Ch-016
في اللحظة التي أُغلِق فيها الباب بعنف، بدا كأن شيئًا ما انكسر في صدر تشن شي، إذ خفق قلبه بعنفٍ مؤلم، وكأن ضلوعه انكمشت عليه.
ظل واقفًا في مكانه دون حراك، وشفته السفلى تنزف من شدة ما عضّها.
وفي اللحظة التالية، شهق نفسًا حادًّا، وانطلق يركض خلفها.
عند المصعد لم يجد أحدًا. رفع عينيه إلى الأرقام الرقمية المتبدّلة بسرعة، وضغط زرّ النزول مرارًا بعصبية.
وحين أدرك أنه لا يستطيع الانتظار أكثر، استدار نحو مخرج الطوارئ وهو يحدّق في هاتفه…
لكنّه نسي أنّه أطفأه قبل قليل.
شعورٌ مرير بالضياع اجتاحه. كأنها ستتلاشى من حياته إلى الأبد.
قطّب حاجبيه، وأخذ يلهث وهو يركض خارج المبنى، يهتف في ظلام الليل الخالي من الناس:
“غُوي تينغ يوي!!!”
أضاءت بضع مصابيح استشعار من خلفه.
عاد يصرخ من جديد، صوته يخترق صمت السماء كوميض برقٍ بنفسجيٍّ شقَّ السكون:
“غُوي تينغ يوي!!!”
فتح أحد سكان الطابق الثالث نافذته غاضبًا، وصاح بأعلى صوته:
“أي وقتٍ هذا لتصرخ فيه؟ كفى ضجيجًا!”
حرّك تشن شي تفاحةَ آدم بصعوبة، ولم يرد. اكتفى بالركض مسرعًا نحو المبنى المقابل.
كانت غوي تينغ يوي قد وصلت إلى مدخل بيتها، أخرجت المفتاح وهمّت بفتح الباب.
لكن صوته أوقفها.
تجمّدت يدها.
لم تمضِ سوى ثوانٍ حتى سمعت وقع خطواتٍ لاهثة تقترب. امتزجت بخفق أوراق الأشجار في الريح.
لم تجرؤ على النظر ورائها. حاولت أن تُدخل المفتاح في القفل على عجل، كما لو كانت تحاول الهرب بسيارةٍ مسرعة.
لكن يديها كانتا ترتجفان بشدّة، فلم تُصب القفل. وبعد محاولاتٍ فاشلة عدّة، استسلمت، وأرخَت ذراعيها، لتنهال دموعها مجددًا.
توقّف تشن شي عند أسفل الدرج، دون أن يقترب أكثر.
أما هي، فوق الدرج، فاستدارت إليه بظهرها، وكتفاها يهتزان بنحيبٍ مكتوم.
“غُوي تينغ يوي.”
ناداها بصوتٍ خافتٍ ثقيلٍ هذه المرة.
لم يكن النداء كما اعتادت سماعه: لا سخرية فيه، ولا برود، ولا لا مبالاة.
بل خليط من الارتباك، والاعتذار، والصدق المؤلم.
مسحت دموعها سريعًا، واستدارت نحوه قائلة بين شهقاتها:
“لا داعي لأن تعتذر.”
كانت عيناها تشبهان شظايا كريستالٍ متشققة تحت الضوء.
“أنا فعلًا لا أفهم في الطبول، وازعجتك بكثرة حديثي. من الجيّد أنك قلتَ ما في نفسكَ اليوم، وإلا لبقيتُ أعيش في وهمٍ من طرفٍ واحد.”
لم يجب. ظلّ ينظر إليها من أسفل الدرج بصمتٍ غامض.
“لا بأس.” قالت وهي تحاول أن تبدو متماسكة، وضربت بخفّة على فخذيها كمن ينهض من ثِقَلٍ عظيم. “سأعود الآن.”
لكن حين أمسكت المفاتيح مجددًا، كانت راحتها قد امتلأت بخدوشٍ دقيقةٍ من شدّة قبضتها عليها.
“غوي تينغ يوي.”
ناداها مرةً أخرى.
توقّف جسدها بالكامل.
ثم جاء صوته، متهدّجًا قليلًا:
“أنا… لستُ شخصًا يمكن الاتكال عليه.”
استدارت نحوه ببطء، وعيناها ممتلئتان بدموعٍ جديدة.
قال، وصوته ينكسر بخفوت:
“ليس لديّ أصدقاء كُثر، ولا أدخل الفتيات إلى بيتي.
لكنني… كنت أمتلك فرقةً موسيقيةً يومًا ما، وحققنا بعض الشهرة في الوسط.”
صمت قليلًا ثم تابع:
“لكن عزف الموسيقى أمرٌ مُرهق ومكلف.
ومنذ تخرّجنا وتفرّقنا… صرتُ مجرد ظلٍّ لذلك الماضي.
منذ عامٍ وأنا غارق في فراغٍ لا ينتهي.
إن لم أضرب الطبول لا أشعر أنني حيّ، لكن حين أضربها، لا أشعر أنني أنا.”
رفع نظره نحوها، وقال بمرارةٍ هادئة:
“حين تقولين إنني ما زلتُ أستطيع العزف… فأنا لا أظن ذلك. أعتقد أن صوت طبلي مات مع فِرقتي.”
غطّت فمها بكفّها، تجهش بالبكاء حتى كاد صوتها يختنق.
ابتسم ابتسامةً شاحبة وقال:
“غوي تينغ يوي، ليس بكِ أي خطأ.
أنا، وطبولي، لا نستحقّ حبك.”
رفعت رأسها بصعوبة، تحاول ضبط صوتها المتحشرج:
“سأسألك شيئًا…”
نظرت إليه من أعلى الدرج، بعينين دامعتين:
“لو لم تلتقِ بي… ماذا كنتَ ستفعل؟”
صمت برهةً طويلة قبل أن يهمس:
“لا أدري.”
قالت وهي تمسح دموعها:
“أما أنا… فلم أكن أدري أيضًا. لكنني التقيتُ بك.”
ارتعشت يده.
قالت بصدقٍ مقطّع:
“أنت تقول إن طبلك مات… لكنني لا أسمع ذلك.
أتظنّ أنني أحببتُ صوت الطبول فحسب؟ لا.
لقد أحببتُ الحياة التي تنبض في عزفك، تلك القوة التي لا يمكن لأحدٍ سواك أن يبعثها.
اشتريتُ منظارًا لأراك من بعيد، لأتعرّف على صاحب تلك القوة.
أردتُ فقط أن أعرفه، أن أحبه…
ثم تقول إنكَ لا تستحق؟! ما الذي يجعلك صاحب القرار؟!”
ارتجّ صدى كلماتها في عمق الليل، تبعتها نسماتٌ باردة فتحت نوافذ المبنى من حولهم.
ظلّ تشن شي يحدّق فيها دون أن يرمش، وفي عينيه بريقٌ خافت يشتعل ببطء.
شعرت بالخجل يتسرّب إلى وجنتيها بعد اندفاعها، فأشاحت وجهها عنه.
لكن فجأة، خطا نحوها بسرعةٍ حاسمة، صاعدًا الدرجتين الفاصلتين بينهما.
لم تملك وقتًا للتراجع، وحين ترددت خطوةً واحدة، كان قد ضمّها إلى صدره بقوة.
تجمّد الزمن.
قلبها يرتجف بجنون، يلامس صدره الذي ينبض بحرارةٍ مكتومة.
ذلك العناق كان عميقًا، محكمًا، دافئًا…
كأن طاقته تتسرّب إليها من كل مسامّها، تملأها حتى آخر نفس.
شعرت أنّ دمها يغلي، وأن الليل من حولها قد انحسر عن عالمٍ آخر، أكثر حياة.
قالت بصوتٍ مرتجفٍ تكاد لا تصدّقه:
“أأنت… تعانقني حقًا؟”
جاء صوته من فوق رأسها، متعبًا، صادقًا، كأن فيه استسلامًا جميلًا:
“وإلا، فمن كنتُ لأعانق؟”
لم تعرف إن كانت تبكي أم تبتسم.
قالت بخفوتٍ مرتجف:
“هل كلّ عازفي الطبول يعانقون بهذه القوة؟”
ابتسم، وأرخى ذراعيه قليلًا، ثم سأل:
“هل آذيتُك؟”
أومأت وهي تغالب دموعها، ثم قالت همسًا:
“قليلًا… لكن، هل يمكن أن تعانقني مرةً أخرى؟
بنفس القوة؟”
لم يتردّد لحظة. عاد فضمّها بقوةٍ أكبر.
لم يبقَ بين جسديهما فراغ.
قالت وهي تبكي وتضحك معًا:
“هذه هي القوة التي كنتُ أقصدها…
القوة التي تُعيد لي الحياة.”
سألها بصوتٍ منخفض:
“أيّ قوة؟”
همست:
“تلك التي كنتُ أسمعها فقط من بعيد… الآن أشعر بها. بداخلي.”
ضحك بخفة، ودفن وجهه في شعرها، وقال بمزاحٍ رقيق:
“لم أشعر بها بعد… هل يمكن أن تشرحي لي كيف تكون؟”
ابتسمت، وردّت بعناقٍ أشدّ حرارة، ذراعاها تشدّانه إليها بكل ما فيها من طاقة:
“هكذا… أتشعر بها الآن؟”
قال:
“همم… ربما ينقصها شيء.”
“إن شددتُ أكثر سيؤلمني.”
“وماذا في ذلك؟”
قالها بابتسامةٍ حزينةٍ مطمئنة:
“الألم… هو الدليل على أننا أحياء.”
نهاية الفصل، ترجمة يوكي 💫
التعليقات لهذا الفصل " 16"