“أفكر أحيانًا… ماذا لو كان كل هذا مجرد حلم؟”
“…الدوق؟”
حدّقت بريسيبي إلى فينريك بعينين ضيقتين، إذ لم تفهم بسهولة ما كان يقصده بكلامه الغريب.
“كنت أتمنى فقط أن أصل حتى إلى موطئ قدمك.”
“……”
“كنت أظن أنني لو استطعت فقط الاقتراب، ولو قليلًا، سأفعل أي شيء. وفعلاً، فعلت كل ما في وسعي.”
ابتسم فينريك بسخرية خفيفة.
“حتى الآن، ورغم تغيّر كل شيء، أحيانًا أشعر أن هذا الواقع… مجرد وهم نسجته بنفسي، من شدّة رغبتي بالاقتراب منكِ.”
“لا يمكن أن يكون ذلك.”
“ولكن، أعتقد أن لكِ يدًا في هذا الوهم أيضاً.”
“…لي؟ ولماذا؟”
تساءلت بريسيبي بتعبير مشوش، فهي لم تفعل شيئًا على الإطلاق.
“لأنكِ تعتنين بي، وتقلقين عليّ، وتظهرين لي لطفًا… وهذه كلها أشياء ظننت أنني لا أملك الحق في الحلم بها. لفترة طويلة جدًا.”
عجزت بريسيبي عن تحديد ما إن كان عليها أن تبتسم أم لا. ولم تعرف كيف ترد.
لقد فكّرت كثيرًا بعد أن سمعت اعترافه الصادق. وفكرت كثيرًا.
وكان استنتاجها دائمًا واحدًا:
أن الطريقة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة هي أن تخفي عنه حقيقة رحيلها عن هذا العالم… وتستغلّه.
لكنها لم تكن متأكدة من قدرتها على فعل ذلك… ولا إن كانت تستحق ذلك، هي أو هو.
ولهذا، إن لم تكن قادرة على استغلاله بالكامل… أليس الأفضل أن تُبعِده عنها؟
لكن بريسيبي سرعان ما أدركت الحقيقة.
بعض المشاعر، حتى وإن قررت التخلي عنها مئات المرات، لا يمكن تجاهلها في النهاية.
وهذا تمامًا ما شعرت به الآن.
“كنت أعلم دائمًا أن وجودك في حياتي أكبر من قدرتي على تحمّله… وكنت أعلم أنكِ لا ترينني شيئًا.”
توقفت بريسيبي فجأة.
نعم، ربما كان ذلك صحيحًا في الماضي. فقد نسيت يوم لقائهما في مرحلة التدريب، بعد كل ما مرت به.
لكن الآن، الأمر تغيّر.
لو كان فينريك “لا شيء” حقًا بالنسبة لها… لما كان قلبها مضطربًا هكذا الآن.
“ربما لهذا السبب أردت التأثير فيكِ بأي شكل. حتى عندما كنتِ لا تذكرينني.”
“لا بد أنك شعرت بالاستياء لأنني وحدي نسيت كل شيء.”
همست بريسيبي وهي تخفض رأسها.
“كنت ستكرهني… لو كنت مكاني.”
“لا أبداً.”
ابتسم فينريك بخفة.
“لكني لم أستطع الاقتراب منكِ، فبحثت عن طريقة أخرى. أدركت أن التأثير لا يتطلب المواجهة المباشرة دائمًا.”
“…الدوق؟”
“مثل تلك المزهرية.”
وأشار بأصابعه إلى المزهرية بجانب السرير.
نظرت بريسيبي إليها بذهول، وكأنها تراها لأول مرة.
“كنت أستطيع اختيار مزهرية فاخرة تليق بالقصر، لكنني اخترت هذه.”
مزهرية بسيطة لا تليق أبدًا بقصر مليء بالبذخ والغطرسة. كانت ملفتة وحدها.
“لأنني رأيت أنها الأنسب.”
“……”
“عندما رأيتك أول مرة… كنتِ صغيرة، لطيفة، ومحبوبة.”
[هل تكرهين الزهور يا سيدتي بريسيبي؟]
مرت في عقلها جملة قالها لها عندما جاء إلى البرج، وهو يحدّق إلى المزهرية.
[لو علم من أهداكِ هذه الزهرة، لفرح كثيرًا. كثيرًا جداً.]
وفي يوم مغادرتها للقصر، تذكرت كلماته عندما رآها تحمل المزهرية بنفسها:
[من قدّم لكِ المزهرية، يتمنى أن تبقى مليئة بالزهور دائمًا. أينما كنتِ.]
حتى عندما كان يكفي أن تفتح النافذة لترى الزهور تتفتح في الخارج،
كان يحرص على قطف الزهور بيده، ليملأ بها المزهرية.
والآن فقط… فهمت.
الزهور التي وُضعت في المزهرية لأول مرة، وتلك التي أتى بها فينريك بنفسه في القصر، كانت متطابقة.
وحتى المزهرية نفسها التي وُجدت في الفيلا… كانت من أجل الاحتفاظ بالذكريات، ولو وحده.
“لم أشعر بالاستياء، ولا الكراهية. ولا لمرة واحدة.”
“……”
“بل، كنت قلقًا.”
لا تزال بريسيبي تتذكر جيدًا…
في بداية تجسّدها، عندما خرجت من قاعة الحفل، وألقت بنفسها في البحيرة من شدة الألم…
وعندما عادت من سجن الجليد،
ورأت تلك المزهرية، والزهور فيها… كيف كان شعورها؟
وكم بكت حينها؟
“كم كان مخيفًا أن تكوني وحدك.”
“……”
“وكم كان شعورك بالوحدة لا يُطاق.”
لم تقل بريسيبي شيئًا.
كل ما فعلته هو أنها حدّقت في فينريك بعينين بنفسجيتين امتلأتا بالدموع، بينما شفتاها مطبقتان بإحكام.
قال فينريك بهدوء:
“لم يكن لدي وقت حتى لأشعر بالاستياء أو الغضب… كنت مشغولًا بالقلق عليكِ فحسب.”
لقد أعطت الكثير…
ورغم ذلك، كانت هي من تنسى كل مرة، وكأن شيئًا لم يكن.
هي قضت عمرها في تكرار اللعبة، هدفها أن تُنهي القصص مع جميع الشخصيات الذكورية وتغادر،
أما هو…
فقد ظل يخوض الحروب نفسها مرارًا وتكرارًا، فقط ليقترب منها.
ومع ذلك، لم يشعر يومًا بالضيق، ولم يلومها ولو مرة واحدة.
هل هذا ممكن حقًا؟ أن يُحبّ أحدهم بهذا الشكل؟
قال بصوت هادئ:
“لقد قلتِ لي من قبل… أن وجودكِ في هذا القصر يريحك.”
[لا أعلم إن كنت ستفهم قصدي، لكنني أحب هذا المكان. لم أشعر بالطمأنينة من قبل كما أشعر بها الآن…]
“وذلك بالضبط ما كنت أتمناه طوال الوقت.”
“لذا، لا يمكنكِ تصور كم أسعدني سماعك لتلك الكلمات. لا يمكنكِ أبدًا.”
مدّ فينريك يده ببطء،
وبكل حذر أزاح خصلة شعر فوضوية خلف أذن بريسيبي، ثم التقت عيناه بعينيها.
كانت نظراته الحمراء دافئة بشكل لا يُصدق،
وبريسيبي نظرت إلى نفسها المنعكسة في عينيه المتألقتين بهدوء.
“سيدتي بريسيبي… أشكركِ على عنايتك بجراحي، وعلى قلقكِ الصادق…لكن أرجوكِ، لا تنظري إليّ بتلك النظرة المليئة بالأسف.”
تابع فينريك حديثه وهو لا يزال ينظر إليها برقة:
“لأن هذا آخر ما أتمناه.”
“……”
“أنا… أحبكِ، سيدتي بريسيبي.”
توقفت بريسيبي قليلًا، وكأن الكلمات أخافتها.
“ولهذا، كلما رأيتكِ بهذه النظرة، أشعر وكأن قلبي يسقط.”
كان فينريك شخصًا غريبًا…
حتى وإن كان سبب إصابته هو هي، لا يريدها أن تشعر بالذنب؟
كيف يمكن لإنسان أن يقول شيئًا كهذا؟
كيف يمكن له أن يُحبّها بهذا الشكل، دون أن يطلب شيئًا بالمقابل؟
قال بينما يأخذ يدها ويضعها فوق صدره الجريح:
“هذه الجراح ستلتئم بسرعة.”
“لقد أصبت بجراح أسوأ كثيرًا، لكنني تعافيت في كل مرة دون استثناء. لا تقلقي، إنه ليس أمرًا خطيرًا.”
“لكن، مع ذلك…”
“صحيح أن هانا وكيفن يسخران مني أحيانًا ويقولان إنها موهبة خاصة، لكن لا بأس، اعتدت على ذلك.”
ابتسمت بريسيبي بخفة، وسط دموعها، على نبرة المزاح اللطيفة في صوته.
“ثم إن هذه الجراح لها قيمة مختلفة…لأنني نلتها وأنا أحاول حمايتك، فهي بمثابة وسام شرف بالنسبة لي.”
“…سيترك ذلك ندبة. كبيرة أيضًا.”
رغم كل كلماته المريحة، لم تستطع بريسيبي التخلص من شعورها بالذنب.
لكن فينريك، بدلًا من أن يعبس، ابتسم.
“جسدي مليء بالندوب على كل حال.”
هل يقصد بذلك أن ندبة إضافية لا تعني شيئًا؟
نظرت إليه بعينين تشعّان بالذنب الواضح.
“لكن لا توجد ندبة أثمن من هذه.”
“لذا، حتى لو كانت كبيرة وواضحة… لا بأس لدي إطلاقًا.”
“……”
“لقد نلتها لأنني أردتُ حماية من أحب… فكيف لي أن أكرهها؟”
لم تقل بريسيبي شيئًا. فقط حدّقت فيه بصمت، مليئة بالمشاعر.
…حتى لو أخبرته بكل شيء.
حتى لو كانت تعلم أنه لا يجب أن تقول ذلك.
حتى لو بَاحت برغبتها في الرحيل عن هذا العالم.
هل من الممكن… أن يتفهمها؟
هل يمكن أن يكون دوق فينريك هذا الإنسان؟
ارتجفت يد بريسيبي الصغيرة والبيضاء وهي مستندة على صدره.
نظر فينريك إليها باستغراب بسيط، لكنه لم يقل شيئًا.
كانت في عينيها نظرة مختلفة تمامًا.
ليست قلقًا فقط…
بل وكأنها في خضم صراع داخلي عميق.
ولهذا السبب، لم يتحدث فينريك بعد ذلك.
بل بقي صامتًا، ينتظرها حتى تبدأ بالكلام.
وأخيرًا، بعد مرور وقت ليس بالقليل، قالت بصوت منخفض وهي تنظر إلى ضماد صدره الأبيض:
“دوق…هل تحبني فعلًا؟”
ثم أضافت:
“…حتى لو كنتُ، في الحقيقة، شخصًا مختلفًا تمامًا عمّا تعرف؟”
ضاق فينريك عينيه قليلًا، فقد بدا أن كلامها غير مفهوم تمامًا.
“حتى لو كان من المستحيل أن تستمر علاقتنا إلى الأبد؟”
عندها، تغيرت ملامح وجهه قليلًا… لكنه لم يكن في نظرها حينها، فلم تلحظ ذلك.
وأكملت:
“حتى مع كل ذلك…هل ستبقى مشاعرك كما هي؟”
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 110"