5
فتحتُ الباب عوضًا عن “مونغشي”، كلبي الصغير الذي انتصب على رجليه الخلفيتين يحاول بجهد أن يبلغ المقبض. هناك، عند العتبة، كان الصندوق الذي تركه ساعي الطرود خلفه. وعليه ختم دار نشر مألوف.
[لقد استلمت للتو نسخ الإهداء. شكرًا لك يا نائب المدير.]
[هل ألقيتِ نظرة عليها؟ جميلة، أليس كذلك؟ ^0^]
جاء الرد على الفور، وكأن الهاتف كان بالفعل بين يديه. فتحتُ الصندوق بعد أن قرأت رسالة نائب المدير “جانغ”، فإذا بعشرين نسخة إهداء مصطفّة بعناية، ومعها دمية تمساح صغيرة أكبر قليلًا من كف اليد.
[وصلت دمية التمساح أيضًا.]
أخرجت نسخة واحدة من الكتب، قلّبتُ الصفحات سريعًا، ثم بعثت له رسالة أخرى.
[كنت أشتري لعبة لـ”سوهي”، فتذكرت “كروكو”. ألا يشبهه قليلًا؟ طبعًا كروكو الحقيقي أجمل بكثير!]
“سوهي”، ابنته الوحيدة ذات التسعة أعوام، تلك الصغيرة التي تُحوّل نائب المدير “جانغ” إلى مجرد أحمق لطيف. وبحسب قوله، فهي أول معجبة لي أيضًا.
[شكرًا لك يا نائب المدير. الكتاب غاية في الجمال. بذلتَ جهدًا كبيرًا.]
[وأنتِ أيضًا يا كاتبتنا بذلتِ جهدًا عظيمًا. الآن آن الأوان لتلقي عنك همّ العمل وتستريحي قليلًا. وبالمناسبة، لا تنسي أن مشروعكِ القادم سيكون معنا!]
تسامت ابتسامة عفوية على شفتي من دعابته اللطيفة. أرسلت له ردًا قصيرًا حافلًا بالامتنان، ثم ظللت أحدّق في هاتفي بصمت، شاردة.
لطالما أثقلني شعورٌ بالذنب تجاهه وتجاه العاملين في دار النشر. لقد أفسدتُ حفل التوقيع الذي أُقيم للترويج للكتاب، ومع ذلك لم يلقِ أحد منهم عليّ اللوم. بل على العكس، هم من اعتذروا إليّ مرارًا لأن الحفل لم يتم كما ينبغي.
‘بينما من كان يجب عليه الاعتذار حقًا… هو أنا.’
حين فكرت في الذين عانوا بسببي، وفي ذلك الطفل الذي جُرح بسببي، شعرت بثقل يجثم فوق صدري. لحسن الحظ أن جرحه لم يكن بالغًا. لو كان قد أصيب بجروح خطيرة… مجرد التصور جعلني أهز رأسي بعنف طاردًا الفكرة. حاولت تحويل مسار تفكيري، لكن ذكرى قديمة تسللت بخفة وظهرت للسطح، ذكرى طالما حاولت أن أُميت صداها داخل نفسي.
نظرت إلى اسم واحد في قائمة هاتفي.
‘ريو دونغهوا.’
كان حبًا أول، بريئًا وساذجًا، لكنه بالنسبة إليّ ظلّ ذكرى ثمينة وسعيدة، ذكرى لم يعد يُسمح لي الآن باستدعائها.
…لكن الحقيقة أنّ دونغ هوا لم يكن يحبني أنا، بل أحب “دونغ مي”.
ارتسمت على شفتي ابتسامة مُرّة حين عاودتني تلك الحقيقة بعد سنين طويلة. ورغم مرور الزمن، ما زال قلبي ينكمش ألمًا حتى يضيق التنفّس في صدري. يبدو أن هذا الوجع سيظل يسكنني إلى الأبد، فما دامت ساعتي قد توقفت منذ عشر سنوات خلت، فكيف لي أن أشفى؟
أطلقت تنهيدة ثقيلة، وأخذت ألامس اسمه على شاشة هاتفي. فجأة، ومن غير قصد، وجدت نفسي قد اتصلت به!
‘يا إلهي! ماذا أفعل؟’
حاولت بارتباك أن أغلق المكالمة، لكن شاشتي تبدلت فجأة. لقد أجاب! أخذ عدّاد الوقت يتزايد… وذهني صار أبيض فارغًا.
‘أ… ماذا أفعل الآن؟’
أغلقت المكالمة بسرعة، وقلبي يخفق بجنون. لم أستعد توازني بعد حتى وصلتني منه رسالة.
[دونغ أون، لقد اتصلتِ قبل قليل، أليس كذلك؟ حتى من تنفّسكِ وحده عرفت أنها أنتِ.^^]
لو كان للكلمات ملمس، لكانت طرية كالپودينغ، أو ناعمة كتيراميسو. شعرتُ بخدر لطيف ودغدغة في قلبي، حتى لمست أنفي بأصابعي لأخفي ارتباكي، ثم كتبت له ردًا جافًا متصنّعًا:
[أنت خزّنت رقمي لديك. رأيته وعرفتني بسببه.]
[آه! لقد انكشفتُ. ^^;]
عاد سريعًا برد مازح، فأحيا في داخلي ذكريات كانت أكثر وضوحًا الآن. كان صوته آنذاك دافئًا ولطيفًا، مشوبًا بخفة ظل الفتيان. وكنت أحب ذلك الصوت كثيرًا.
[أوه! بالمناسبة، أعطيتُ طفلةً بطاقة التوقيع الخاصة بكِ، ففرحت بها كثيرًا. حتى إنها قفزت من السعادة وسقطت لتجرح أنفها.]
[ماذا؟ هل تأذت كثيرًا؟]
سألتُ بقلق بالغ، إذ أعادني المشهد مباشرة إلى الحادثة المؤسفة في حفل التوقيع.
[مجرد نزيف بسيط من الأنف. رأيت صورتها، تبدو مشاكسة للغاية. هل تريدين أن تريها؟]
بعث إليّ صورة. تطلعتُ إليها: طفلة تبتسم ابتسامة واسعة، وقد سدّت أنفها بمناديل ملفوفة. لم أتمالك نفسي من الضحك.
شعرت بارتياح عظيم إذ لم تكن إصابتها خطيرة. ابتسمتُ بخفوت وأنا أحدّق في هاتفي، ثم نظرت إلى الأسفل. كان “مونغشي” يمرح محتضنًا دمية التمساح، فيما كانت نسخ الإهداء ما تزال مبعثرة أمامي. ترددت قليلًا، ثم تحركت أصابعي بغير وعي.
[هل تقرأ قصص الأطفال؟]
سؤال بدَا ساذجًا للغاية. أيُعقل أن أسأل رجلًا في السابعة والعشرين إن كان يقرأ كتب الأطفال؟ حضوره إلى حفل التوقيع لم يكن إلا مجاملة لصديق في العمل. حتى أنا استغربت من سؤالي، فخديّ احمرّا خجلًا.
لكن جوابه كان على غير ما توقعت.
[نعم. في الحقيقة، أحبها.]
‘ماذا؟ حقًا؟’
حدقتُ في الشاشة مأخوذة، غير مصدقة. خطر لي أنه ربما يمزح. لكن رده الجاد الخالي من أي رموز أو إيموجي جعل من الصعب أن أعتبره مزحة.
[أنت تحب كتب الأطفال؟]
[ولولا حبها… لما كنتِ تكتبينها أنتِ.]
ابتسامة حاولت عبثًا أن أقاومها ارتسمت على شفتي. لم يقل إنه يحب كتبي أنا بالذات، ومع ذلك شعرت بالزهو يتدفق في صدري.
[إذن… هل أرسل إليك نسخة إهداء؟]
[نسخة إهداء؟ تقصدين الكتاب الجديد؟]
[نعم.]
أرسلت الرد وأنا أهز رأسي، ثم أسرعت بإضافة رسالة أخرى من فرط الارتباك.
[دار النشر أرسلت لي نسخًا كثيرة، فتبقّى لدي بعضها.]
أوه، ليتني لم أقل هذا. بدت وكأنني أعطيه إياها لمجرد أنني لا أجد مكانًا لأضعها فيه. عقدت حاجبي من فرط الندم بعد أن أرسلتها. وإذ تلاعبت بي الأفكار، انخفضت ثقتي أكثر.
لو كان يحب كتبي حقًا، لما اكتفى فقط بأخذ توقيع طلبه منه زميل.
وحين استقر هذا الخاطر في ذهني، شعرت بالحرارة تصعد إلى وجهي. ترى… هل أبالغ في الأمر؟ هل أنا من توهّمت وحدي وأسرعت بعرض إرسال الكتاب؟ أسرعت أكتب رسالة أخرى إليه:
[الكلام الذي قلته قبل قليل… أرجوك اعتبره ملغًى.]
غير أنّ أناملي عجزت عن إرسال الرسالة التي كنت أهمّ بكتابتها… حتى باغتني “دونغ هوا” برسالة أخرى:
[ستمنحيني نسخة موقّعة، صحيح؟ كنتُ أنوي المرور على المكتبة بعد الدوام لاقتناء كتابكِ، لكن… آه! ما أجمل أن أتلقّاه مباشرةً من يد الكاتبة نفسها، فهذا أثمن بما لا يقاس.]
‘هـم؟‘
[ما رأيكِ أن نلتقي هذا المساء؟]
في تلك اللحظة خلتُ أن الزمن قد جمد، وكأن عقلي قد فرغ من كل فكرة.
* * * *
دخلتُ المطعم على استحياء ثم خرجتُ منه ثانية، فأبصرت “دونغ هوا” يبتسم بخجلٍ مربك، فحاولت أن أرسم على وجهي ابتسامةً مُصطنعة، لكن ثِقَل كتفيّ انكشف بلا رحمة… حتى “مونغشي” أرخى ذيله، يشاركني ذات الانكسار.
[آسفة.]
[لستِ مذنبة. من الطبيعي أن يُسمح للكلب المرافق لذوي الاحتياجات بدخول أي مطعم. لعلّي أرفع ضدهم بلاغًا يفضحهم جميعًا.]
كانت كلماته المرتعشة على الشاشة تُشي بعاطفةٍ محتدمة، كل حرف يتزايد حدّة حتى انسكب حزنه وغضبه في ملامح النص.
وخزني ذلك الشعور… غريب هو أن يغضب أحدهم لأجلي، أن ينتفض مدافعًا عني. كنت قد اعتدت الأمر مع والدي؛ لذلك كثيرًا ما تركت “مونغشي” في البيت خشية أن يعتصر قلب أبي الألم. غير أنّ الأمر هذه المرة مختلف… أمامي إنسان آخر يتألم بسببي، صديقٌ حسبته غاب عن حياتي منذ زمن بعيد، وأول حبٍّ سكن قلبي. أيُّ قدرٍ هذا الذي يعيد إليّ مشاعري بهذا الشكل؟ ابتسامة صغيرة أفلتت مني رغمًا عنّي. وحين رآني “دونغ هوا” قال بهدوء يزلزل القلب:
“حين تبتسمين… يزداد وجهكِ فتنةً لا تُوصف.”
تجمدت أنفاسي… هل أصغيتُ جيدًا؟ الكلمات علقت في حلقي، واكتفيت بالتشبث بالهاتف كأنّه طوق نجاة. وجنتاي احمرّتا بحرارةٍ متوهجة، ولو واجهتُ المرآة لوجدتُ وجهي متوردًا كحبة رمان ناضجة.
‘استفيقي يا “سو دُونغ أون”!‘
ربّتُ على خدي برفق لأستعيد توازني، فإذا بالفكرة تبرق في ذهني:
‘الكتاب!‘
نعم، أساس لقائنا كان من أجل نسخةٍ موقّعة فحسب. التفتُّ إلى الساعة، فإذا بالوقت قد تجاوز العشاء منذ زمن. وما فعلناه طوال المساء لم يكن سوى إضاعة الساعات في مطاعم أغلقت أبوابها في وجه “مونغشي”. ضاق صدري استعجالًا. سحبتُ من حقيبتي الكتاب الذي غلفته بعناية، لكنه بدا الآن باهتًا لا يليق.
‘هذا… لك.‘
لم أنطق الكلمة، بل مددت يدي بالكتاب نحو “دونغ هوا”. غير أنّه لم يتلقفه، بل اكتفى بالتحديق فيه طويلًا، حتى غمرني حرج كاد يبتلعني. وما إن هممتُ بسحب يدي حتى التقطه فجأة، يقلّبه بين يديه ثم يبتسم… الابتسامة عينها التي كنت أحفظها عن ظهر قلب حين كان في السابعة عشرة.
“هل لي أن أفتحه؟”
أومأت برأسي. ربما تسليمه الكتاب في عرض الطريق أهون من إضاعة مزيد من الوقت. ومع ذلك… شعرتُ بخيبة صغيرة تنخر قلبي.
ربما كنتُ آمل، دون وعي، أن نتقاسم عشاءً دافئًا وحديثًا طويلًا لا ينتهي. لكنني آثرت لفّ رباط “مونغشي” حول كفي واحتضانه. لقد أدّيتُ واجبي، وانتهى الأمر.
[إذن أنا…]
لم أكمل عبارتي، إذ باغتني “دونغ هوا” فجذب يدي بقوة، فتعثرت أصابعي على لوحة المفاتيح وانهمرت الحروف مشوّهة:
[إذن أنا ㅏㅏㅏㅏㄹ]
[إلى أين تظنين نفسكِ ذاهبة؟]
انتزع الهاتف من يدي، ودوّن أسفل عبارتي جملته هو، ثم أعاد إليّ الجهاز ببرود الواثق. نظرتُ إليه في دهشة، فيما هو يرمقني بملامح هادئة لا تكشف شيئًا.
“قسوة منكِ يا سو دُونغ أون… أتطردينني بلا عشاء؟”
أيظن أنني قصدت ذلك؟ رمقته بعينين تغليان احتجاجًا، فابتسم ضاحكًا بخفة، ثم عاد يجذب يدي من جديد.
‘هـا… مـاذا؟!‘
لم أجد بُدًّا من الانقياد. يدي في يده، وذراعي الأخرى تحضن “مونغشي” بارتباكٍ عذب… بينما خطواتنا تنسج خيطًا جديدًا من القدر.
Chapters
Comments
- 5 منذ 23 ساعة
- 4 - السبب الذي يجعل الرياح تهب 2025-08-28
- 3 - ضوءٍ وسط العتمة 2025-08-28
- 2 - بوحٌ خلف الشفاه 2025-08-28
- 1 - كيف نتذكّر أصوات العالم؟ 2025-08-28
- 0 - 0- -يسمّونه الحبّ الأول 2025-08-28
التعليقات لهذا الفصل " 5"