الحصار.
وصلنا إلى الساحل الجنوبي بعد أربعة أيّامٍ بالضبط.
“هنا الساحل الجنوبي؟”
كنتُ أحمل كميّةً كبيرةً من الفاكهة.
“أحقًّا هذا هو الساحل الجنوبي؟”
حدّقتُ في البحر الممتدّ أمامي.
كنتُ أتخيّل بحرًا بلون الزمرّد، وأمواجًا هادئة، ورمالًا صافيةً ناعمةً كحبيبات الزجاج، لكنّ ما رأيته كان بحرًا داكنَ اللون، كالمياه الآسنة.
على الرغم من سكون الهواء، كانت الأمواج تعصف بعنفٍ كأنّ عاصفةً هوجاء تضرب المكان.
“يبدو أنّه ملوّث. لكن ليس بفعلٍ متعمَّد، بل لسببٍ آخر.”
قال رافين وهو لا يُفلت يدي.
“هناك رائحةٌ كريهة، لوسي.”
“هل يُعقَل أن يكون قوم الأوبوم يعيشون في هذه المنطقة؟”
“أشعر بمانا ذات صفةٍ مائيّة. لعلّهم هم.”
ثبت رافين نظره إلى الجهة اليسرى.
“إن كان هذا صحيحًا، فلماذا يُظهرون المانا هكذا؟”
كان قوم الأوبوم يكرهون الاحتكاك بالغرباء.
ولهذا السبب كانوا يُخفون مواقعهم ومساكنهم، أو يحيطونها بالحماية.
حتى لو كان رافين يمتلك مؤهّلات ساحرٍ عظيم، فهذا لا يعني أنّ قوم الأوبوم هواةٌ يكشفون قوّتهم بلا حساب.
“أيمكن أن يكون فخًّا؟”
سأل وهو يستشعر التوتّر من حوله.
“الاحتمال الأكبر ذلك.”
“إذًا علينا أن نتجنّبه.”
“لماذا؟ لِنذهب.”
“ماذا؟”
نظر إليّ رافين بدهشة.
“نحن لم نأتِ للقتال.”
“لوسي!”
حين تقدّمتُ بخطواتٍ واسعة، أحاط رافين جسده بالمانا بدافع الحذر.
“من تلك الجهة.”
أشار رافين إلى الطريق الممتدّ بمحاذاة الرأس الصخري.
بجانب الرأس كان هناك جرفٌ مرتفعٌ للغاية.
يبدو أنّ الأمواج كانت تصل إليه أحيانًا، فالأرض التي أسير عليها كانت مبتلّة.
سرنا بمحاذاة مجرى الماء، فبان أسفل الجرف كهفٌ ضخم.
كان ذلك المكان حيث تُستشعَر المانا.
“كيف سننزل إلى هناك؟”
“لوسي، ضعي ذراعيكِ حول عنقي.”
“ذراعي؟”
أومأ رافين برأسه واقترب منّي.
“بأقصى ما تستطيعين من شدّة. قرّبي جسدكِ أكثر…”
“هكذا؟”
“لم أقصد إلى هذا الحدّ، لكن لا بأس. بل هو أفضل.”
ألصقتُ وجهي بصدره العريض، وضممتُ ظهره بكلتا ذراعيّ بإحكام.
وحين حاولتُ الالتصاق أكثر، تحرّكتُ قليلًا، فصدر من فوقي أنينٌ خافت.
آه، هل اقتربتُ أكثر ممّا ينبغي؟
قبل أن أسأله إن كان هذا صحيحًا، أحاط رافين خصري وساقَيّ بخفّة.
“……!”
ارتفع جسدي عن الأرض في لحظة.
كان هذا من أعقد أنواع السحر الجوّي، سحرٌ يتطلّب تحكّمًا وتركيزًا هائلين.
“واو!”
كان يحملني ويمشي في الهواء كما لو أنّه يسير على الأرض.
تحت أقدامنا لم يكن هناك سوى البحر المتماوج.
“نحن نطير!”
“ألستِ خائفة؟”
“أبدًا! نحن نطير يا رافين!”
كان الانبهار يسبق الخوف.
“هل نقترب أكثر؟”
حين تقدّم رافين قليلًا، ظهرت من بعيد مجموعةٌ من السلاحف تسبح وقد أخرجت رؤوسها.
واااه!
إنّها أوّل مرّة أرى فيها سربًا بهذا الحجم من السلاحف.
لم تكن سلاحف عاديّة، فقد كان لونٌ أخضر يُشبه المانا يغلّف أصدافها.
“رافين، انظر! سلاحف! سلاحف!”
“لوسي، أنتِ الآن تشبهين الأطفال كثيرًا.”
لم يُلقِ رافين نظرةً واحدةً على السلاحف، بل كان يحدّق في وجهي فقط.
“أيّ شخصٍ سيتصرّف كطفلٍ لو عاش هذا الموقف!”
“لا تتحرّكي كثيرًا، فهذا خطر. تشبّثي بي أكثر.”
هاه!
ما إن أنهى كلامه حتّى سحبتُ رأسي وألصقته بصدره مجدّدًا.
كان خفقان قلبه يخترق صدري ويصل إلى أذني.
كان قويًّا لدرجةٍ جعلتني أخشى أن ينفجر.
“…….”
“…….”
التقت أعيننا.
تلينت حدّة نظرته شيئًا فشيئًا، ثم انحنت بلطف.
مدّ جبينه ولمس جبيني نقرةً خفيفة.
“لوسي.”
ناداني بصوتٍ دافئ.
“هل يجب حقًّا أن نلتقي قوم الأوبوم اليوم؟”
“إنّهم أسفلنا مباشرةً.”
“أريد أن أبقى معكِ قليلًا أطول.”
منذ اليوم الأوّل، لم نتوقّف عن التنقّل.
كان السبب بُعد الوجهة، لكنّ الأهمّ كان تهدئة رافين بعد حادثة فرسان تولدا.
وبصراحة، كنتُ أريد إنهاء المهمّة بأسرع وقتٍ والعودة إلى نقابة بيندون بأقصر طريق.
لكن ما دام قلب رافين هكذا…
“بعد أن ننتهي، ما رأيك أن نتمشّى قليلًا؟ أنا أيضًا هذه أوّل مرّةٍ لي في الجنوب.”
لم يكن هناك ما يدعو للرفض.
“أنتِ تقولين دائمًا ما أريد سماعه.”
أجاب رافين فورًا، كأنّه كان ينتظر هذه الكلمات.
—
في عمق الكهف الرطب، هبّت رياحٌ باردة.
“إنّه متينٌ فعلًا. لقد بذلوا جهدًا كبيرًا.”
لمس رافين الحاجز الدفاعيّ الضخم الذي يسدّ مدخل الداخل.
كما قال، كان اختراقه صعبًا.
“لكن يمكنني كسره.”
استلّ رافين سيفه من عند خصره، وأحاط به أورا حمراء.
امتزج ضوء المانا الأبيض بالأورا، وكأنّه يستعدّ لتحطيم الحاجز.
وقبل أن يلمس طرف السيف الحاجز، شعرنا بحركة.
“!”
دَدَدَدَدَد.
تردّدت خطواتٌ مسرعة، وأحاطت بنا أشكالٌ عدّة.
غيّر رافين هدفه بسرعة، وأخرجتُ أنا القوس والسهام من ظهري، موجّهةً إيّاها نحو الرجال أمامنا.
كانت هيئاتهم غريبةً على نحوٍ غير مألوف.
صدورهم العارية كانت تتدلّى عليها القلائد والحُليّ، وأذرعهم التي تمسك الرماح الطويلة كانت مغطّاةً بالحراشف، تلمع كالجواهر مع كلّ حركة.
‘إنّهم قوم الأوبوم!’
هل كانوا في كمينٍ طوال هذا الوقت؟
“مَن أنتم؟”
كسر أحدهم الصمت.
“نـ، نحن…”
كانوا يشكّون في كوننا متسلّلين.
خشيةَ أن يتفاقم سوء الفهم، أنزلتُ يدي التي تمسك القوس.
“نحن من نقابة بيندون.”
لم تتغيّر ملامحهم.
“قال القائد داميان إنّه أرسل حمامًا زاجلًا مرّاتٍ عدّة، وجاءه ردّ بأن نأتي إن أردنا التجارة—”
قبل أن أُكمل كلامي، اندفع أحدهم وطوّق عنقي بالرمح.
“لوسي!”
أسرع رافين ليقف أمامي.
“تجارة؟”
عندها، تقدّم رجلٌ بدا أنّه قائد المجموعة خطوةً إلى الأمام.
“لدينا الرسالة هنا.”
فتّشتُ في الحقيبة وأخرجتُ الرسالة.
حدّق فيها الرجل بعينين ضيّقتين.
“إنّها فعلًا خطّ يد الزعيم. لكنّنا لا نتاجر.”
“…….”
“ومع ذلك، إن واصل أحدهم إرسال الرسائل بإلحاح، نجعله يأتي بنفسه إلى هنا. حين نُظهر عداءنا مباشرةً، يستسلم عادةً.”
هل هذا يعني أنّهم لا ينوون التعامل معنا أصلًا؟
‘بعد كلّ هذا العناء!’
“على أيّ حال، أيّها الرجل… أنت أيضًا مرافق؟”
تثبّتت عينا الرجل على رافين.
تذكّرتُ أنّ قوم الأوبوم قادرون على قراءة المانا.
لا بدّ أنّهم كانوا يحذرونه أكثر بسبب المانا الغزيرة المنبعثة منه.
“رافين عضوٌ معي في النقابة.”
أجبتُ بدلًا عنه.
“إذًا أنزل سيفك.”
“…….”
“هيا.”
جئنا للتجارة لا للقتال.
نظرتُ إليه بطرف عيني، فمحا رافين قوّته على مضض، وأعاد السيف إلى غمده.
“من الأفضل أن نأخذه معنا أوّلًا.”
خرجت هذه الكلمات من فم الرجل كأنّها بارقة أمل.
لكن في اللحظة التالية، التفّ رجال البحر حول رافين، وربطوا يديه وفمه بالحبال.
كان الأسلوب قسريًّا، لكنّنا دخلنا بالفعل موطن قوم الأوبوم.
في الداخل، سنُريهم رسالة داميان مجدّدًا، ونتحدّث عن الصفقة، وربّما نلتقي بتريتون أيضًا.
ظننتُ أنّ الأمر سيسير على ما يرام، لكن—
“أم… عفوًا؟”
لماذا لا يربطونني؟
بعد أن أمسكوا برافين فقط، استدار رجال البحر ومضوا.
“أنا… لن تُقيّدوني؟”
تنفّس أحدهم بضجرٍ وقال:
“أنتِ إنسانة، بلا قدرة.”
“البحر هذه الأيّام خطِر. من الأفضل أن تغادري المكان بسرعة.”
بل ولماذا هذا اللطف؟
اتّسعت عينا رافين وهو ينظر إليّ من بعيد.
وحين حاول فكّ الحبال، همس له الرجل بشيءٍ ما.
شحُب وجهه كما لو سمع تهديدًا.
بعد ذلك، اختفى رافين مع رجال البحر.
“…….”
بقيتُ وحدي.
‘ما هذا بحقّ السماء…؟’
لنُفكّر بإيجابيّة.
حتّى لو لم أكن هناك، سيتمكّن رافين من إقناعهم وحده.
في الأصل، كان يتقرّب من قوم الأوبوم بفاكهةٍ واحدة في الرواية.
“……آه.”
لكن لماذا كيس الفاكهة ملقى على الأرض؟
ثم إنّ رسالة داميان الموجّهة إلى قوم الأوبوم كانت معي، وكذلك رسالة التفويض وخطّة النقابة… كلّها كانت عندي.
“را، رافين!”
تحوّل رافين إلى مجرّد شخصٍ اقتاده قوم الأوبوم بعيدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 29"