85
لقد كانت لحظات القبلة مع هيلرون معدودة، لكنها كانت دائمًا تحمل طابعًا خاصًا. كل مرة كانت تنبع من نزوة لإثارته وإزعاجه، فكنت أربطه وهو يقاوم، ثم أقترب لأطبع قبلة على شفتيه.
وكان هيلرون، في كل مرة، يشتعل غضبًا، عيناه الزرقاوان تتحولان إلى لهيب متوهج، كأنما نارٌ تتراقص فيهما. تلك العينان، التي كانت كالجليد في برودتها، حين تتحول إلى شعلة وهي ترمقني، كانت مشهدًا لا يُملّ مهما تكرر. كان ذلك ممتعًا، فأكرر القبلة أحيانًا، ليس كثيرًا، بل نادرًا جدًا.
لكن هذه المرة، لم أفهم سبب فعلي. لقد كان تصرفًا عفويًا بحتًا، كأنما تحركت شفتاي دون إذن من عقلي. شعرتُ بغضبه قليلًا، فأردتُ تهدئته، لكنني وجدتُ نفسي قد نهضتُ على أطراف أصابعي وشفتاي تلتقيان بشفتيه.
شعرتُ بليونة شفتيه الناعمة تلامس شفتيّ، وتسعت عيناه في دهشة. رأيتُ بوضوح كيف اتسعت حدقتاه السوداوان، وكيف اهتزت عيناه الزرقاوان، التي كانت مغشاة بضباب المشاعر المضطربة، في ارتباكٍ واضح.
ثم، بصوت خفيف محرج، انفصلت شفتينا، لكن وجوهنا ظلت قريبة، عيوننا متشابكة، أنفاسنا الحارة تختلط. كانت أنفاسًا مشبعة بدفءٍ ساحر.
شعرتُ بالخجل متأخرًا، فقد كانت هذه المرة الأولى التي أقبله فيها بمثل هذه الأجواء. حاولتُ التراجع وقلتُ مرتبكة: “أنا فقط…”، لكن كلامي لم يكتمل.
جذبني هيلرون بقوة من ذراعيه المقيدتين بالسلاسل، فاندفعتُ إلى حضنه الواسع. أمسك خصري بيدٍ قوية، وعاد شفتيه لتلتقي بشفتي مرة أخرى بعنفٍ رقيق.
في تلك اللحظة، نسيتُ كل شيء. شدني إليه بيدي الحرة، والاخرى ملتفة حول عنقه، واستمرّت القبلة طويلًا… أو ربما كانت قصيرة جدًا، لا أدري. عضّ شفتي السفلى بأسنانه بحزم، كأنما يريد ترك علامة تخصه. أيقظني الألم الخفيف من سحر اللحظة، فدفعته بعيدًا.
في تلك اللحظة، بدا عالم الوهم، “الفانتازيا”، وكأنه يتغير. الزهور التي كانت تنضح برائحة خانقة أصبحت عبيرها ألطف. الأورغ المعطوب، الذي كان يعزف نغمات مشوهة، بدأ يصدح بألحان سلسة. الجنود اللعبة، الذين كانوا يسيرون في فوضى، اصطفوا بهدوء، وقطع الشطرنج التي كانت تطفو بعشوائية استقرت على الأرض. الدمية الممزقة أصبحت سليمة، والكعكة التي كانت تنزف سائلًا أحمر مقززًا تحولت إلى كعكة ثلاثية الطبقات تتلألأ.
هدأ المجال المضطرب، ولم تبقَ إلا الفراشات التي تنثر الضوء في رقصتها الهادئة.
نظرتُ إلى هيلرون، شفتاي متورمتان قليلًا. عيناه الباردتان النقيتان كانتا قد اكتستا بحمرة دافئة، وخداه متوردان، وشفتاه حمراء منتفخة.
لم يبدُ كفارسٍ مقدس في زيه الناصع، بل كشخصٍ آخر تمامًا. ثم قال بصوتٍ عميق: “اجعليني الأول، ليتشيسيا.”
لم تعد عيناه هادئتين. كانتا كبحرٍ عاصف، مشاعره كتسونامي جارف يهدد بابتلاع كل شيء. السلاسل التي تقيد ذراعيه ارتعشت، لكنني لم أعرف إن كانت هي التي ترتجف أم أنا.
“كل مشاعرك، يجب أن أكون أولها.”
كانت مطالبتُه واثقة، كأنه يطالب بحقٍ مشروع.
“حتى لو قبلتِ الكثيرين، اجعليني الأكثر تميزًا.”
ثم جذب زيه بقوة، فتطايرت أزرار فضية، كاشفة عن جلده الذي تحته وشمٌ أحمر يلمع كأنه يتعرف على صاحبه. قال وهو يشير إلى الوشم: “مهما تركتِ علاماتك على الآخرين، اجعليني الأهم.”
تحول الوهم المحطم إلى كمالٍ غريب، لكن محقق الهرطقات النبيل بدا هو الذي تحطم. في عالم الوهم، كشف هيلرون عن ظلامه، مشاعر عميقة ومظلمة فاجأت حتى ليتشيسيا، المُلقبة بالساحرة.
“أنتِ مسؤولة عن تحطيمي، لذا…”
شد السلاسل على ذراعيه حتى شعرتُ بألم خفيف، عيناه لا تفارقانني، ثم أردف: “لن أدعكِ تنهين علاقتنا بسهولة.”
لم أكن أنوي إنهاء شيء، لكن سوء الفهم بدا يتراكم. لم أصحح له، فقد كان عليّ الانتظار حتى أتحرر من هذا الجسد الطفولي. لو أخبرته الآن، لتعقدت الأمور أكثر. فقلتُ بهدوء: “علامة الصيد… لم أضعها على أحد كما وضعتها عليك.”
كانت هذه الحقيقة. لم أكن قد نقشْتُ وشمًا بعناية وحرص على أحد سواه. قبل أن يرد، استدعيتُ فأسي بيدي الحرة، وقطعتُ السلاسل التي تقيده، ثم تراجعتُ.
الزهرة التي كانت تمسك بإيتار تقيأته فجأة، فسقط مغشيًا عليه على رقعة الشطرنج. صعدتُ فوق كومة الزهور وقلتُ: “اقبض على هذا الهرطوقي، ولا تخرجه من غرفة التحقيق حتى تنتهي إعادة تأهيله.”
انتهى عملي هنا. البقاء أكثر سيضرني أنا فقط، فأنا من لديها أسرار كثيرة. رفعتُ فأسي، عازمة على تحطيم الوهم. صرخ هيلرون:
“ليتشيسيا!” واندفعت السلاسل نحوي، لكنني ابتسمتُ له، ثم هززتُ الفأس. انهار الوضع، كحلمٍ عابر.
***
“آه!” ارتطمتُ بالأرض بقوة، مؤخرتي تؤلمني. فركتها برفق ونهضتُ، ثم اقتربتُ من النافذة. وضعتُ كرسيًا وتسلقتُ إلى عتبة النافذة. رأيتُ تجمعًا غريبًا أمام القصر: فرسان مقدسون ومرتزقة.
كانوا لافتين للنظر في حي هادئ راقٍ. كانوا يتهامسون فيما بينهم، حتى ظهر هيلرون وإيتار فجأة وسط الفراشات وبتلات الزهور.
ضحكتُ وأنا أرى إيتار يسقط على الأرض بمظهر مثير للشفقة.
تجمع الفرسان حول هيلرون، الذي أعطاهم أوامر بهدوء. تم تقييد إيتار والمرتزقة الذين استأجرهم.
حاول البعض المقاومة، لكن دون جدوى، خصوصًا مع إغماء إيتار. وأنا أضحك، التفت هيلرون فجأة.
تقاطعت عيوننا، رغم المسافة، كنتُ متأكدة أنه يراني. حاولتُ التراجع، لكن سلسلة بيضاء امتدت نحوي فجأة.
“آه!” جرتني السلسلة عبر الهواء، لأهبط في حضن هيلرون. قلبي يدق بجنون من الرعب.
تمتم هيلرون: “يبدو أنكِ تُمسكين بسهولة.”
نظرتُ إليه مذهولة، لم يستطع الإمساك بليتشيسيا في الوهم، فقرر الإمساك بي بدلاً منها.
فتح باب القصر، وخرجت كارها بنبرة ساخرة: “يا سيدي، توقف عن مضايقة طفلتنا، وتعالَ لتناول الشاي معنا.”
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 85"