2
الفصل 2
“آه، آ… كيف عرفتِ؟”
سأل الكاهن، وقد شحب وجهه تمامًا، بنبرةٍ لا تُصدّق.
ولم يكن شحوب وجه آريـنا أقلّ منه.
فبصراحة، لا يمكنها أن تقول إنّها خُدِعت من عائلتها، وماتت وهي تحتضر، ثمّ وقعت في إغواء شيطان فعادت بالزمن إلى الوراء… حتّى لو تمزّق فمها.
“سمعتُ صوتًا في الحلم.”
فمجرّد ذكر كلمة ‘شيطان’ وحدها كان كفيلًا بأن يُلقَى بها فورًا في حوضٍ ممتلئ بالماء المقدّس، لذا اختارت كلماتها بحذرٍ شديد.
“صوت؟! لا تقولي…!”
“نعم، ذاك الذي خطر ببالك.”
“يا إلهي.”
ضمّ المساعد الكاهن يديه معًا، وراح يردّد اسم ‘تيمير’ مرارًا.
صحيح أنّه لم يكن ما في بالهِ هو المقصود، لكن لم تكن هناك حاجة لتصحيح الأمر.
“أتمنّى أن يبقى هذا الأمر بيننا فقط.”
“أتعنين أنّكِ لا تريدين إخبار أيّ أحد؟”
“نعم.”
أغمضت آريـنا عينيها نصف إغماضة، وأنزلت بصرها متصنّعةً ملامح الأسى.
“لا أريد أن أُربك الآخرين بمعلوماتٍ غير مؤكّدة.”
“لكن إن كان المرض حقيقيًّا فعلًا…!”
“أرجوك.”
بعد كلّ هذا العناء والعودة إلى الماضي، لا يعقل أن تمرّ بالإجراءات نفسها مجدّدًا.
“…يبدو أنّ الطبيب لم يغادر المعبد بعد. سأذهب وأخبره فورًا.”
“آسفة لإزعاجك بهذا الطلب.”
“لا، لا بأس. لعلّ هذا أيضًا من مشيئة القدر.”
بعد خروج الكاهن، خيّم الصمت.
وعلى السرير، استرجعت آريـنا لحظة موتها.
‘ما ذلك الضوء؟’
بينما كانت تغرق في الحقد وتطلق اللعنات، تسلّل إلى مجال رؤيتها نورٌ داكن مائل إلى الأحمر.
تذكّرت أنّ مصدره كان من الأسفل، فأنزلت رأسها، لتلمح بروزًا عند صدرها.
أدركت فورًا ما هو، فأدخلت يدها تحت ثيابها وأخرجته.
في عينيها، لمع عقدٌ فضّي على شكل طائر.
“هذا ليس هو.”
العقد الذي كانت آريـنا ترتديه سابقًا لم يكن بجعةً ترمز إلى تيمير، بل حجرًا أزرق على شكل قطرة ماء.
الهدية الوحيدة، والذِكرى الأخيرة، التي تركها لها خطيبها لوسياس آيكلين بعد موته.
كانت تحتفظ به معها حتّى لحظة موتها.
وفجأة، أدركت أنّ الطاقة التي لفّت جسدها في تلك اللحظة خرجت من هذا العقد بالذات.
“كيف امتلك ذلك الشخص غرضًا يحتوي على طاقة سحريّة…؟”
الطاقة السحريّة.
قوّة غامضة لا يستطيع استخدامها سوى سكّان عالم الشياطين، كالشياطين والوحوش.
لم يكن يملك قوّةً مقدّسة، ولا كان قادرًا على استخدام طاقة السيف مثل أخيه.
فكيف حاز شيئًا كهذا؟
وجاء الجواب من مكانٍ غير متوقّع.
‘إذًا، شائعة كونه ابن الإمبراطورة الأولى كانت صحيحة.’
كانت العائلة الإمبراطوريّة في إمبراطوريّة كارانت، حيث عاشت آريـنا، ترث الطاقة السحريّة جيلًا بعد جيل.
والسبب أنّ أوّل إمبراطور كان في الأصل شيطانًا.
ولهذا، كانوا أحيانًا يعجزون عن كبح طاقاتهم، فيقعون في نوبات جنون يقتلون فيها البشر والوحوش دون تمييز.
ولمنع ذلك، اعتادت العائلة الإمبراطوريّة أن تتّخذ قدّيسةً، صاحبة قوّةٍ مضادّة، قرينةً لها.
ومع تعاقب الأجيال، تلاشت الطاقة السحريّة تدريجيًّا، إلى أن صاروا اليوم لا يختلفون عن البشر سوى بحواسّ أقوى قليلًا.
لكن، من حينٍ لآخر، كان يولد فردٌ واحد يمتلك طاقةً هائلة.
وكان يُحتجز منذ طفولته في المعبد، بحجّة الحماية.
‘هل كان الأمير آيكلين يعيش بهويّته تلك هربًا من هذا المصير؟’
على أيّ حال، إن كان حقًّا من سلالةٍ إمبراطوريّة ويستطيع استخدام الطاقة السحريّة، وإن كان هذا العقد الممزوج بتلك القوّة هو ما أعاد الزمن…
فذلك يعني أنّه بإمكانها قلب المصائب التي تواجهها الآن.
وإن كان بالإمكان تغيير خطّ الزمن، فلا بدّ أنّ علاج المرض المستعصي ممكن أيضًا.
“هذا هو!”
هتفت آريـنا بفرح، ونهضت فجأة من السرير.
وفي اللحظة نفسها، دخل المساعد الكاهن الغرفة.
“رأيتُ الأمير بيلينس في الطريق.”
ومنحها غضبًا لم تكن تتوقّعه.
“ذلك الوغد… تقصد أخي؟”
“نعم. بدا وكأنّه يبحث عن السيّدة آريا. لعلّه سمع أنّكِ أغمي عليكِ فجاء قلقًا.”
عندها، أطلقت آريـنا ضحكةً قصيرة ساخرة.
فهي أيضًا، في الماضي، كانت تظنّ أنّه جاء من أجلها.
لكن للأسف، لم يكن مجيء نويل بدافع القلق.
بل لتحذيرها.
“لا تجعلي أمثال هذه الأمور التافهة سببًا لإزعاجي والمجيء إلى هنا مرّةً أخرى. تصرّفي بعقل.”
تذكّرت ظهره البارد وهو يستدير مبتعدًا، فعبست آريـنا بامتعاض.
رأى المساعد الكاهن ذلك، فأسرع يضيف.
“ظننتُ أنّ مقابلتكِ للعائلة ستكون صعبة، لذا لم أُحضرهم إلى هنا.”
بحكم فطنته وبقائه طويلًا إلى جانبها، كان قد أدرك بشكلٍ غامض أنّ العلاقة بينهما سيّئة.
ولهذا، امتنت آريـنا بصدقٍ له، إذ راعى حالتها ومنع لقاءها بنويل.
‘في حياتي السابقة، لم أستطع الاهتمام بك كما ينبغي لانشغالي بنفسي. هذه المرّة، سأكافئك بمنصبٍ جيّد.’
وبينما كانت تنهض من السرير، لم يُحاول المساعد الكاهن منعها كما فعل سابقًا.
“إلى أين تنوين الذهاب؟”
بدل أن يمنعها، سأل، وهو يعلم أنّها تبحث عن مكانٍ آمن بعيدًا عن ذلك الأخ غير الودود.
“إلى مكانٍ لا يستطيع ذاك الإنسان العثور عليّ فيه.”
“هل تقصدين المرحاض…؟”
“بالطبع لا.”
قالتها بحزم، وفتحت الباب.
لكن ما إن رأت من بعيد مؤخرة رأسٍ بلون القمح، حتّى أغلقت الباب من جديد.
“تسك.”
وبينما كان المساعد الكاهن يتخبّط في مكانه، شدّ قبضتيه كأنّه حسم أمره.
“سأخرج وأصطدم به متظاهرًا بالجنون، وخلالها اهربي.”
“حتّى لو فعلت، فشخص مثلك، رقيق البنية، سيُقذَف جانبًا من قبل ذاك الإنسان الذي لا يملك سوى عضلاتٍ بلا فائدة.”
“إذًا سأتشبّث بساقيه.”
“لا. لا داعي لكلّ هذا.”
كانت خطواتٌ غاضبة تقترب عبر الممرّ.
إن بقيا هنا، فسينكشف الأمر، ولن تسمع سوى كلماتٍ تقلب المعدة.
‘طالما أنّه رجل دين، فلن يُقدم على القتل بدافعٍ شخصي. لا بدّ من الاختباء.’
طَق طَق.
فجأة، دقٌّ على الباب، وصوتٌ جهوريّ منخفض.
حبست آريـنا القشعريرة والرغبة في القتل، واتّجهت نحو مخرجٍ آخر.
“آااه! يا إلهي!”
لفّت جسدها بالقوّة المقدّسة، وقفزت بخفّة من ارتفاع طابقين.
وخلفها صرخةٌ رفيعة، بينما اندفعت هي إلى الأمام بأقصى سرعة.
ما إن خرجت من المعبد، رأت أمام المدخل عربةً تحمل شعار بيلينس.
‘بما أنّ الأمور وصلت إلى هذا الحد، فلأهرب تمامًا من ذلك الوغد، وبالمناسبة… لأتفقّد حالة خطيبي.’
رتّبت أفكارها بسرعة، وفتحت باب العربة بلا تردّد.
ففزع السائق، الذي كان يغفو، والتفت إليها.
“آ، آنسة؟”
حين أدرك أنّها الابنة الصغرى التي أدارت ظهرها للعائلة ورحلت إلى المعبد، ضاق نظره.
لكن آريـنا لم تهتمّ بنظرته، وقالت ما تريد.
“انطلق فورًا إلى قلعة آيكلين.”
“ماذا؟ لكن السيّد لا يزال في الداخل….”
“هذا أمرٌ مقدُس، فلا تُكثر الكلام ونفّذ.”
أمام قوّتها، حرّك السائق الخيول فورًا.
وبفضل نظراتها الحازمة، وصلوا إلى دوقيّة آيكلين أسرع ممّا توقّعت.
لكن هذه المرّة، لم تستطع عبور العتبة كما في السابق.
“نعتذر، لكنّ الأمير لا يرغب في لقائكِ.”
عاملها كبير الخدم، التي اقتحمت المكان دون سابق إنذار، كدخيلةٍ غير مرحّب بها.
‘لأنّي لم أُظهر وجهي لعامين، أليس كذلك؟’
رغم وقاحته، أخفت آريـنا انزعاجها وابتسمت بلطف.
“إذًا، هلّا أخبرتَ الدوق بأنّي أودّ مقابلته حالًا؟”
“السيّد الدوق حاليًّا مدعوّ مع زوجته إلى دوقيّة شوفالي، وهو خارج القصر.”
كان موقفه صلبًا، كأنّه لن يتحرّك خطوةً واحدة.
نظرتها إليه بردت فجأة.
“إذًا، الاثنان غير موجودَين؟”
“نعم. لذلك، نرجو منكِ العودة اليوم…!”
قبل أن يُكمل، غرست رمحًا من نور، صنعته بقوّتها المقدّسة، مباشرةً في الباب الرئيسي.
دوووم!
وسقط الباب الضخم بأكمله.
“أنا هنا بصفتي خادمةً للحاكم. والقوّة التي رأيتموها الآن هي أيضًا قوّة مقدّسة منحت إياها من أجل هذا العالم.”
الجانية التي فجّرت المدخل، شبكت يديها وارتسمت على وجهها ابتسامةٌ رحيمة.
“كلّ هذا تصرّفٌ مُقدس، لذا أرجو ألّا تغضبوا.”
غطّى الغبار المكان، وبدت على وجوه كبير الخدم والحراس صدمةٌ واحدة.
“ما هذا…!”
تجاعيد وجه كبير الخدم ازدادت عمقًا.
وأدرك أنّ الأمر خرج عن قدرته، فاستدعى الدعم على عجل.
والذي حضر كان رجلًا بشعرٍ بنيّ، وملامح طيّبة نسبيًّا.
رون تشينتلر.
الذراع اليمنى للدوق آيكلين، ونائبه.
رفيق سلاحه الذي قضى معه خمس سنوات فوق جثث الوحوش.
لذا كان يعلم جيّدًا أنّها لا تفعل شيئًا كهذا دون سبب، فأخذ الموقف على محمل الجدّ.
“لا يكون هذا انتقامًا بسبب حملة الإبادة السابقة، أليس كذلك؟”
سأل إن كان الأمر بسبب استغلال سيّده لها كطُعم.
فهزّت آريـنا رأسها نفيًا.
“إذًا لماذا تفعلين هذا….”
وبينما كان ينظر إلى الباب المحطّم بعينٍ مثقلة، مالت آريـنا قليلًا، فأمسك بذراعها وانحنى ليساعدها.
“في الحقيقة، قبل ساعة فقط، كنتُ منهارة بسبب الإرهاق بعد ثلاثة أيّامٍ من السهر المتواصل.”
“إذًا، لماذا لم تبقي في المعبد؟”
“ليس هذا المهم. ذلك الحلم الذي رأيتُه….”
وبينما كانا يتهامسان، بدأ كبير الخدم يفكّر في كيفية إصلاح الباب.
وفجأة، سمع عبارة: “تفضّلوا بالدخول.”
فاتّسعت عيناه.
“هذا غير ممكن، يا سيّد رون. لا يمكن إدخال غرباء في غياب السيّدين.”
“أفهم مخاوفك يا ألبرتو، لكنّ الأمر عاجل. ثمّ، ألسنا أصلًا في موقفٍ لا يسمح لنا بمنعها؟”
“لكن….”
ظلّ كبير الخدم يرمق آريـنا بنظراتٍ غير راضية.
بدأ الضيق يتسلّل إليها، وفجأةً تذكّرت شيئًا، فحرّكت شفتيها ببطء.
“ورد في الكتاب المقدّس قولٌ كهذا.”
“الكتاب المقدّس فجأة؟”
“رسالة هيلا الأولى، الإصحاح الثاني، الصفحه الرابعة. قيل: ليس كلّ من يعيش في هذا العالم سيحظى بالمحبّة فقط.”
“فحيثما وُجد الحبّ، وُجد البغض أيضًا. فلا تحزن بسبب من يحسدك، بل احتوِه برحابة صدر.”
“…….”
“ولكن، إن كان ذلك البغض بلا سبب، فاصنع له سببًا واضحًا، ليُدرك صاحبُه حماقته بنفسه.”
أغلقت آريـنا فمها بهدوء، ونظرت إلى كبير الخدم.
وعيناها الحمراوان تلمعان ببريقٍ مخيف.
التعليقات لهذا الفصل " 2"