ما يُولَد مع المرء.
أينَ هذا المكان؟
أمامِي كان سربٌ من الطيور يضربُ بأجنحته في السماء بقوّة.
وبينما كنتُ أحدّقُ في الأعالي بذهول، أعادتني أصواتُ صياحها إلى وعيي.
‘ما هذا؟’
حين أدرتُ رأسي، رأيتُ رجلًا جالسًا ورأسُه مطأطأٌ بعمق.
لم يتحرّك قيدَ أنملة، لكنّه انتفضَ قليلًا عند إحساسه بوجودي.
“مَن…… أنتَ؟”
ما إن خرج صوتي، حتّى رفع الرجلُ رأسَه على عَجَل.
“رافين؟”
تذبذبت عينا رافين الداكنتان باضطرابٍ خفيف.
وبدافع الحيرة، نظرتُ حولي.
دخل في مجال بصري سقفٌ منهار، وجدارٌ مثقوبٌ من أحد جوانبه.
الكوخ الذي كان مأواي فقد شكلَ البيت تمامًا.
وفي اللحظة ذاتها، اجتاحت أنفي رائحةُ دمّ الغوبلين الكريهة القادمة من الخارج، فانتزعت ذاكرتي انتزاعًا.
‘صحيح.’
لقد هاجمتنا تلك الوحوش اللعينة في جماعة.
وبسببهم انهار البيت الذي اشتريتُه بشقّ الأنفس بمالٍ أعطاني إيّاه أبي.
ومع ذلك، نجوتُ.
تعرّضتُ لهجوم الغوبلين، ولم أمُت، وما زلتُ أتنفّس بوضوح.
ورافين كذلك.
ابتسمتُ شكرًا لنجاتنا، لكنّ رافين عقد حاجبيه.
“هل هذا وقتُ ضحك؟”
تسرّب تذمّرُه بصوتٍ منخفض.
وجودُ رافين إلى جانبي كان غير متوقّع.
ظننتُه سيتركني ويرحل منذ زمن.
“أنتَ الذي نقلتني؟”
كان في تعبير وجه رافين ظلامٌ غير مألوف.
آه، هل غضب لأنّي خاطبتُه بلا تكلّف؟
“اتّفقنا على ذلك لأنّك أصغرُ منّي، أليس كذلك؟”
قلتُها وأنا أحتجّ، فحدّق بي رافين بنظرةٍ مشوّهةٍ حادّة.
“هل جُنِنتِ؟”
“همم، لا أظنّ.”
تعمّقت التجاعيد بين حاجبيه أكثر.
“لا تظنّين؟ هل تعرفين ما الغوبلين أصلًا؟ أم أنّكِ فقدتِ عقلكِ؟”
“لا أجهل الأمر…….”
كان رافين غاضبًا بشدّة، وصوتُه المتهيج يعلو ويقسو شيئًا فشيئًا.
“كان هناك عشرةٌ من تلك المخلوقات اللعينة!”
التزم رافين بصيغة الاحترام كما وعد، لكنّ كلماته كانت فظّة.
أترى لهجته الساخرة أشدّ حين يتكلّم بتهذيب؟ أم أنّه مجرّد شعور؟
“وفوق ذلك، جاء عددٌ أكبر لدعمهم.
ومع هذا، لم تهربي، بل أصررتِ على إنقاذي……!”
توقّف فجأةً وشدّ قبضته.
كانت يدُ رافين الموضوعة على السرير ترتجف.
أنقذتُه، ونجوتُ أنا أيضًا، ومع ذلك تسلّل إليّ شعورٌ بالذنب.
“اللعنة.”
سكنت الأجواء مع صوته المشبع بازدراء الذات.
“في المرّة القادمة، أرجوكِ، فكّري بحياتكِ أوّلًا.”
“…….”
“لقد سئمتُ رؤية الناس يموتون أمامي.”
اهتزّ صوتُ رافين كأنّه على وشك الانكسار.
نظرتُ إليه، جالسًا كجروٍ مبتلّ بالمطر.
وعند التأمّل، لم يكن غضبُه غضبًا بقدر ما كان خوفًا طاغيًا.
“أنا آسفة حقًّا. لكنّ المهم أنّنا نجونا معًا.”
قلتُ ذلك مبتسمة.
“أنتِ فعلًا—!”
“…….”
“تبًّا، كفى.”
كتم ما بلغ حلقه وأدار رأسه بعنف، ثمّ حلّ الصمت.
اعتذرتُ على عجل، لكنّي تساءلت إن كان من الصواب تلقّي هذا النوع من الوعظ من شخصٍ كان على وشك الانتحار.
وبينما كنتُ أحاول النهوض متجاهلةً الجوّ المحرج، اندفع الألم من أطراف قدميّ، فسبقني الأنين.
“آه!”
ما هذا؟
لم تكن ساقاي تستجيبان لي إطلاقًا.
“تمهّلي. ذراعُكِ مصابة أيضًا، والعضلاتُ قد أُجهِدت.”
قال رافين بلا اكتراث.
“حقًّا؟”
كنتُ متيقّنةً من أنّها كُسرت، فتنفّستُ الصعداء.
نظر إليّ رافين بتعبيرٍ غير مصدّق.
“مع ذلك، أنتِ مصابة. لن تتمكّني من المشي كما ينبغي لمدّة أسبوعٍ على الأقلّ.”
“لا بأس، أمرٌ بسيط. وأنتَ، هل أنتَ بخير؟”
“لماذا تُصرّين على القلق عليّ؟!”
قالها بنبرةٍ متضايقة.
“تبًّا، ألا تعرفين كيف تبقين مستلقية؟ لن تجني من الحركة سوى تفاقم الجراح.”
“تقصد أن أبقى ممدّدةً هنا فحسب؟”
حين أدرك مغزى كلامي، نظر رافين إلى السقف السماويّ الفارغ.
“……بصراحة، هذا كلّه يقع على عاتقي، سأُصلِح السقف بأيّ طريقة.”
كان أكثر خضوعًا من ذي قبل.
“لا. إن أردنا تحميل المسؤولية، فهي مسؤوليتي لأنّي أنقذتكَ عنوة.”
لم أكن لأنوي تكليف رافين، الذي كان حاله أسوأ من حالي، بأيّ عملٍ شاق.
وفوق ذلك، لم أكن بلا حيلة.
فباستخدام تعويذةٍ دفاعيّة من السحر الأساسيّ، يمكننا تفادي المطر.
“ليس هذا ما أعنيه…… بل سبب ظهور الغوبلين.”
أضاف رافين.
“قبل وصولي إلى هنا، تعرّضتُ لهجومٍ منهم في تلك الغابة.”
“ماذا؟”
“قتلتُ واحدًا منهم وهربت، ويبدو أنّهم تعقّبوني.”
……إذًا كان كلّ هذا بسببك.
“جاؤوا ليقتلوكَ، وأنا تورّطتُ في الأمر.”
لم أدرِ أأمدحه على صدقه أم أغضب.
ومهما بلغ تسامحي، لا يمكن تجاوز هذا ببساطة.
“رافين، تلك الغابة مليئةٌ بالأشجار، أليس كذلك؟”
نظر حيث أشرتُ.
“اقطع منها ما يكفي. وتخلّص من جثث الغوبلين بعيدًا، فحين تفسد ستفوح رائحتها.”
رمش رافين بعينيه.
“دفنُها في الأرض هو الأفضل. هذا سهلٌ عليك، أليس كذلك؟”
أليس كذلك؟
فكرة عدم تكليفه عملًا شاقًّا لأنّه مصاب—أُلغيَت.
من يُحدِث مشكلة، يُصلِحها بعمله.
—
حين فتحتُ عينيّ، كان الليلُ الدامس يغطّي السماء.
ما زالت ساقاي تؤلمانني، لكنّ جسدي كان أخفّ ممّا سبق.
رفعتُ جذعي ونظرتُ إلى ضوءٍ خافتٍ يتراقص أمامي.
تحت ضوء شمعةٍ دافئ، كان رافين يخلع قميصه الممزّق ويلقيه جانبًا.
هل اغتسل؟
كانت قطراتُ الماء تتساقط من شعره وجسده.
ولونُ شعره المبتلّ بدا داكنًا لامعًا كحجر العقيق الأسود.
طال احتباسُ نظري عليه.
تأمّلتُه ببطء، كأنّي أتفرّس في تمثال، ثمّ تكلّمتُ.
“اغتسلتَ؟”
عند سؤالي الخافت، أنزل رافين بصره.
“نعم. وتخلّصتُ من جميع جثث الغوبلين.”
نقلَهم كلّهم وحده؟
مع أنّني أنا من أمرتُه، كنتُ أنوي أن يكتفي بالقليل ثمّ يستريح.
إزالةُ الغوبلين كلّهم رغم إصابته أمرٌ مدهش، وفوق ذلك، كانت رائحةُ خشبٍ طازج تعبق في المكان.
حتّى دون أن أنظر، علمتُ أنّه قطع أشجارًا.
فكّ رافين الضمادات بوجهٍ لا مبالٍ بعد أن أدهشني بما فعل.
كنتُ أعرف ما تخفيه: جروحٌ عميقة، خدوشٌ متفرّقة، قشورُ دمٍ وكدماتٌ في كلّ موضع.
“……كانت خطيرة، أليس كذلك؟”
لكنّ الجراح الظاهرة لم تكن كذلك.
كان اللحمُ المتشقّق قد التأم تقريبًا، واختفت الخدوش بلا أثر.
حتّى لون بشرته عاد إلى طبيعته.
كما ظننتُ، كان رافين يمتلك قدرة شفاء غير طبيعيّة.
“آه!”
تحرّكتُ بحماسة فأصابني الألم.
“هل تأذّيتِ مجدّدًا؟”
اندفع رافين نحوي دون أن يرتدي شيئًا، وأمسك كتفي بذراعه القويّة.
إن كان كلّ هذا بسبب ماناه، فـ
“رافين…….”
“…….”
“تعرف؟ يبدو أنّ اختياري كان صائبًا.”
نظر إليّ مستفهمًا.
“أحسنتُ صنعًا حين أنقذتكَ.”
اتّسعت عيناه دهشةً لابتسامتي.
“أراك شخصًا قويًّا.”
ظلّ صامتًا لبرهة.
هل قلتُ ما لا ينبغي؟
اعتدلتُ متردّدةً وأسندتُ ظهري إلى السرير.
قبض رافين يده ثمّ بسطها.
“يبدو أنّ بصركِ مخدوع. أنا لستُ قويًّا.”
قالها نافيًا.
“ولا تبتسمي.”
والآن صارت الابتسامة تهمة؟
“أكان لا يجوز لي الابتسام؟”
“ما فعلتِه كان فعلًا لا داعي له.”
قال بصوتٍ متصدّع.
“وأين اللاجدوى في إنقاذ إنسان؟”
“وماذا لو كنتُ قاتلًا مجرمًا؟”
تموّجت عيناه الحمراوان كموجٍ مضطرب.
كان سؤاله كأنّه يختبرني.
“إذًا، كان يجب أن تعيش أكثر.”
خرج صوتي حاسمًا دون قصد.
“لأنّك يجب أن تدفع ثمن ذنبك.
سواء كنتَ مجرمًا أم إنسانًا صالحًا، كان لا بدّ أن تعيش، وأنا أنقذتكَ، إذًا لم يكن فعلًا عبثيًّا. أليس كذلك؟”
سقط رافين في صمتٍ قصير.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"