“تبدو العلاقة بينكما حميمة جدًا. رغم أنه لم يمت بعد.”
تفاجأت بريسيبي بالصوت المألوف الذي جاء فجأة من خلفها، فاستدارت بسرعة.
وهناك، رأت فیدار جالسًا على حافة النافذة بشكل مائل.
حدّقت فيه بنظرات مضطربة، ثم نهضت من مكانها بسرعة كما لو كانت تدفع نفسها، ووقفت أمام فينريك النائم لتحول بينه وبين فیدار، وكأنها تحميه.
“كـ… كيف وصلت إلى هنا؟”
“……”
“ولماذا أتيت؟”
لم تستطع أن تُخفي ارتباكها.
من مظهره، بدا أنه لم يتأثر بالحريق الكبير الذي اندلع في الغابة المحرّمة، لكن ما لم تفهمه هو لماذا جاء حتى هنا؟
القصر محاط بالكامل بجنود الحرس الخاص، فكيف تمكن من الوصول إلى غرفة النوم؟
هل لأنه مخلوق شيطاني؟ هل هذه هي الطريقة؟
كلما فكرت بالأمر، زاد شكها في نواياه.
ثم، كيف يمكنه أن يقول “لم يمت بعد” وهو يرى شخصًا بهذه الحالة؟
“لا داعي لأن تكوني حساسة إلى هذا الحد.”
قالها فیدار بوجه خالٍ من أي تعبير، بينما لا يزال جالسًا على حافة النافذة.
“لم آتِ لأؤذيه.”
“……”
“جئت فقط لأتأكد.”
“تتأكد من ماذا…؟”
“إن كان بخير.”
ضيّقت بريسيبي عينيها.
“فاجلسي مجددًا. أليس أنتِ من جعله ينام عن عمد؟”
ثم وجّه فیدار نظراته نحو المنضدة الجانبية الممتلئة بأنواع متعددة من الأدوية.
“إن كنتِ تنوين إيقاظه بسبب القلق، فواصلي الوقوف هكذا، كما تشائين.”
لم تكن بريسيبي تريد إيقاظه أبدًا.
فقد قيل لها أن حالته مؤلمة جدًا، ومن الأفضل أن ينام ليخف الألم.
لذا جلست بهدوء مجددًا إلى جانب فينريك، وأمسكت بيده بإحكام كما فعلت سابقًا.
لكن رغم جلوسها، لم تفارق نظراتها فیدار، وكانت مليئة بالشك والحذر.
“لكن… تتحدث وكأنك تعرف الدوق؟”
“لم أقل إنني لا أعرفه.”
…يعرفه؟
كيف؟
تألقت الحيرة في عيني بريسيبي وهي تحدّق بـ فیدار. لكن قبل أن تتمكن من طرح سؤال جديد، بدأ فیدار بالكلام أولًا:
“تبدين حزينة للغاية.”
“وهذا أمر طبيعي تمامًا.”
أجابت بريسيبي بنبرة لا تخلو من الدهشة، كأنها غير مصدقة ما تسمعه.
“رجل في هذه الحالة، كيف لي ألا أكون حزينة؟”
“وماذا لو كان المصاب هو إيفان أو ديتريش أو زيغفريد؟ هل كنتِ ستبكين عليهم بهذا الشكل أيضًا؟”
“لا، بالطبع لا.”
“لماذا؟”
“لأنهم ليسوا أشخاصًا مهمين بالنسبة لي. ليسوا كالدوق فينريك.”
“……حقًا؟”
عندما قال ذلك، بدا وجه فیدار – أو ملامحه كمخلوق شيطاني – منزعجًا أو غاضبًا لسببٍ ما.
توقفت بريسيبي للحظة بقلق، لكنها لاحظت أنه سرعان ما أزال تعابير وجهه، ليحدّق بها بصمت.
أو بالأصح، لم يكن يحدق بوجهها، بل بيدها التي تمسك بـ فينريك بإصرار.
تمامًا كما فعل زيغفريد من قبل.
رغم أنها شعرت بتلك النظرة الغريبة والثقيلة، لم تترك يد فينريك.
“إذًا… هل وجدت ملك الشياطين؟”
وبعد لحظة صمت طويلة، نطق فیدار بصوت منخفض، حاد وجاد.
“ذهبت إلى أصل المخلوقات الشيطانية بناءً على كلامك… هل تعلم ما الذي حدث هناك؟”
حتى الآن، لا يزال الأمر غير معقول بالنسبة له.
صحيح أن كل شيء هناك تم احتواؤه في النهاية، لكن لم يكن هناك أي إنجاز يُذكر.
لم يتم العثور على أي أثر لملك الشياطين، لا في أصل المخلوقات الشيطانية، ولا في الكهف الذي يسمونه “الصمت” أو ما شابه.
“من يدري.”
“……”
“كيف لي أن أعرف.”
أطلق فیدار كذبة حمراء صارخة بكل برود.
“……لا بأس. صحيح أنك من أخبرني، لكن الشخص الذي قرر الذهاب كنت أنا.”
تنهدت بريسيبي، فما جدوى إلقاء اللوم عليه الآن؟
“إذن؟”
“لم يكن هناك شيء. لا شيء على الإطلاق.”
لم يكن من الممكن أن تجد شيئًا هناك.
فمن الأساس، ملك الشياطين الذي كانت بريسيبي تبحث عنه لم يكن موجودًا في ذلك المكان.
ولهذا، فلا شك أنها شعرت باليأس.
حتى الخيط الأخير الذي كانت قد وجدته، تلاشى تمامًا بدون أي أثر. لم يكن هناك بصيص أمل.
وحلمها في الخروج من هذا المكان تحطم كليًا.
لابد أنها انهارت… تمامًا كما فعلت هي.
وفي اللحظة التي كادت فيها زاوية شفتي فیدار أن ترتفع بشكل غريب، قالت بريسيبي بحدة:
“لم يعد الأمر يهمني الآن. لذا رجاءً، لا تقل لي أشياء غريبة بعد الآن. لن أستمع إليها.”
لم تكن تعتقد أن فیدار يعرف مكان ملك الشياطين، لكنها كانت تعلم شيئًا واحدًا:
لم يعد هناك وقت. لقد فات الأوان للبحث أو التفكير.
بل إنها قررت بداخلها التوقف عن محاولة إيجاده. ربما تدمير النظام بالكامل سيكون أفضل.
قالت هذا، لكن فجأة بدا على وجه فیدار شيء غريب.
“……”
كان جامدًا، وجهه يتقطر برودة مرعبة. ارتعشت عينا بريسيبي للحظة وهي تراه هكذا.
هل قلت شيئًا خاطئًا؟
“لماذا؟”
“ماذا…؟”
سألت بريسيبي بصوت خافت، وقد خالجها شيء من الخوف والتردد.
“لماذا لا يهمك الآن؟”
“…….”
“قلتِ إنك كنتِ تبحثين عنه.”
كان أمرًا غريبًا.
لم يكن غاضبًا بشكل مباشر مثل إيفان، ولم يصرخ مثل ديتريش…
لكن مع ذلك، بدا واضحًا أن فیدار كان غاضبًا جدًا.
ولم تكن تفهم السبب.
نظرت إليه للحظة ثم سألته بصوت مرتجف:
“……إذن، لماذا تسألني عن كل هذا؟”
كان الأمر محيرًا.
حتى الآن، لم يسألها قط عن سبب بحثها عن ملك الشياطين. ألم يكن من المفترض أن يكون فضوليًا على الأقل؟
بل بدا كما لو كان… كأنه يريدها أن تستمر في البحث عنه، وكأن الأمر يهمه أكثر منها.
“من تكون أنت؟”
“…….”
“هل أنت فعلًا مجرد مخلوق شيطاني؟”
…لا يعقل.
نظرت بريسيبي لا إراديًا إلى أعلى رأس فیدار.
صحيح أن هناك خللًا أصاب النظام، وتسارعت الأحداث، وانهار تسلسل اللعبة…
لكن كانت هناك أساسيات لم تتغير حتى الآن.
على الأقل، حسب ما تعرفه هي.
مثل أولئك الشخصيات الذكورية التي اكتسبت وعيًا ذاتيًا،
ومع ذلك لم تتخلَّ عن إعداداتها الأساسية:
“أن يكنّ حبًا وولعًا مهووسًا بـ بريسيبي بلا قيد أو شرط”.
أو نوافذ المشاعر التي تبقى مفتوحة، رغم أن صورهم في الأحداث أو ملفاتهم كانت تحجب بعلامات استفهام أو سوداء بالكامل.
لكن…فوق رأس فیدار، لم يكن هناك أي شيء.
“…….”
رغم سؤالها، لم يُجب فیدار.
بل اكتفى بالنظر إليها، بعينيه الزرقاوين المحملتين بمشاعر مختلطة يصعب تفسيرها، وكأنه يحدّق بها أو حتى يلومها.
“قلت لكِ من قبل.”
وبعد لحظة طويلة من الصمت، كسر فیدار ذلك السكون وتكلم.
“أنا مجرد مخلوق شيطاني.”
صوته كان باردًا، مخيفًا، ملأ أرجاء الغرفة بنبرة كئيبة.
“مجرد كيان لا يساوي شيئًا.”
لكن رغم ذلك…
لم تستطع بريسيبي تجاهل أن كلماته كانت تحمل شيئًا أقرب إلى الإجبار أو الاستعطاف.
كأنه يتوسل لها أن تصدقه. أو كأنه يحاول أن يُقنع نفسه.
“…….”
لم تتابع بريسيبي الحديث. وقفت مكانها كأنها تجمدت، تحدّق به،
بينما فیدار، بملامحه الملتوية قليلًا، كان يبادلها النظرات.
بعد لحظة، تحرك ببطء من مكانه عند النافذة، وقف بثبات، ثم قفز بخفة على حافة النافذة العالية.
ثم استدار ونظر إلى بريسيبي وسأل:
“هل تظنين أنني مختلف؟”
طرح سؤالًا غريبًا، يصعب فهمه.
“أو بالأحرى… هل أبدو مختلفًا في عينيك؟”
“ما الذي تتحدث عنه…؟”
“مضحك، أليس كذلك؟ لأني لا أرى أي فرق.”
“…….”
“في النهاية، كلنا نُستغل بنفس الطريقة، كلنا فقدنا عقولنا بشكل مبالغ فيه، وكلنا لدينا نفس الهدف.”
وعندها فقط، لاحظت بريسيبي شيئًا لم تكن قد انتبهت له من قبل:
نظرات فیدار لم تكن موجّهة إليها، بل إلى فينريك.
“…….”
لم يقل فیدار أي كلمة أخرى.
مجرد صوت معدن حافة النافذة وهو يئن تحت قبضته القوية، حيث بدأت تتشقق وتتشوه من شدة الضغط.
كان الصوت مزعجًا، كأن شيئًا في الأحشاء ينقلب.
مشاعر لم يشعر بها طوال حياته… كانت تنهش كيانه.
عض على شفته بقوة، ثم…
من دون أي تردد، قفز من النافذة.
“…….”
لم يُسمع أي صوت لسقوطه.
ومرت لحظة طويلة قبل أن تتنفس بريسيبي بصوت خافت، وجهها شاحب تمامًا.
“ما الذي…؟”
ما الذي يحدث؟
لماذا يتصرف بهذه الطريقة؟
…ولماذا يتكلم وكأنه يلومني؟ أنا لم أفعل شيئًا…
لكن لا بغض النظر عن مدى تفكيرها في الأمر, لم يكن هناك أي سبيل لمعرفة الإجابة.
مرعوبة، عادت بريسيبي لتُمسك بيد فينريك بإحكام أكثر من ذي قبل.
لكن ذلك القلق…
الذي بدأ يتصاعد في داخلها بوضوح، لم يظهر أي نية للزوال.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 100"