4
Ch 004
لعدّة ليالٍ متتالية، عجزت غوي تينغ يوي عن النوم.
لكن حالتها لم تكن كما كانت من قبل — لا فراغٌ روحيّ ولا حزنٌ غامض — بل كانت تمضي ليلها تفكّر بإلحاح في طريقةٍ تُمكّنها من التعرّف إلى ذلك الرجل الذي يقطن في البناية المقابلة.
أثقلت الكآبة والأدوية ذهنها، فأصبحت أفكارها بطيئة متشابكة.
باستثناء حيلة اللقاء المصادف ذريعةً لبدء الحديث، لم يخطر ببالها أي وسيلةٍ أفضل.
وفي الوقت نفسه، أخذت مراقبتها (أو بالأحرى تجسّسها) على الرجل تتكرّر بوتيرةٍ متزايدة — صباحًا، ظهرًا، مساءً — إذ كان عليها أن تعرف بدقّة متى يغادر المنزل لتضع خطّتها الهجومية المناسبة.
كانت عمة لي تعيش معها تحت سقفٍ واحد، ولم يَفُتها بالطبع ملاحظة انشغال غوي تينغ يوي المفرط بذلك الصوت وبصاحبه.
وذات يومٍ على مائدة الغداء لم تتمالك نفسها وقالت:
“هذا الصباح، كنت أتحدث مع الجدة تشانغ عند مدخل المبنى المقابل، فصادفتُ ذلك الشاب الذي يعزف على الطبول.”
رفعت غوي تينغ يوي حاجبها ونظرت إليها، يلمع في عينيها بريق اهتمامٍ واضح.
تابعت العمة قائلة:
“كان يرتدي قبعة، طويل القامة، نحيف الجسم، لكنّه يمشي بسرعة، فلم أرَ وجهه جيدًا. ومع ذلك تقول الجدة تشانغ إن أحد السكان قدّم شكوى ضده، وأن إدارة العقار زارته بالأمس.”
تقلّص حاجبا غوي تينغ يوي بدهشة:
“لكنّه لا يعزف في أوقات الإزعاج، كيف يُقدّم أحدٌ شكوى؟”
تنهدت العمة لي قائلة:
“ليس الجميع يستسيغ هذا النوع من الأصوات يا ابنتي.”
احتجّت غوي تينغ يوي:
“وهل رأيتِ أحدًا يشتكي من أولئك الذين يعزفون البيانو؟”
قالت العمة لي:
“الأمر مختلف.”
تغيّر صوت غوي تينغ يوي إلى نبرةٍ حادّة:
“وأين يكمن الاختلاف؟”
صمتت العمة لي لحظة، ثم قالت بهدوء:
“صوت البيانو أكثر أناقة.”
أطرقت غوي تينغ يوي رأسها، تحرّك طرف عود الطعام في وعائها:
“لا أظنّ أن الآلات الموسيقية يجب أن تُفرّق بين رفيعٍ ووضيع.”
بعد الغداء، عادت إلى غرفتها.
قضت ساعاتٍ في قلقٍ صامت، تخشى ألّا تسمع بعد اليوم تلك «الجرعة اليومية» التي تبعث في روحها النبض.
لكن عند الرابعة عصرًا، دوّى الإيقاع المألوف، يهزّ صمت المساء الرتيب ويبعث فيه الحياة.
ركضت فرحةً إلى الشرفة، وصلت في الوقت المحدد تمامًا، كأوفى المعجبين.
كان الرجل يعزف كما لو أن شيئًا لم يحدث.
ضرباته على الطبول لا تعرف حذرًا، كأنها كلماتٌ كثيفة تُنقَش في الهواء بخطٍّ عاصف، تُعلن تحدّيًا عالي الحماسة.
أسندت غوي تينغ يوي ذقنها على كفّها، تبتسم برفق، شاعرة أن كلّ قلقها كان عبثًا.
وحين انتهى عزفه، غادر إلى غرفة المعيشة، فعادت هي مسرعة إلى نافذتها، أمسكت بالمنظار.
كان يرتدي القميص الأسود ذاته، ووجهه الجانبي حادّ القسمات، جفناه مسترخيان، وغرّته منبعثرة قليلًا.
يبدو أنه كان يستعدّ للخروج، فمدّ يده والتقط قبّعة سوداء من الخطّاف قرب الباب وارتداها.
وفي اللحظة التالية، مال رأسه قليلًا نحو الجهة التي كانت فيها.
ميلٌ خفيف، لكنه أربكها.
ارتبكت غوي تينغ يوي كمن تداهمه رصاصة طائشة، فانكمشت تخفي رأسها.
مضت دقيقة كاملة قبل أن تهدأ أنفاسها وتنهض ببطء.
لكن المكان عند الباب كان خاليًا.
‘هل خرج؟’ تساءلت في سرّها.
فتحت النافذة، أطلّت تبحث بعينيها إلى الأسفل.
بعد لحظة، اطمأنّت، إذ رأته يخرج من مدخل المبنى.
كان الأطفال في الساحة يلعبون ويضحكون، ألوان ملابسهم كحبّات حلوى متطايرة، وسطهم بدا ذلك الرجل كقلم رصاصٍ أسودَ حادّ الرأس.
كان يتحاشى الزحام، لكن صبيًا صغيرًا يرتدي الأحمر اصطدم ببطنه وهو يركض للخلف.
توقّف الرجل وثبّت الطفل بيده، ثم انحنى قليلًا وسأله شيئًا.
هزّ الصغير رأسه بسرعة، وابتعد راكضًا مع رفاقه.
تابع الرجل طريقه بخطًى أسرع، أمّا غوي تينغ يوي فتابعته بابتسامةٍ لا إرادية قبل أن تستفيق من ذهولها.
نهضت مسرعة إلى المدخل، ارتدت كمامة وقالت بصوتٍ عابر:
“سأعود بعد قليل.”
ثم أسرعت نحو المصعد.
دخلت وهي تلهث قليلًا، ضغطت على زرّ الطابق الأول.
“ما الذي أفعله؟” تساءلت بين أنفاسها.
هل تلاحقه؟ تحاول اللحاق به؟ وإن لحقت به… ماذا ستقول؟
لكنها لم تُمهل نفسها كثيرًا، فاستبدلت التساؤل بالعزم:
“دعي الأمور تجري بطبيعتها.”
هكذا أقنعت نفسها، وضمّت يديها بخفة وهي تخرج من المصعد متجهة إلى البوابة الأمامية.
لكن خطّتها توقّفت قبل أن تبدأ، لأنها أضاعته.
ببساطة، فشلت منذ اللحظة الأولى، إذ لم ترَ أثره بعد أن وصلت إلى الأسفل.
عادت خائبة إلى شقتها، حتى الطعام فقد طعمه في فمها.
وفي الأيام التالية، جرّبت كلّ الحيل الممكنة لترصّد تحرّكاته، لكنها لم تنجح.
نادراً ما يخرج من منزله، وحين يفعل، يسير بخطًى طويلة سريعة لا يمكن مجاراتها.
غير أنّها على الأقل عرفت شيئًا عن عاداته:
إنه غامض، كناسِكٍ يعيش في عزلة، لا يخرج إلا في الأيام الممطرة أو عند الغروب، وغالبًا لشراء حاجيات أو استلام طرد.
حين انسدّ هذا الطريق، غيّرت خطّتها بدل انتظارٍ عقيمٍ في المنزل، بدأت تنزل في الأوقات التي اعتاد الخروج فيها، تتجوّل حول مبناه، دائرةً بعد دائرة.
مضى أسبوع، ولم ترَه، سوى صدى طبوله يتردّد في سمعها.
كانت يومياتها تعجّ بمحاولاتها الفاشلة للتقرّب منه.
وما إن تطوي صفحتها حتى تضع يدها على جبينها وتبتسم بأسى:
“أين ذهبت كل تلك الأقوال الجميلة عن المثابرة التي لا تُخيب؟”
وقبل نومها، ابتلعت حبّة منوّم، وأخرجت من درجها قطعة نقدٍ قديمة كانت حصلت عليها أيام جولتها الفنية، عملة أمنيات.
تمتمت في قلبها:
“ليسمح لي الغد برؤيته، أن أتحدث إليه وجهًا لوجه… الوجه المنقوش بالنجوم يعني نعم، والآخر يعني لا… أرجوك، امنحني الوجه المنقوش.”
رمَت العملة، استقرّت على كفّها، فأظهرت الجانب المنقوش بالنجوم والهلال.
قفز قلبها فرحًا، وارتسمت على شفتيها ابتسامة مطمئنة.
اطمأنّت أخيرًا، وغرقت في نومٍ طويل.
في صباح اليوم التالي، كان الطقس قاتمًا، السماء رمادية متجهمة، لكنّ قلب غوي تينغ يوي كان صافياً بفعل الترقّب.
قرابة العاشرة، نادت العمة لي من المطبخ وهي تتبّل أجنحة الدجاج:
“يويو، هل ستخرجين اليوم؟”
أجابت وهي على الأريكة:
“نعم، سأخرج.”
خرجت العمة وبيدها زجاجة صويا:
“نفد لدينا الصويا الخفيفة. كنت سأشتريها صباحًا ونسيت. إن لم يكن عليك مانع، هل يمكنك إحضار واحدة؟”
أومأت غوي تينغ يوي:
“سأذهب حالًا.”
قالت العمة لي:
“لا داعي للعجلة، ما زال القليل يكفينا للغداء.”
أجابت وهي تتجه إلى الباب:
“لا بأس، لا شيء لدي الآن.”
خرجت مسرعة نحو المتجر القريب من بوابة الحيّ، ترتدي حذاءً رياضيًا خفيفًا.
بفضل أيام المطاردة الخفية الأخيرة، أحسّت بجسدها أخفّ، لم تعد تشعر بتلك الأثقال التي كانت تُكبّلها.
دخلت المتجر، فابتسمت لها البائعة خلف الصندوق.
سألتها:
“أين أجد صويا الصوص الخفيفة؟”
فأشارت إلى رفّ في الزاوية.
شكرتها بخفوت وتوجهت إلى الرفّ، تتأمل أسماء العلامات حتى وجدت ما تريد، ثم التقطت زجاجتين، واحدة في كل يد، وتوجّهت نحو الممرّ الضيّق المؤدي إلى الصندوق.
لكن في اللحظة التي همّت فيها بالخروج من الممر، مرّ أمامها رجلٌ طويل القامة، نحيل البنية، يحمل سلة تسوّق، يرتدي قميصًا أسود وقبعة سوداء.
تجمّدت مكانها.
إنه هو.
كان الواقع أكثر وضوحًا من الصورة التي رأتها عبر المنظار: بدا أصغر سنًا، وملامحه أكثر تحديدًا، كلها — من شعره حتى خطواته — تنضح بشبابٍ متّزنٍ وواثق.
توقّف الزمن حولها، اختفى كل صوتٍ من المتجر، ولم يبقَ إلا خفقان قلبها المتسارع كقرع الطبول في صدرها.
لم تصدّق أن من كانت تراقبه من بعيد بات الآن أمامها بهذا القرب.
في تلك اللحظة خطَر ببالها ربما، حقًا، كانت قطعة النقود تلك تحمل شيئًا من سحر.
نهاية الفصل، ترجمة يوكي 💫
⊱ ────── {.⋅ ✯ ⋅.} ────── ⊰
Chapters
Comments
- 5 - Ch.005 منذ 5 ساعات
- 4 - Ch.004 منذ 5 ساعات
- 3 - Ch.003 منذ 5 ساعات
- 2 - Ch.002 منذ 5 ساعات
- 1 - Ch.001 منذ 5 ساعات
التعليقات لهذا الفصل " 4"