حتى وهو في ساحات القتال، لم يعرف الخوف يوماً.
لكن الآن، ولسببٍ لا يستطيع تفسيره، كان القلق يتملكه من الداخل كأمواجٍ متلاطمة لا تهدأ.
جلس إيفان غارقاً في أفكاره.
«إيفان… كنت مخطئاً.»
ما الذي قصدته جولييتا حين قالت تلك الجملة؟
تردّد صداها في ذهنه مراتٍ لا تُحصى، وكلّما استعاد ذلك اليوم، وجد نفسه يسألها في صمتٍ لا يسمع إجابته أحد.
الآن وقد استيقظت، كان يمكنه أن يسألها مباشرة.
ومع ذلك، لم يشعر برغبةٍ حقيقية في السؤال.
طرد الأفكار المزدحمة من رأسه بعزمٍ حاد، مذكّراً نفسه بما هو أهم — أنها استيقظت، وهذا وحده كافٍ الآن.
كل شيءٍ آخر بلا قيمة.
دخل الطريق المؤدي إلى غابة بريكسيتر، ومع اقترابه من الأماكن المألوفة، خفّ ضغط صدره شيئاً فشيئاً.
زاد من سرعة السيارة حتى وصل إلى القصر.
ما إن توقّف أمام البوابة حتى خرج ديبيلو لاستقباله.
نزل إيفان مسرعاً من السيارة وسأله بلهجةٍ قلقة:
“كيف حال زوجتي؟”
انحنى ديبيلو احتراماً ثم أجاب بهدوء:
“يقول الأطباء إنها لا تشعر بأي ألمٍ جسدي. وهي الآن تستريح في غرفة النوم.”
ارتخى وجه إيفان شيئاً فشيئاً عند سماعه ذلك، وبدت ملامحه أقل توتراً.
أسرع بخطواتٍ واسعة إلى داخل القصر، صعد الدرج بخفة، واتجه مباشرة إلى غرفة النوم في الطابق الثالث.
وهناك رآها.
كانت جولييتا جالسة على كرسيٍّ قرب النافذة، تتصفح الجرائد المكدسة على الطاولة أمامها.
كان المشهد غريباً — عشرات الصحف مكدّسة أمامها، تتنقّل بينها بتركيزٍ كامل، كأنها تبحث عن شيءٍ محدد.
كانت غارقة تماماً في القراءة حتى إنها لم تلاحظ دخوله.
“……”
وقف إيفان للحظةٍ يتأملها بصمت، ثم تقدّم ببطء وناداها:
“جولييتا.”
رفعت رأسها بسرعةٍ والتقت عيناها بعينيه في الفراغ بينهما.
قالت بصوتٍ هادئ دون أي انفعال:
“لقد عدت، إيفان.”
ثم أنزلت نظرتها إلى الصحيفة مجدداً، وكأن وجوده لا يعني شيئاً.
تقلصت عضلات وجهه في انزعاجٍ خفيف.
سأل ببرودٍ وهو يرمقها بنظرةٍ فاحصة:
“ما الذي تفعلينه بالضبط؟”
ثم التفت إلى ديبيلو الذي كان واقفاً خلفه وأضاف بنبرةٍ صارمة:
“لماذا هي على هذا الحال؟”
كانت بشرتها شاحبة كأنها لم تعرف النوم منذ أيام، وشفتيها جافتين، ويداها ترتجفان وهي تقلب الأوراق.
قال ديبيلو بصوتٍ مترددٍ وكأنه يبرر نفسه:
“لا أدري يا سيدي… لكنها أصرت أن أُحضر لها كل الصحف الصادرة خلال الشهرين الماضيين. لم أستطع منعها. مع أنها ما زالت بحاجةٍ إلى الراحة…”
تنهّد إيفان بصمت، ثم أشار بيده إلى ديبيلو أن يغادر الغرفة.
انحنى الخادم سريعاً وغادر دون أن ينبس بكلمة.
اقترب إيفان من جولييتا بخطواتٍ حازمة، وظلّ واقفاً أمامها بنظرةٍ جافةٍ فيها شيء من السلطة.
قال بصوتٍ منخفضٍ لكنه قاطع:
“ألم يخبرك الطبيب أنك تحتاجين إلى الراحة؟”
“……”
لم ترفع رأسها، ولم تجبه.
ضاقت عيناه وهو يقول بحدةٍ أكبر:
“هل تسمعينني أم أتحدث إلى الجدار؟ توقفي عن قراءة هذا الهراء واذهبي إلى السرير فوراً.”
لكنها لم تتوقف.
بقيت تقلب الصفحات ببطءٍ بارد، وقالت بنبرةٍ هادئةٍ لا تخلو من جفاء:
“أنا أرتاح بما فيه الكفاية. لا تقلق عليّ.”
ساد صمتٌ ثقيل.
رفع إيفان يده ليمسح على جبهته، كما لو أن التعب استنزف كل صبره.
“جولييتا… هل سنظلّ هكذا؟ اذهبي إلى السرير الآن.”
مدّ يده وأمسك كتفيها بخشونةٍ ظاهرة، عندها فقط رفعت رأسها ونظرت إليه مباشرة.
التقت عيناهما — زرقة عينيها بعمق بحرٍ هائج، وخضرة عينيه التي أخفت خلفها قلقاً مضطرباً.
كان الغضب واضحاً في نظره، لكنه لم يكن غضباً خالصاً… كان ممتزجاً بخوفٍ عليها.
«هل… هو قلق عليّ؟»
راودها هذا الخاطر للحظة، لكنها سرعان ما سخرَت من نفسها داخلياً وطردته.
قالت أخيراً بصوتٍ خافتٍ مستسلم:
“حسناً، سأستلقي على السرير. لكن دعني أواصل قراءة الصحف، أرجوك.”
مهما حاولت مجادلته، فلن تجني من ذلك سوى مزيد من الجرح في المشاعر، لذلك كان من الأفضل أن تتبع كلامه إلى حدٍّ ما.
حين أطاعت أوامره دون مقاومة، لم يقل إيفان شيئًا آخر، واكتفى بهزّ رأسه.
جمعت جولييتا الصحيفة التي كانت تقرأها، وصعدت إلى السرير لتجلس عليه،
ثم تجاهلت نظرات إيفان التي كانت تراقبها بصمت، وركّزت كامل انتباهها على الصحيفة.
السبب الوحيد الذي جعلها تُصرّ على قراءتها، هو رغبتها في معرفة حقيقة المنظمة الثورية المتطرفة المسماة “جيرين”.
فبحسب ما قاله ستيفن، فإن حادثة الإرهاب المروّعة التي وقعت في حفلة السفينة كانت من تدبير تلك المنظمة.
وإذا كانت “جيرين” حقًا جماعةً تمارس الإرهاب باسم الثورة،
فمن المرجح أنها ارتكبت أعمالًا مشابهة من قبل.
لذلك فكّرت جولييتا أن قراءة الصحف القديمة قد تمنحها خيطًا صغيرًا يقودها إلى الحقيقة.
كانت عيناها تتتبعان الكلمات المطبوعة بعناية، بينما ضاق بصرها تركيزًا.
“ما الذي يثير فضولك إلى هذا الحد حتى تظلين تحدقين في الجريدة هكذا؟”
جاءها السؤال من جانبه، فتذكّرت جولييتا ما قاله ديبيلو عن انشغال إيفان بالتحقيق في حادثة الإرهاب الأخيرة.
(هل يجب أن أسأله عن الأمر الآن…؟)
تردّدت طويلًا. فهي تعرف أن “جيرين” هي المسؤولة عن الحادث، لكنها لم تستطع البوح له بذلك.
والسبب بسيط — لم تكن تظن أنه سيصدقها بسهولة.
وإن لم يصدقها بعد أن تخبره، فسيحاول بكل الوسائل إيقافها عمّا تنوي فعله،
وحينها سيصبح عقبةً أمام تحقيقها في قضية والدها.
(لا… ليس بعد، لا يجب أن يعرف الآن.)
اتخذت جولييتا قرارها، وسرعان ما نسجت عذرًا مقنعًا لتغطية موقفها.
“ذكرياتي قبل الحادث ما زالت مشوشة قليلًا… أحاول استعادتها عبر قراءة الأخبار.”
تنهد إيفان بعمق، مطبقًا ذراعيه على صدره.
ظنّت أنه سيسخر من عذرها أو يوبخها، لكنّ كلماته جاءت على غير المتوقع، مليئة بالقلق.
“هل استشرتِ الطبيب بخصوص ذلك؟”
وضعت جولييتا الصحيفة على فخذها، وقد أخرستها المفاجأة.
ردّت بصوتٍ هادئ بعد لحظةٍ من التردد:
“لا… لم أفعل. أشعر أن ذاكرتي تعود تدريجيًا مع القراءة، لذا لم أرَ حاجة لذلك.”
نظر إليها مطولًا، متأملًا عنادها وهي متمسكة بالصحيفة،
ولمّا همّ بفتح فمه ليتحدث،
طرقٌ خفيفٌ على الباب قطع الصمت.
كان أحد مرافقيه، يهمس له بشيءٍ على عجل.
“ارتاحي قليلًا.”
قالها باقتضاب قبل أن يغادر الغرفة بخطواتٍ سريعة.
وما إن اختفى من أمامها، حتى أطلقت جولييتا تنهيدة طويلة،
شعرت من خلالها بعرقٍ باردٍ يتسلل من بين كتفيها بفعل التوتر.
دخلت إيما بعد ذلك، حاملةً وجبة خفيفة.
كانت قد أعدتها خصيصًا لتساعدها على الأكل دون أن تثير ريبة إيفان،
فإن امتنعت عن الطعام مجددًا، ربما انتزع منها الجريدة عنوة.
تناولت ما يكفيها فقط، ثم عادت لتركيزها المعتاد على قراءة الصحف.
✦✦✦
مرّت أيامٌ قليلة.
تبدّل الطقس المعتدل إلى حرارةٍ خانقة، وأحيانًا كانت السماء المشرقة تمطر بغتة.
لقد بدأ الصيف.
تعافت جولييتا تمامًا من إصابتها، وخلال فترة نقاهتها قرأت ما يقارب ثلاث سنوات من الصحف المتراكمة.
واليوم أيضًا، كانت وحيدة في مكتبة القصر، تمسك بجريدة جديدة.
بدأت بقراءة المقال الرئيسي الصادر ذلك الصباح.
كانت حفلة السفينة حدثًا سريًا لا ينبغي أن يعرفه العامة،
لكنّ بشاعة المأساة جعلت وسائل الإعلام تنشر تفاصيلها على نطاق واسع،
حتى أصبحت القضية شغل البلاد الشاغل.
احتلّت أخبار الحادث الصفحة الأولى لأسابيع، بالصور الصادمة، وبالأرقام الدقيقة للضحايا والخسائر.
أما اليوم، فقد نشرت الصحف قوائم القتلى والمفقودين والناجين.
راحت جولييتا تتفحص الأسماء بعناية،
ولم تجد – كما توقعت – اسم ستيفن بين الموتى ولا بين المفقودين.
لكنّ عينيها توقفتا فجأة عند اسمٍ مألوف:
أوليفيا جيرارد.
تجمّدَت أصابعها فوق الورق، ولم تستطع الحركة للحظات.
كانت أوليفيا إحدى الشخصيات المحورية في اتفاقية السلام،
وامرأةً لمع نجمها بسرعة في السياسة والمجتمع.
كانت أيضًا من أوائل الأشخاص الذين كان من المفترض إنقاذهم في تلك الليلة،
ولهذا بدا اختفاؤها غير منطقي على الإطلاق.
رمزُ السلام… أصبح مصيره مجهولًا في حفلةٍ أقيمت من أجل السلام ذاته.
“إنه أمرٌ مدبّر…”
همست بالكلمات دون وعي، وارتجف صوتها رغم أنها لم تكن تخاطب أحدًا.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 33"