تفوهت غوي تينغ يو بدهشة، واتسعت عيناها حتى فاض منهما بريق حيّ، كالنجوم الصغيرة المبعثرة في ليلٍ صافٍ.
قال تشن شي بهدوء:
“إن لم ترغبي، فلا بأس.”
هزّت رأسها سريعاً:
“لا، أريد أن أذهب.”
لم يكن تشن شي من الذين يطيلون الكلام.
“إذن، فلنذهب؟”
غطّت غوي تينغ يوي وجنتيها براحتَيها في حرَج:
“لكن… لم أضع المكياج بعد،” ثم لمست شعرها بخفة، “ولم أغسله أيضاً… يبدو دهنياً بعض الشيء.”
قال تشن شي:
“سأنتظرك.”
“لا، لا داعي للمكياج،” التفتت تنظر إلى الحمّام قائلة:
“سأغسل وجهي وأبدّل ثيابي فقط.”
أومأ برأسه:
“حسنًا.”
سارعت تبرّر مظهرها البسيط وقلة استعدادها:
“فقط لأني لا أريد أن أجعلك تنتظر طويلاً، ثم إن الوقت متأخر، ولن يراني أحد.”
ظلّ صامتًا، يكتفي بإيماءة خفيفة.
عندها غيّرت نبرتها، وقالت معاتبة بابتسامة ضاحكة:
“ألا يمكنك قول شيء يطمئنني؟ أهذا أسلوب شخص يدعو فتاة للخروج؟ لا تجيد المجاملة أبداً!”
عقد حاجبيه وسأل بصدق:
“وماذا تريدين أن أقول؟”
أجابت بخفة:
“قُل إنني جميلة بما يكفي، ولا أحتاج إلى كل هذا العناء.”
ابتسم ابتسامة خفيفة مائلة إلى السخرية وقال مقلدًا:
“إنني جميل بما يكفي، ولا أحتاج إلى كل هذا العناء.”
انفجرت غوي تينغ يو بالضحك:
“حسنًا، مقبول. بوجودك أنت، حتى لو بدوت عادية، سيظن الناس أنني فتاة مميّزة لمجرد أننا معًا.”
ضحك بدوره وقال بلهجة حازمة:
“هيا إذن، لا تطيلي التأخير.”
ردّت:
“حاضر!” ثم أسرعت للحمام.
•°•○•°•●•°•○•°•
كانت سريعة في تجهيز نفسها؛ جمعت شعرها على شكل ذيل حصان، وارتدت فستانًا أصفر باهت اللون.
لم تكن من صاحبات الجمال الصارخ، لكن وجهها الصغير وتناسق ملامحها منحوها جاذبية ناعمة. كانت طبيعية المظهر دومًا، نقية للغاية، كأن الهواء من حولها أنقى بوجودها.
ما يميّزها أكثر هو هندامها الهادئ¹ وسيرها الرشيق؛ خطواتها خفيفة غير متكلفة، وساقاها طويلتان مستقيمتان، تذكّرانه بذاك المشهد الطفولي حين رأى شياو لونغ نُو² على شاشة التلفاز لأول مرة.
كانت مختلفة بلا شك، ولكنه تعرّف عليها السرعة.
لكن ظاهرها لا يشبه باطنها؛ مظهر وديع، ونفس مشاكسة، تحبّ المراقبة والتسلل… وفيما يخصّ التحرش اللفظي، فهي من الدرجة الأولى.
حين اقتربت منه وقالت مبتسمة:
“انتهيت.”
أدار تشن شي نظره عنها، واستعاد توازنه، ثم خرجا معًا.
•°•○•°•●•°•○•°•
كانت الليلة ساكنة، تحيط بهما أضواء بيضاء مستديرة في أحواض الزهور على الجانبين، كأنها ترشدهما الطريق.
سارت إلى جواره، متسائلة بفضول مريح:
“إلى أين سنذهب؟ وكيف سنصل؟”
نظر إليها من طرف عينه وسأل بدل الإجابة:
“كيف تودّين الذهاب؟”
قالت وهي تردّ النظر إليه:
“لا أدري… لكنني رأيت من قبل…”
“ماذا رأيت؟”
أشارت نحو البوابة الشرقية للمجمّع:
“هناك دراجات مشاركة.”
سألها بابتسامة خفيفة:
“هل تريدين الركوب؟”
أومأت:
“وأنت؟”
قال ببساطة:
“لا مانع عندي.”
ثم ألقى نظرة على فستانها:
“لكن ألا تجدين الفستان غير مناسبة لذلك؟”
خفضت بصرها إلى نهاية الفستان الذي يصل تحت الركبة:
“أظن أن الطول مناسب.”
لم يعلّق.
وصلا إلى البوابة، فاختار كل منهما دراجة. بينما كانت هي تحاول فكّ القفل بتردد، كان هو قد جرّ دراجته بيد واحدة بخفة وثبات.
انحنت نحو المربّع الشرح تهمهم بالتعليمات، كجدّة تقرأ الجريدة بعينين متعبتين، فارتسمت على وجهه ابتسامة خافتة.
قال وهو يراقبها:
“هل أساعدك؟”
لوّحت بيدها دون أن تلتفت:
“لا حاجة.”
وقف بجانبها يسأل عرضًا:
“كم مضى منذ خرجتِ آخر مرة من المنزل؟”
“منذ انتقلت إلى هنا، لم أخرج من المجمع أصلاً،” أجابت ثم رفعت حاجبيها بخبث:
كان الزحام يملأ شوارع المدينة، والأنوار تنعكس على السيارات كحشد من نجومٍ بطيئة الحركة.
قادا دراجتيهما في المسار الجانبي؛ هو خلفها، وهي أمامه.
كانت الريح تعبث بفستانها، تنفخه كجناحين نصف مفتوحين لفراشةٍ وادعة.
وكان ينظر إلى ظهرها في صمتٍ طويل، بينما تستدير أحيانًا نحوه بابتسامة واسعة، تدعوه لترى هذا أو ذاك من أضواء المدينة.
لم يكن يجيب غالبًا، لكنه كان ينظر كل مرة إلى حيث تشير.
وبعد حين، خفّت حركة الشارع، فأبطأت السرعة حتى صارا متجاورين.
مدّت ذراعيها للحظة، ترفع يديها عن المقود صارخةً فرحًا:
“واو~ انظر! بدون يدين!”
رمقها بنظرة جانبية، وقد تلاشى رصيده من التعليقات.
سألته وهي تعيد الإمساك بالمقود:
“رائع، أليس كذلك؟”
قال ببرود:
“تبدين مثل شمبانزيّ.”
ضحكت:
“ركّز على مهارتي لا على المؤثرات الصوتية!”
ثم سألت:
“لكن إلى أين نحن ذاهبان بالضبط؟”
قال وهو ينظر للأمام:
“انعطفي يمينًا، وستعرفين.”
لم تتوقّع أن وجهتهما ستكون الكَرَاوكي³.
توقفت عند المدخل وقد علت وجهها الدهشة:
“مكان كهذا، في هذا الوقت؟ رجل وامرأة بمفردهما… أليس غريبًا؟”
قال بثبات:
“ليس كما تتخيلين.”
“…”
تقدّم إلى الداخل، تناول ميكروفونًا ورماه إليها.
أمسكته بتردد:
“ماذا أفعل به؟”
أشار إلى شاشة الأغاني:
“غنّي.”
اتسعت عيناها بفهمٍ متأخر:
“إذن هذه هي المشغلة التي كنتَ تتحدث عنها؟”
أومأ ببساطة.
هزّت الميكروفون بيدها بحماسة طفولية:
“ألستَ تخاف من ضجيجي بعد الآن؟”
قال:
“بعد بضع أغنيات، ستتعوّد أذنايّ.”
ضحكت وقرّبت الميكروفون من فمها:
“إذًا سأحرجك بصوتي الجميل.”
“انتظري.”
جلس إلى الطاولة، رتّب الأكواب والأطباق، فتح الميكروفون الثاني، ثم وضع قائمة المشروبات تحته لتكون حاملاً.
قال بهدوء:
“سأساعدك بالإيقاع، أنتِ فقط غني.”
توقفت تنظر إليه.
عاد بعد لحظات يحمل شيئًا في يده، جلس في الظلّ، وانعكست أضواء زرقاء عليه، فبدت ملامحه كأنها منحوتة من ضوء البحر، آسرة وباردة.
قلب سلة القمامة وجعلها طبلًا، وراح يضرب عليها بقضيب معدنيّ بخفةٍ ودقّةٍ مذهلة.
كان كالساحر، يحوّل الغرفة الصغيرة إلى عالمٍ يخصه وحده.
شعرت غوي تينغ يوي بأن قلبها يكاد يقفز من صدرها.
قال برفقٍ من خلف الإيقاع:
“اختاري الأغنية التي تحبينها، أزيلي الصوت الأصلي، وخفّضي المصاحبة.”
سألته بخفوت:
“هل يمكن أن أغني أغنية النهار؟”
قال دون تردّد:
“غنّي.”
ضغطت زر التشغيل.
انطلقت الموسيقى، فتابعها هو بإيقاعٍ متقن، متناسقٍ إلى حدّ الدهشة، كأن آلة كاملة تعزف خلفها.
وقفت مدهوشة لا تعرف كيف تبدأ، حتى رفع نظره وقال بهدوءٍ حازم:
“غنّي.”
فتحت فمها وأطلقت صوتها أخيرًا:
” I could be your girlfriend
Hey! Hey! You! You!”
ارتبكت أولًا، ثم شيئًا فشيئًا انسابت في اللحن، واتسق صوتها مع إيقاعه.
ازداد حماسها، وأخذت تقفز وتتمايل، تختار أغنية تلو أخرى بلا توقف.
ابتسم هو بين الحين والآخر، يتابعها بعينين راضيتين.
وفجأة توقفت وسألته وهي تلهث:
“كيف تعرف إيقاع كل أغنية؟ هل هناك أغنية لا تستطيع عزفها؟”
تبدّل وجهه قليلًا وقال ببرود:
“ركّزي، لو كنتِ المطربة في فريقي لصرختُ بك الآن.”
ضحكت:
“لسنا على المسرح يا رجل، لا تأخذ الأمر بجدية كهذه!”
لم يجب.
راقبها تتحرك، ولاحظ أنّ رقصها منسّق بإتقان، فيه رشاقة مدروسة، وحركات توازن دقيقة.
سأل فجأة:
“غوي تينغ يوي، هل تعلمتِ الرقص من قبل؟”
تجمّدت لحظة، ثم أعادت عليه بتهكّم لطيف:
“ركّز، لو كنتَ عازفي الآن، لكنتُ أنا من صرخ فيك.”
ضحك بخفة.
ثم عاد الصمت، وامتلأ المكان بالموسيقى فقط.
كانت تلك الليلة لحظة انعتاقٍ نقيّة، أطلقت فيها كل ما كتمته طويلًا.
ضحكت حتى الدموع، وغنّت حتى التعب، وامتلأ قلبها بخفةٍ لم تعرفها منذ زمن.
•°•○•°•●•°•○•°•
وحين عادت إلى المنزل، ما زال الفرح يشعّ في وجهها.
كانت تغني وهي تستحم، تدندن وهي تتمدد على السرير.
فتحت هاتفها وكتبت له:
“هل نمت؟”
لم يجب.
“شكرًا على اليوم.”
لا رد.
“أنا سعيدة جدًا.”
ثم أرسلت عشرات “شكرًا”، واحدة تلو الأخرى، حتى امتلأت الشاشة.
أخيرًا، ظهر رده:
“؟؟؟”
كتبت بسرعة وهي تبتسم بعينين دامعتين:
“أنا ممتنّة فحسب.”
ردّ:
“لا تبالغي.”
قالت:
“لست أبالغ، أنا سعيدة لدرجة البكاء، هذا الشعور كله بسببك.”
صمت للحظة، ثم أرسل:
“لا شكر على واجب.”
“فقط… إكرامٌ لمعجبة.”
•°•○•°•●•°•○•°•
¹تعبير «هندامها الهادئ» يعني أن ملابسها ومظهرها الخارجي متناسقان وبسيطان وأنيقان دون مبالغة أو صخب.
² شياو لونغ نُو (小龙女): شخصية أسطورية من روايات فنون القتال الصينية، معروفة بجمالها الهادئ وبرودها الساحر.
³الكلمة كَرَاوكي (باليابانية: カラオケ / karaoke) هي اسم لنشاط ترفيهي، وليست لمكان محدد، لكنها تُستخدم أحيانًا للدلالة على المكان نفسه الذي يُمارَس فيه الغناء.
التعليقات لهذا الفصل " 10"