كان صحيحًا أن فينريك هو من قتل أتاري هانان ونواه دفِرن. ولو أنكرت خوفها منه، لكان ذلك كذبة صارخة. لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أيضًا، أن كل ما فعله كان بدافع إسعادها.
لم يكن في نيتها أن تلومه على ذلك، ولا أن تسأله لماذا قتلتهم؟
كل ما كان يرهقها… هو الخوف.
خوفٌ من أن تكون الأفعال الحنونة التي أغدقها عليها، مثل كلماته اليوم، مجرد واجهة كاذبة… مثل السر الذي أخفاه عنها منذ البداية.
لكنها كانت تعرف في قرارة نفسها.
لو كان فينريك مثل الآخرين فعلًا، لو كان يريد تقييدها بالقوة، أو إغراقها في العار والألم… لما كان هو، فينريك.
ذلك كان أمرًا في غاية السهولة بالنسبة لفينريك منذ زمن بعيد. منذ اللحظة التي خرج فيها من القصر الإمبراطوري، وحتى اللحظة التي عاد فيها إلى قصره الخاص. ومع ذلك، لم يفعلها. لم يمد يده ليجبرها أو يقيّدها كما كان قادرًا على فعل ذلك متى شاء.
بدلًا من ذلك، اختار طريقًا آخر. تحدّى الإمبراطور بنفسه، ووضع حياته على المحك فقط ليحميها، بل وحتى لم يتردد لحظة في أن يقطع ذراعه بيده إن كان ذلك سيُنقذها.
حين كانت تنادي اسمه، كان يبتسم لها. وعندما تُمسك يده، كان يضيء بابتسامة مشرقة، لكنه كلما ضمها إلى صدره، كانت عضلاته تتصلب قليلًا، وكأنه لم يصدق أن هذا يحدث فعلًا. وعندما يصيبها خطر، كان يقتحم كل شيء بلا تردد ليصل إليها. تمامًا كما يفعل الآن. ودائمًا، بلا استثناء، منذ البداية وحتى اللحظة.
في النهاية، كان فينريك محقًا.
الرجل الواقف أمامها الآن، لا يزال يتوسل حبها.
“……”
ارتجفت عينا بريسيبي البنفسجيتان وهي تحدق فيه بصمت. هل كان هناك أصلًا طريق يمكنني أن لا أحبه فيه؟
لو أنني اخترت الطريق الأسهل، وبقيت بجوار فيدار فقط… حتى لو عدتُ إلى واقعي، هل كنتُ سأتمكن من نسيان صوته حين يناديني؟ أو نسيان عينَيه الحمراوين وهما تعكسان صورتي؟ أو نسيان ذلك الحضن، وذلك الدفء الذي غمرني به؟
أنا حتى لا أتذكر من كنت أصلًا، ولا أي نوع من الأشخاص كانت يون جو يون. فكيف لي أن أعيش في مكانٍ آخر، بعيدًا عنه، وأخدع نفسي قائلة: لقد عدت، أنا بخير الآن؟
لا، لم أكن سأستطيع.
“كنت أظن أن كل شيء في هذا العالم ليس سوى إعدادات مُسبقة تدور كما هي….” تمتمت بريسيبي بصوت مرتعش وهي تحدق في فينريك.
“لكنّك، يا دوق فينريك… كنت وحدك حيًا، تتنفس حقًا.”
“……”
“في البداية… خفت. لم أفهم ما يحدث. لكن شيئًا فشيئًا… أصبحتَ عزائي.”
“……ثم أصبحتَ ماذا؟”
“أصبحتَ مصدر خوفي.”
توقف فينريك عن الكلام، وقد تفاجأ بصدق كلماتها.
“كنتُ أخشى أن أقوم بخيارات مجنونة… خيارات لم يكن يجب أن أفكر بها أصلًا.”
ربما لهذا السبب كانت ترتجف قلقًا في كل مرة. لأنها خشيت أن تنسى هدفها الأصلي، وأن تختار بكل بساطة أن تبقى بجانبه إلى الأبد.
لكنني لا أتذكر شيئًا أصلًا. لا أعرف حتى من كانت يون جو يون. ولا أي نوع من الأشخاص كانت.
فماذا لو أن هذا المكان، الذي أنتَ فيه، هو حقيقتي؟
كانت تعلم أن هذا التفكير أحمق حد السذاجة، ومع ذلك، كانت مشاعرها غير المسؤولة تقيّد قدميها دائمًا.
“……”
ارتجفت أطراف أصابع فينريك وهو يحدق فيها. أمر غريب حقًا. لقد توسّل إليها مرارًا، لكنه لم يتجرأ يومًا على أن يأمل بأنها قد تتخلى عن غايتها الأصلية. فهو يعرف أنها عاشت آلاف المرات من أجلها.
لكن كلماتها الآن… كانت توحي بشيء مختلف.
“دوق فينريك، أنا….”
لم تستطع أن تُكمل. فقط نظرت إليه بعينين تموجان بعشرات المشاعر.
[أنا أريد أن أبقى بجانبك.]
وفجأة، تذكرت حوارًا قديمًا دار بينهما.
[هل… هل يُسمح لي بهذا؟]
[نعم.]
“أنا….”
[إن كان هذا هو اختيار بريسيبي بحد ذاتها… فحينها، نعم، أكثر من أي شيء آخر.]
أريد أن أبقى. أريد أن أكون معك. حتى لو أشار الجميع إليّ قائلين إنني فقدت عقلي. حتى لو لم أعد أبدًا إلى يون جو يون.
همست كلماتها المرتعشة، لكن قبل أن تكتمل، اجتاح المكان ريح عاتية تحمل رائحة الدم. كانت قوية كأنها ستمسح كل شيء في طريقها. انكمشت بريسيبي غريزيًا، فيما ضمها فينريك إلى صدره ليحميها.
“……”
لكن بريسيبي تجمدت فجأة، وهي في حضنه. هناك، خلف ظهره مباشرة.
فيدار…!
عينان زرقاوان تلألأتا وسط الظلام، تراقبانها ببرود قاتل.
“دوق، اهرب…!”
اهرب!
لكن للأسف، تحرك فيدار أسرع بكثير من همسها المرتعش. مد يده فجأة، وانبثق من أطراف أصابعه الشاحبة دخان أسود كثيف.
انطلقت الغيوم السوداء مباشرة نحوهم بلا أي تردد، فما كان من بريسيبي إلا أن قفزت أمام فينريك، عازمة على حمايته، وأغمضت عينيها بشدة تنتظر الألم.
لكن… لم يحدث شيء.
“……”
فتحت عينيها بتردد، لتكتشف الحقيقة.
فيدار لم يهاجمها هي أو فينريك.
‘كتاب الذكريات…!’
رأت الكتاب يتدحرج على الأرض، ملطخًا بدماء الوحوش، قبل أن تلتهمه ألسنة نيران قانية.
ورأت أيضًا وجه فيدار، وعينَيه الباردتين تحدقان بها مباشرة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات