65
كان إيشويل يدرك أنه وُلد بموهبة سحرية نادرة، ففي أرجاء القارة بأسرها، لم يكن يوجد سوى قلة قليلة من السحرة الذين يمتلكون مثل هذه المقدرة الثمينة.
وعندما تجلى موهبته، ثار دوق إيفروييل ثورة عارمة، متلهفًا لاصطحابه تحت جناحه وتدريبه بنفسه بكل ما أوتي من قوة. لكن كييرن، على عكس ذلك، لم يُجبر إيشويل على تعلم السحر، بل ترك له الحرية.
حين أبدى إيشويل عدم اهتمامه بالسحر، تولى كييرن طرد الدوقة المزعجة بنفسه، قائلاً بهدوء: “سأعلمه السحر عندما يرغب هو في ذلك”.
كان كييرن يتمتع بثقة مطلقة، فحتى لو كان إيشويل يمتلك قوة سحرية فذة، لم يكن يرى ضرورة لإجباره على استغلالها ما دامت لا تستهويه.
موقف غريب، لا سيما أن كييرن نفسه كان ساحرًا. ورغم أن إيشويل أعلن رفضه تعلم السحر، فإن دعم كييرن الثابت أثار فيه الفضول.
سأله إيشويل عن السبب، فأجاب كييرن بنبرة هادئة واثقة: “القوة لا تأتي إلا مع الشوق الملحّ إليها”.
ثم أضاف ببطء، متكئًا على غطرسته الباسيليانية الأصيلة: “إن جهود الآخرين التي استغرقوها سنوات لبنائها، يمكن لموهبتك أن تهدمها في لحظة. لذا، افعل ما تشاء حين تشاء، يا إيشويل، فأنت باسيليان”.
بفضل هذا، عاش إيشويل حياة حرة، يكتفي بحفظ بعض التعاويذ البسيطة التي يستخدمها بين الحين والآخر عند الحاجة، دون أن يشعر يومًا بالندم.
لم يكن يهتم بالقتال أو التنافس مع الآخرين، وإن وقعت مشكلة، كان كارها يتولى حلها بسرعة. حتى لو هاجمه أحدهم، كان يكفيه تعويذة أو اثنتان مشبعتان بقوة سحرية لينهي الأمر.
لم يكن يطمح أن يكون عالمًا أو مرتزقًا، فظن أنه لن يضطر أبدًا لتعلم السحر بجدية. لكن اليوم، شعر إيشويل لأول مرة بما عناه كييرن بـ”الشوق الملحّ”.
رسم دائرة سحرية بيد مرتجفة لينقذ أخاه الأصغر من السقوط، لكن الدائرة كانت ركيكة، مجرد ذكرى عابرة رآها مرة واحدة، فلم يكن متأكدًا من دقتها.
أضاءت الدائرة بضوء ذهبي براق، ونجح في رفع تشيشا بالرياح، لكن القوة السحرية انفلتت من سيطرته، فاندفعت تشيشا في الهواء ككرة صغيرة بلا حول ولا قوة.
في تلك اللحظة، شعر إيشويل بقلبه يتمزق، وكأن أنفاسه توقفت. حاول يائسًا رسم دائرة أخرى، لكن الوقت كان قد فات، وسقطت تشيشا.
لحسن الحظ، أنقذها كييرن بسحره الأسود في اللحظة الأخيرة. اطمأن إيشويل على سلامة أخيه، ثم انهار على الأرض.
شعر بالبؤس. لو أنه أتقن السحر منذ البداية… كانت هذه المرة الثانية التي يشعر فيها بمثل هذا الضعف منذ وفاة والدته. عض شفتيه بقوة، وتاق إلى القوة، عازمًا ألا يفقد أخته أمام عينيه مرة أخرى. رفع صوته وقال: “علميني السحر”.
لقد قرر أن يصبح ساحرًا.
—
تساقطت قطرات الماء ببطء في حمام مفعم بالبخار الحار، حيث غشى الضباب الأبيض كل شيء.
كان الساعد المستند إلى حوض الرخام مشدودًا بعضلات ناعمة، تتدلى منها قطرات الماء بطيئة على خطوط العضل تلك.
رغم دفء الماء الذي يغمر جسده، لم تتلاشَ البرودة في عينيه الزرقاوين. مرر يده على شعره المبلل، كاشفًا عن جبهة بيضاء ناصعة، وتحت أنف بارز، انفرجت شفتاه قليلاً.
“ها…”، زفر نفسًا خفيفًا، ثم أغمض عينيه للحظة قبل أن يفتحهما فجأة وينهض من الحوض
. تدفق الماء بقوة، كاشفًا عن جسد عارٍ لم يزينه سوى سوارين في معصميه. كان جسدًا مشحونًا بقوة فارس تمرس حتى أقصى حد، يتألق بخطوط عضلية حادة وجميلة.
لكنه جسد كان يفترض أن يكون مثاليًا كسيف الإله، شوهته ندوب مرعبة تمتد من كتفيه إلى أسفل ظهره، ثمانية خطوط طويلة مقسمة أربعة على كل جانب من العمود الفقري، كأنها آثار أجنحة ممزقة.
في الإمبراطورية المقدسة، حيث يُفترض أن تظل أجساد المؤمنين نقية خالية من العيوب، كان هذا أمرًا لا يصدق. فالفرسان المقدسون، رغم تدريباتهم القاسية، لا يحملون أثر خدش واحد بفضل القوة المقدسة التي تشفيهم.
لكن جسد هذا الرجل، هيلون، كان ملطخًا، ليس فقط بالندوب، بل بشيء آخر. وضع يده على ترقوته، حيث مسح نقش زهرة قرمزية، ثم خرج من الحوض تمامًا.
جفف جسده بقماش، وارتدى ملابس عادية، لكنها كانت أيضًا من النوع المحتشم الذي يغطي حتى عنقه، كما يليق بفارس مقدس.
وقف أمام المرآة، يزرر أزرارًا فضية على قماش أزرق داكن، محدقًا في انعكاسه بعينين خاليتين من التعبير حتى اختفى النقش الزهري تحت الملابس.
خرج ليجد دارين ينتظره بوجه متوتر: “سيد هيلون، كبير الكهنة يطلب حضورك”. أجاب هيلون ببرود: “قل له أن ينتظر”.
تردد دارين: “لكن… ألا يجدر بك أن ترضيه هذه المرة؟”. كان هيلون قد دمر معبدًا في عاصمة إمبراطورية فالين، ومع سلوكه المريب مؤخرًا، لن يتغاضى الملك المقدس عن ذلك بسهولة.
بينما سال العرق البارد على ظهر دارين المرتعب، ظل هيلون هادئًا، بل بدا كأنه يشعر بالملل. قال باختصار: “أسبوع”. ثم أضاف، تاركًا دارين المذهول: “بعد أسبوع، سألتقي بكونت باسيليان ثم أعود إلى الإمبراطورية المقدسة”.
سأله دارين: “وهل يستحق ذلك؟”. لم يكن دارين يعلم أن الكونت ساحر أسود بسبب تلاعب الذاكرة، لكن حتى لو عرف، لما فهم لماذا يخاطر هيلون بغضب الملك المقدس.
كان هيلون نفسه سيفكر بنفس الطريقة، لولا تلك الكلمات التي سمعها: “الإمبراطورية المقدسة أجرت تجارب مروعة على الجنيات، ألا يثير ذلك اهتمامك؟”.
تساءل هيلون عن السبب الذي يدفع ريتشيسيا، الساحرة الماكرة، للهروب. كانت قادرة على قتل كل من يطاردها، لكن إن كان خصمها الإمبراطورية المقدسة، فالأمر مختلف.
كان عليه أن يرى المعلومات التي سيحضرها كونت باسيليان. فرك سواره بعادة، متذكرًا صوت سلاسل خافتة، وانتقلت أفكاره إلى الطفلة ذات العينين الورديتين، تشيشا باسيليان، محور كل ما يحدث الآن.
“وأين الطفلة؟” سأل. أجاب دارين: “تلعب مع الخدم، يحبونها جميعًا لجمالها وبراءتها”. حتى الساحرة كانت كذلك؛ الجميع يتوق إليها، يلعنونها في الخفاء ويتمنون نظرة منها في العلن. لم يرفضها أحد قط، فكيف لم ترتبط بأحد بعد؟ رغم فهمه المنطقي لذلك، كان هيلون يشعر بانقباض في صدره كلما تخيل ريتشيسيا تهب قلبها لأحد.
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 65"