1
الفصل 1
“يبدو أنّهم لم يعثروا على السيّدة القدّيسة بعد.”
داخل المطعم الصاخب، كان صوت رجلٍ واحدٍ على وجه الخصوص يدوّي عاليًا.
“كان يومي يبدأ بقراءة خبر في الجريدة الصباحية عن السيّدة القدّيسة وهي تضرب أولئك الأوغاد. الآن، بأيّ متعة سأعيش؟”
الرجل، الذي احمرّ وجهه قليلًا بفعل الخمر، أطلق تنهيدةً عميقة كأنّه يشكو، موافقًا كلام صديقه.
“صدقت. كنتُ كلّما قرأتُ ذلك الخبر أشعر بالشبع حتّى من دون فطور.”
“بالمناسبة، سمعتُ أنّ القصر الإمبراطوري أصدر أمر ملاحقة في أرجاء القارّة كلّها.”
جسد المرأة التي كانت تتنصّت بهدوء على حديث الطاولة المجاورة انتفض بعنف.
رغم أنّ أحدًا لم ينظر إليها، إلّا أنّها أمسكت بطرف قبعتها وأسدلتها حتّى غطّت أنفها تمامًا.
“ويقولون إنّ عائلات الدوقات الثلاث الكبرى في الإمبراطوريّة جمعت كلّ قوّاها أيضًا.”
“حتّى عائلة بيلينس، عائلة السيّدة القدّيسة نفسها، يبحثون عنها ليلًا ونهارًا، لذا ستظهر قريبًا لا محالة.”
لم يعد بإمكانها تحمّل سماع المزيد، فخرجت من المطعم.
وما إن خطت إلى الأمام حتّى امتدّت أمامها فجأة رزمة أوراق.
“مرحبًا!”
ابتسم صبيّ بائع الجرائد ابتسامةً عريضة، وكان يقف عند المدخل مترقّبًا خروج الزبائن.
“ألا تشعرين بالفضول حيال السيّدة القدّيسة المختفية؟”
“لا أشعرُ.”
هل كان جوابها حازمًا أكثر من اللازم؟
تردّد بريق عيني الصبيّ بسرعة.
“لكن… أريد واحدة.”
لأنّ تعبير الصدمة على وجهه بدا مؤلمًا، اشترت الجريدة بذريعةٍ كهذه، رغم أنّها لم تُلقِ عليها نظرةً واحدة طوال هروبها.
“هاه….”
ضحكةٌ فارغة تسلّلت من فمها ما إن رأت العنوان المكتوب في الصفحة الأولى.
『مرّ عشرة أيّام على الاختفاء. الكونتيسة بيلينس تنهار في النهاية』
تفاجأت بخبرٍ عن شخصٍ لم تتوقّعه أبدًا، فأعادت قراءة المقال مرارًا، ثمّ تابعت الصفحات الخلفيّة.
لم يكن فيها سوى القلق على القدّيسة المختفية وتقارير عن عمليّات البحث.
وفي أيّ مكانٍ لم يُذكر شيء عن حقيقتها.
‘كنتُ أظنّهم سيعلنون الأمر في اليوم التالي مباشرة بعد رحيلي.’
لكن بسبب صورتهم أمام الناس، لا بدّ أنّهم ما زالوا يُخفون حقيقة ابنتهم الحقيقيّة، ويتظاهرون بالبحث عن الابنة الزائفة التي اختفت.
الآخرون الذين قيل إنّهم يبحثون عنها بجنون، لا بدّ أنّهم في الوضع نفسه.
ولهذا، حين فتحت الصفحة الأخيرة من الجريدة لتتخلّص ممّا تبقّى في قلبها من تعلّق، تجمّد وجهها في لحظة.
في القصاصة الوحيدة التي لم تتحدّث عن القدّيسة، كُتب اسمٌ مألوفٌ لها حدّ الألم.
『أينما كنتِ، سأعثر عليكِ حتمًا. آريـنا.
― زوجكِ المستقبلي ―』
قشعريرة صعدت على طول عمودها الفقري، فارتجف جسدها الصغير.
أغلقت الجريدة بعجلة، وراحت تنظر حولها بارتباك.
“أيّ ورطة هذه… كلّ هذا لأنّي كذبتُ وقلتُ إنّي تزوّجت.”
ومع تنهيدةٍ طويلة وهمهمةٍ صغيرة، استدار جسدها ببطء نحو اتّجاه البحر الأزرق.
“…….”
كانت تعلم أنّ الذهاب إلى هناك يعني أنّ كلّ ما بنته سينهار كقصرٍ من رمال.
ومع ذلك، لم تتردّد، وخطت إلى الأمام.
فبهذا فقط يمكن لكلّ ما انحرف أن يعود إلى مساره الصحيح.
ولذلك، لم يعد بإمكانها التراجع عن خيارها الآن.
“يجب أن أُسرع.”
ارتسمت على وجه المرأة ابتسامةٌ حزينة واضحة، ثمّ تلاشت سريعًا.
* * *
“لنختر تلك الطفلة.”
كما لكل عملةٍ وجهان ، يأتي الحظّ والشقاء معًا في اللحظة نفسها.
كأن تُحرم الفتاة الأذكى في دار الأيتام من التبنّي على يد زوجين في منتصف العمر كانا يُحبّانها.
وكأن يحصل مدير الدار على مئتي قطعةٍ ذهبيّة لقاء بيع طفلةٍ كان مقرّرًا تبنّيها، فقط لأنّ نبيلًا غريبًا أشار إليها بإصبعه.
دائمًا ما كانت النتائج غير عادلة.
“لماذا أنا تحديدًا؟”
سألت الطفلة، ودموعها تملأ عينيها، بعد أن كانت غارقةً في السعادة حتّى صباح اليوم.
فأجابها رجلٌ مجهول الهويّة ببرود.
“اخترناكِ لأنّكِ من بين هؤلاء الأيتام البلهاء، الأكثر قدرةً على استخدام عقلك.”
بكلماتٍ باردة كالجليد، داس كونت بيلينس على الأشخاص الذين أحبّتهم الطفلة.
ثمّ قال بحزمٍ قاطع.
“إلى أن نعثر على ابنتنا المفقودة، عليكِ أن تتصرّفي وكأنّكِ آريا بيلينس، ابنة الكونت، دون أيّ نقص.”
“وإن كُشفت حقيقتكِ، أو حاولتِ الهرب، فلن يخرج لا أنتِ ولا من في دار الأيتام سالمين.”
“…حسنًا.”
شدّت الطفلة على يدها المرتجفة، وتخيّلت مستقبلها.
لا بدّ أنّه سيكون بائسًا، مرعبًا، ومؤلمًا.
وكان توقّع آريـنا دقيقًا تمامًا.
“من أين جلبتم هذه المتسوّلة، وتطلبون منّي فجأة أن أناديها ابنتي؟ أهذا كلام عاقل؟”
“من أجل خطوبة آيكلين، عليكِ تقبّل الأمر حتّى لو كرهتِه.”
“هذا خداعٌ لي وله معًا!”
“إذا تمّت الخطوبة، قال آيكلين إنّه سيسقط ديوننا. وأنتِ لا تريدين أن تُفنى العائلة، أليس كذلك؟”
“ومع ذلك… لا أستطيع تقبّل هذا.”
رغم إلحاح زوجها، رفضت كونتيسة بيلينس الطفلة بشدّة.
وكذلك كان حال الابن، الذي هو في العمر نفسه، لكن كان عليها أن تناديه أخًا أكبر في المستقبل.
كانا يتجاهلانها تمامًا، حتّى لو كانت أمام أعينهما.
حتّى الكونت نفسه، الذي جلبها إلى المنزل، كان يرمقها بازدراء كلّما حاولت الحديث معه، ثمّ يبتعد.
كانت أيّامًا مليئةً بالظلم والألم.
لكن آريـنا تحمّلت.
لأنّ عليها أن تحمي من تحبّهم.
“في سنّ العاشرة فقط، وحللتِ هذه المسألة؟ مذهل فعلًا.”
“لدى الآنسة موهبة موسيقيّة فطريّة.”
“يا لها من خطوات رقص أنيقة وجذّابة!”
بذلت جهدًا يائسًا من أجلهم، وأدّت دور البديلة على أكمل وجه.
لكن الكونت، خوفًا من انكشاف الأمر، ادّعى أنّ ابنته مريضة، ومنعها من دخول المجتمع.
المرّة الوحيدة التي سُمح لها بالظهور كانت عند لقاء خطيبها، الأمير آيكلين.
على عكس الشائعات عن حدّته، كان لطيفًا معها.
بل إنّه أبدى رغبةً حقيقيّة في الزواج.
لكن كونتيسة بيلينس، التي لم يُعجبها ذلك، أبعدتها إلى المعبد.
“إيّاكِ أن تعودي إلى هنا قبل أن تصبحي قدّيسة.”
كانت رتبة القدّيسة أعلى منصبٍ يمكن أن تصل إليه امرأةٌ في المعبد.
تطلّبت قوّةً مقدسة هائلة، وإنجازات، ودعمًا شعبيًّا.
ومن أجل كسر أنف الكونتيسة، وفي الوقت نفسه بناء قوّة تواجههم بها، بذلت آريـنا جهدًا يفوق الوصف.
نمّت قوّتها ليلًا ونهارًا.
وحشرت علم في رأسها حتّى لو اضطُرّت لمضغ الورق.
بل وشاركت طوعًا في حملات إبادة الوحوش، متحدّيةً اعتراض الجميع، حتّى نالت ثقة العائلات النبيلة والإمبراطوريّة.
وأثمرت تلك الجهود نتائج عظيمة.
منذ الخامسة عشرة بدأت تبرز، وفي الحادية والعشرين أصبحت قدّيسة.
ومع الثروة والشهرة، عاملتها عائلتها أخيرًا كابنةٍ حقيقيّة، وتباهوا بها.
هذا التبدّل السهل في المواقف أشعرها بالغثيان.
وحين بدأت الاستعداد لمغادرة العائلة، اصطدمت بحاجزٍ غير متوقّع.
“للأسف، هذا ليس مجرّد إرهاق. إنّها أعراض مرض يُدعى باراكا.”
مرض باراكا، داءٌ مستعصٍ بنسبة وفاة تصل إلى 95%.
يحدث بسبب الإفراط في استخدام القوّة المقدسة، ما يؤدّي إلى تلف القلب وفقدان السيطرة، مع نوبات انفجارٍ متقطّعة.
كانت قد شكّت بالأمر منذ ترشيحها كقدّيسة، لكنّها تجاهلته باستخفاف.
وكان ذلك التهاون كارثةً دمّرت كلّ شيء.
“على الرغم من أنّها ستّة أشهر فقط، فقد أديتِ واجباتكِ كقدّيسة على أكمل وجه.”
“لذا نأمل أن تقضي ما تبقّى من وقتكِ بسلام.”
وبمجرّد أن تركت منصبها، ظهرَت ‘آريا بيلينس’ الحقيقيّة، وكأنّها كانت تنتظر.
وبطبيعة الحال، طُردت آريـنا إلى جناحٍ جانبيّ بحجّة العلاج.
في مكانٍ لا يزورها فيه سوى خادمةٍ واحدة، بدأت تموت ببطء وسط الإهمال.
وكان سندها الوحيد الأمير آيكلين، الذي خطبها عشر سنوات.
رغم ظهور الحقيقيّة، استمرّ في تلقّي رسائلها، ويرسل بدل الردّ باقات زهور.
تشجّعت وطلبت لقاءه لآخر مرّة.
وجاءها الردّ الأوّل… يحمل خبر وفاته، والقلادة التي تركها لها.
تردّدت شائعات كثيرة عن موته.
منها أنّه ابن الإمبراطورة الأولى التي ماتت قبل عقود، وأنّ الإمبراطورة الثانية تخلّصت منه بعد أن عرفت الحقيقة.
لكن بالنسبة لآريـنا، لم يعد يهمّ من يكون.
فقط حقيقة أنّه لم يعد لها أحد تتّكئ عليه.
وبعد أن فقدت آخر دفءٍ لها، بدأت آريا الحقيقيّة تعذّبها بلا رحمة.
“لأنّكِ زائفة، وتطمعين في مكاني، أُصبتِ بمرضٍ لا شفاء له.”
ومن عينيها اللامعتين شعرت آريـنا بطاقةٍ شريرة.
هي التي قتلت عددًا لا يُحصى من الوحوش، أدركت الحقيقة فورًا.
آريا بيلينس كانت شيطانًا متنكّرًا في هيئة إنسان.
لم تعرف كيف استحوذ الشيطان عليها، لكن لا يمكن تركها تعيش بين البشر هكذا.
وحين جمعت شجاعتها وأخبرت بالحقيقة، ضربها الكونت وزوجته ضربًا مبرّحًا.
“رغم أنّها فقدت قيمتها، أبقيناها هنا. لكن كيف تجرؤ على إهانة ابنتي؟”
“قلتُ لك. ما كان يجب إدخال شيء كهذا إلى العائلة.”
“اطردوا هذه الجاحدة فورًا!”
“أبي، أمّي.”
بينما كانت تُسحب كالمذنبة إلى خارج القصر، أنقذها أخوها نويل بيلينس.
“قبل الإعلان الرسمي عن وجود آريا، فلنُرسلها إلى الريف، بعيدًا عن الأنظار.”
وهكذا أنقذها، وأعطاها كيسًا من الذهب، وعربة.
شكرتْه مرارًا، وركبت العربة بسذاجة.
وفجأة، تحطّم الزجاج، واخترق سهمٌ مسموم قلبها.
ومن هاجمها كانوا فرسان بيلينس النخبة.
“سنتولّى أمر الجثّة. اذهبوا وأبلغوا السيّد أنّ الأمر انتهى.”
عندها فقط أدركت أنّ كلّ شيء كان مخطّط نويل.
وبينما كانت تتقيّأ الدم، ندمت على حياتها.
‘ما كان ينبغي أن أعيش هكذا.’
وفي اللحظة التي سالت فيها دمعة، أضاء نورٌ ساطع، ودوى صوتٌ قرب أذنها.
―ما أمنيتكِ؟―
من نبرة الصوت الشريرة، أدركت أنّه ليس بشيءٍ خير، بل شيطانٌ جاء ليفسد روحها.
لكنّها، وقد بلغت أقصى درجات الحقد، صرخت به.
“اجعلهم يشعرون بالألم الذي ذقته…!”
ومع تقيّؤ الدم، شعرت بدفءٍ يغمرها، وأُغلقت عيناها ببطء.
―كما تشائين.―
وكانت تلك آخر كلمات سمعتها قبل أن تلفظ أنفاسها.
—
“السيّدة آريا، لقد استيقظتِ!”
“…….”
أمام المعجزة غير المتوقّعة، ساد الارتباك آريـنا.
“لماذا أنا هنا…؟”
تمتمت وهي تنظر إلى ظهر يدها الناعم، ثمّ رمشت بعينيها بسرعة.
‘لا توجد ندوب… ولا آثار الطرد؟’
وبينما كانت غارقةً في التفكير، تكلّم المساعد الكاهن بحذر.
“زارنا الطبيب قبل قليل. ووفقًا له، فإنّ سبب انهياركِ ليس مجرّد إرهاق…”
وقبل أن يُكمل، قاطعته دون وعي.
“قد يكون بسبب مرض باراكا.”
“…!”
وبهدوء، نطقت بالجملة التي لا يمكن أن تنساها.
“مرضٌ ينشأ عن الإفراط في استخدام القوّة المقدسة، يؤدّي إلى تلف القلب، وينتهي بالموت.”
“هاه…!”
“وقالوا إنّ العمر المتبقّي بعد الإصابة لا يتجاوز سنة واحدة، أليس كذلك؟”
انعكست صورة الكاهن المساعد، الذي كاد يسقط من شدّة الصدمة، في عينيها الحمراوين المفعمتين بالحياة.
التعليقات لهذا الفصل " 1"