استيقظت جولييتا أخيرًا من نومٍ طويل، بعد أن بدت لوقتٍ طويل وكأنها لن تفتح عينيها أبدًا.
«تذكّري يا جولييتا… إنه جيرين.»
كانت تلك الكلمات الواضحة، التي صدحت في أذنيها بحدةٍ كأنها انغرست في عقلها، هي ما جعل عينيها تنفتحان على الفور.
“…….”
حدّقت جولييتا في السقف بتعبٍ وذهول، ولم تمضِ ثوانٍ حتى أدركت من المرة الأولى أن هذا السقف مألوف — إنها غرفة في قصر بريكسيتر.
لقد فشلت في الهرب.
اجتاحها الإحباط، لكن عقلها تمسك بخيطٍ واهٍ من رباطة الجأش. كان قلبها يخفق بعنف، ومع ذلك، كان هناك سكون غريب يسري في جسدها.
ظلت مستلقية للحظات، تحدق في السقف بصمتٍ ثقيل، ثم رفعت جسدها ببطء لتجلس.
وفي تلك اللحظة، فُتح باب الغرفة ودخلت منه إيما.
وحين رأت سيدتها مستيقظة، اتسعت عيناها فزعًا، ثم أسرعت بخطواتٍ مرتبكة نحو الخارج دون أن تقول شيئًا.
لم تمضِ لحظات حتى عاد الطبيب المرافق وديفيللو معها إلى الغرفة.
نظر الطبيب إلى جولييتا بوجهٍ تغشاه القلق، وقال بصوتٍ مفعمٍ بالارتياح:
“يا سيدتي، نحمد الله على سلامتك. لقد نجوتِ بمعجزة.”
لكن جولييتا لم تُبدِ أي ردّ. كانت عيناها تجولان في أنحاء الغرفة ببرودٍ وجفاف، وكأنها تراها للمرة الأولى.
تردد الطبيب قليلًا، وعجز عن قول المزيد أمام هذا الهدوء الغريب الذي يكسو ملامحها.
ساد صمتٌ ثقيل في الغرفة، حتى كاد يُسمع فيه صوت أنفاسهم.
ثم فتحت جولييتا شفتيها أخيرًا بصوتٍ مبحوحٍ متكسر:
“منذ ذلك اليوم… كم مضى من الوقت؟”
رمق الطبيب ديفيللو بنظرةٍ سريعة، فصبّ الأخير بعض الماء في كوبٍ وقدّمه لها. لكنها لم تمدّ يدها لتأخذه.
قال الطبيب بهدوء:
“لقد مرّت ثلاثة أيام بالضبط. بعد أن فقدتِ وعيكِ، نُقلتِ إلى المستشفى، ثم أُعيدتِ إلى هنا البارحة فقط.”
أومأت جولييتا برأسها دون أن تنبس بكلمة.
ظل الطبيب وديفيللو ينظران إليها للحظةٍ طويلة دون أن يجدا ما يقولانه، إلى أن انسكب الصمت بينهما من جديد.
لكن هذه المرة، كانت هي من قطع ذلك الصمت بصوتٍ ضعيفٍ بالكاد يُسمع:
“أين إيفان الآن؟”
فأجاب ديفيللو باحترام:
“إنه خارج القصر، يا سيدتي.”
“ومتى… سيعود؟”
“إنه مشغول هذه الأيام بالتحقيق في ما حدث في حفل السفينة، ولم يعد إلى القصر منذ عدة أيام. ولكننا أرسلنا إليه خبر استيقاظك، وسيعود بالتأكيد حين تصله الرسالة.”
أومأت جولييتا مرةً أخرى دون تعليق.
اقترب الطبيب منها وسألها بضع أسئلةٍ روتينية عن حالها — إن كانت تشعر بألم، وإن كان رأسها ما زال يوجعها بعد الاصطدام.
فأجابت بفتورٍ، دون أي انفعال.
قال الطبيب أخيرًا وهو يتهيأ للمغادرة:
“من الأفضل أن تستريحي قليلًا، يا سيدتي. حالتك مستقرة الآن، لكن عليك تجنب الإجهاد. وإن شعرتِ بأي تعب، فقط أرسلي في طلبي.”
ثم انحنى قليلًا وخرج من الغرفة، وتبعه ديفيللو بعد أن ألقى نظرةً أخيرة قلقة على سيدته، وانحنى مودعًا.
وما إن أُغلق الباب، حتى وجدت جولييتا نفسها وحيدة في سكون الغرفة.
أدارت رأسها ببطء، ونظرت إلى النافذة بعينين ساكنتين.
بدأت ذكريات اللحظة الأخيرة تعود إليها — المطاردة التي لم تنتهِ، الانفجار الهائل، سقوط الثريا العملاقة من السقف، وكيف اندفع إيفان بجسده لينقذها، قبل أن يرتطم رأسها بالأرض بقوةٍ أفقدتها وعيها.
لو لم يكن هو هناك في تلك اللحظة… لكانت ماتت تحت حطام الثريا.
رفعت يدها المرتجفة ولمست مكان الجرح في رأسها، ثم توقفت فجأة عن التفكير في تلك اللحظة المروّعة.
من خلف النافذة، غردت العصافير التي استقبلت الصباح بصخبٍ مرح.
استمعت جولييتا لذلك الصوت الهادئ، وشعرت بوخزٍ في صدرها — إحساسٌ حادّ بأنها ما زالت على قيد الحياة.
أنا… ما زلت حيّة.
لكن لماذا؟
لماذا أنا فقط من بقي؟
الذين أحببتهم جميعًا… رحلوا.
“…….”
حركت شفتيها بصمتٍ دون أن يخرج منها صوت، وكأنها تهمس: أبي…
ومع تلك الكلمة، شعرت بثقلٍ خانق يهبط على صدرها.
مأساة عائلة هارتفيلد…
موت والدها…
ثم موت السيد ستيفن…
لم تكن تعرف كل الحقيقة بعد، لكن إن كانت كلمات ستيفن صحيحة، فكل ما حدث كان مرتبطًا بـ جيرين.
اشتعل الغضب في عروقها، وقبضت يديها بقوةٍ حتى انحنت أصابعها داخل كفها.
إن كان ما قاله ستيفن صحيحًا، فإن جيرين هو من دمّر كل من أحبّته، من تسبب بسقوطهم جميعًا في الدم والموت.
لن أسامحهم… أبدًا!
ارتجفت أطراف جولييتا بقوة تحت وطأة الغضب، وكانت رعشة جسدها تفضح النار التي تتأجج في داخلها.
تدفقت الحرارة في صدرها حتى شعرت بالغثيان والدوار من شدّة الانفعال، ومع ذلك كان عقلها صافياً وضوح الشمس.
ذلك لأن الحقد العارم والرغبة الجامحة في الانتقام جعلاها في قمة التركيز، كأنّ كل عصبٍ في جسدها لا يرى إلا هدفاً واحداً.
تلك المشاعر الغليظة التهمت جولييتا بالكامل.
ذابت كل بقايا وعيها في نار الانتقام، حتى لم يبقَ في داخلها سوى غريزة واحدة — تدمير من دمّرها.
قفزت من على السرير على عجل، قدماها بالكاد تلمسان الأرض، وما إن استقرت واقفة حتى اجتاحها دوارٌ عنيف.
ابيضّت رؤيتها للحظة، لكنّها لم تتوقف.
لم يكن في ذهنها سوى اسمٍ واحدٍ يصرخ في أعماقها: جيرين.
كان عليها أن تجدهم. أن تعرف من هم. أن تمحوهم من الوجود.
✦✦✦
في تلك الأثناء، كان إيفان قد تلقى خبر استيقاظ جولييتا بينما كان يحضر اجتماعاً طارئاً في مقرّ القيادة الخاصة للاستخبارات العسكرية.
كان الاجتماع يدور حول حادثة تفجير حفل السفينة، التي زلزلت البلاط الملكي بأسره.
فالحادث لم يكن مجرد تفجيرٍ عابر — بل فاجعة سياسية كبرى دفعت الملك نفسه إلى تحريك الجيش والشرطة للتحقيق فيها.
عددٌ من كبار مسؤولي مملكة كوناوت والسياسيين البارزين كانوا بين الحضور، وقد سقط منهم قتلى وجرحى كثيرون.
بعضهم احترق مع الانفجار، وآخرون سقطوا في البحر أثناء محاولتهم الهرب، وهناك من لم يُسعفهم الوقت للصعود إلى قوارب النجاة وسط الفوضى.
لكنّ الكارثة الكبرى كانت اختفاء أوليفيا جيرارد — الشخصية المحورية في المفاوضات السياسية الأخيرة.
غيابها أشبه بزلزالٍ هزّ البلاد، وألقى المجتمع في دوّامة من الاضطراب والخوف.
أصيب البلاط الملكي بصدمةٍ كبيرة، فأصدر أوامره بتشكيل وحدةٍ خاصة تحت إشراف الاستخبارات العسكرية، ودُفعت أعدادٌ ضخمة من القوات للتحقيق في الجريمة والكشف عن المسؤولين عنها.
ومن بين الحاضرين في الاجتماع، كان إيفان في موقعٍ بالغ الأهمية، لأنه كان من الشخصيات المدعوة إلى الحفل ذاته.
لذلك أوكلت إليه مهمة محورية في تتبّع الجناة وكشف حقيقة ما جرى.
قضى اليوم بأكمله في الاجتماع، لكن بعد سماعه خبر استيقاظ جولييتا، تلاشى تركيزه تماماً.
“إنه عمل من أعمال دولة كاردين المعادية بلا شك!” صاح أحد الضباط بنبرةٍ غاضبة.
“لقد استهدفوا اجتماعاً يضمّ كبار الشخصيات، وهذا دليل قاطع على أن كاردين وراء الهجوم! يجب أن نكشف الجواسيس المتغلغلين في الداخل قبل فوات الأوان!”
ردّ عليه مسؤولٌ من جهاز الأمن بنبرةٍ معارضة:
“لا يمكننا الجزم بذلك بعد. فداخل كوناوت نفسها جماعاتٌ متطرفة عديدة. علينا أولاً التحقيق مع منظمات الاحتجاج التي سبق لها تنفيذ عمليات مشابهة.”
تبادل الطرفان الجدال، وتعالت الأصوات في القاعة دون أن يصلوا إلى أي اتفاقٍ موحد.
وبينما يتقاذف العسكريون والشرطة الاتهامات، بقي إيفان صامتاً، يستمع دون اكتراث.
كل ما كان يدور في رأسه هو جولييتا — لقد استيقظت. كان عليه أن يراها فوراً. لم يكن لديه وقت لإضاعة الأنفاس في هذا العبث.
عندها رفع صوته قائلاً بنبرةٍ محسوبة:
“طالما لم تتوحد وجهات النظر بين الجيش والشرطة، فلن يتحقق أي تقدم في التحقيق. لا يمكن أن نعتمد على رأي طرفٍ واحد دون دليلٍ قاطع. أرى أن نُبقي جميع الاحتمالات مفتوحة.”
ساد الصمت في القاعة بعد كلماته، فتابع قائلاً بثقةٍ حازمة:
“أقترح أن نبدأ أولاً بإعداد قائمةٍ شاملة بكل الجماعات التي تملك القدرة أو الدافع لتنفيذ مثل هذا الهجوم، ثم نتحرك وفق الأدلة.”
أومأ بعض الضباط بالموافقة، ورأوا في اقتراحه مخرجاً عملياً من الخلاف.
لكن إيفان لم يتوقف عند ذلك، وأضاف بصوتٍ منخفضٍ لكن قاطع:
“كما يجب التحقيق مع جميع العاملين في السفينة تلك الليلة — النُدُل، الحراس، وكل من شوهد في الحفل. فربما رأى أحدهم شيئاً مريباً.”
كان الاقتراح مفاجئاً، لكنه بدا منطقياً، فهزّ الحاضرون رؤوسهم تأييداً، ولم يجرؤ أحد على الاعتراض بعد ذلك.
وبهذا، اختُتم الاجتماع أخيراً بعد ساعاتٍ طويلة من النقاش دون أن يصلوا إلى نتائج حاسمة، لكن على الأقل أصبح لديهم اتجاهٌ واضح للتحقيق.
ما إن خرج إيفان من القاعة، حتى دفع الكرسي بعنف ونهض واقفاً، ثم سار بخطى سريعة نحو الخارج.
ناداه أحد الضباط بشيءٍ من الارتباك، لكنه تجاهله تماماً، وخرج من المبنى دون أن يلتفت.
صعد إلى سيارته بسرعةٍ جنونية، وأدار المحرك، متجهاً نحو قصر بريكسيتر.
وخلال القيادة، نظر إلى يديه اللتين تمسكان بعجلة القيادة — كانتا ترتجفان بخفة.
التعليقات لهذا الفصل " 32"