الوعدُ الأبديّ.
إذًا فمعنى ذلك الكلام هو…….
“شكرًا جزيلًا لك، أيّها القائد!”
لقد وافق داميان علينا.
مَن ذا الذي كان يصف داميان بأنّه فاسدُ الطبع، سيّئُ الخلق، رئيسٌ حقود؟
بل كان مُنقذي، ونوري، وصاحب الفضل عليّ.
“إنّه أمرٌ مُزعج، فلا تُحدّق.”
“نعم!”
إذا قال اخفضي بصركِ أخفضتُه، وإذا قال اركعي ركعتُ.
وحين انحنيتُ من تلقاءِ نفسي، نقرَ لسانَه متبرّمًا، ثمّ اقترب من رافين.
“اسمك رافين، أليس كذلك؟
حالما تلتئم جراحك، ستنضمّ فورًا إلى فرسان بيندون وتتلقّى التّدريب.”
“……نعم.”
ولحسن الحظّ، خرج التهذيب من فم رافين.
“إن لم تكن ترغب، فلا داعي لأن تعمل هنا.”
“أرغب.”
أجاب من دون تردّد.
“ما دامت لوسي هنا، فسأبقى أنا أيضًا هنا.”
“يا له من مشهدٍ يبعث على الدموع.”
قال داميان بسخريّة، ثمّ استدار ببرود، كأن لا سبب لبقائه هنا.
“لوسي، هذا مُطمئنّ فعلًا.”
على النقيض منه، ظلّت آني لطيفة حتّى النهاية.
“إن ساءت حالتكِ أو طرأ أمرٌ خطير، ناديني فورًا.”
وضعت في يدي أداةً سحريّة للاستدعاء، احتياطًا لأيّ طارئ.
“شكرًا لكِ، آني.”
“لا شُكر على واجب.
اعتني برافين جيّدًا.”
ابتسمت آني ابتسامةً ماكرة، وألقت نظرةً خاطفة علينا.
من الواضح أنّها أساءت فهم علاقتي برافين.
“نامي جيّدًا، لوسي.
سأُخلي المكان فورًا!”
وبقينا أنا ورافين وحدَنا.
—
غطّى الظلامُ غرفةَ المرضى الخالية من أيّ ضوء.
وكان رافين إلى جواري، لا يُصدر أيّ صوت، كأنّه نام بالفعل.
‘……في النهاية، تغيّر الأمر عن الأصل.’
منذ أن علمتُ أنّ رافين هو البطل الذكَر، ربّما كنتُ أتوقّع هذا قليلًا.
‘هل خرجنا من عالم المعاناة؟’
كان هذا هدفي.
‘لكن عناصر المعاناة ما زالت كثيرة.’
لقد هربنا من فرسان تولدا، لكن لفترةٍ وجيزة فقط.
لا أحد يعلم متى سيكتشفون أنّنا ما زلنا أحياء.
وقد لا ينسجم رافين مع الحياة في نقابة بيندون، فيتألّم.
وإن انفجر داميان بهستيريّته، فذلك نوعٌ آخر من العذاب.
‘الهدوء مريب.’
وأخيرًا، تذكّرتُ أوهان الذي كدتُ أنساه.
الماركيز أوهان، والدي، رجلٌ لا يتردّد في استدعائي متى احتاج طُعمًا.
حتّى لو كنتُ عديمة النفع الآن، فربّما لاحقًا…….
‘ حدسي يُملي عليّ أن أمرًا ما آيلٌ إلى الانفراج.’
لا داعي للقلق المُبكر.
أغمضتُ عينيّ قسرًا، وبدأتُ أعدّ أرقامًا بلا معنى.
كان ذلك لمحاولة النوم، لكن دون جدوى.
في عتمة بصري، راحت أحداث اليوم تتشكّل على نحوٍ باهت.
قد مرّ اليوم بسلام، لكنّ كلّ حركةٍ فيه كانت تُقامر بالحياة.
وحين لم أعد أحتمل، فتحتُ عينيّ.
“…….”
“……لم تنام بعد.”
تقابلتُ مباشرةً مع عينين حمراوين لافتتين، حتّى في الظلام.
بدا عليه الارتباك، كأنّه لم يتوقّع أن أفتح عينيّ فجأة.
“……وأنتِ أيضًا لم تنامي، لوسي؟”
“لا يأتيني النوم.”
“وأنا كذلك.”
امتلأت الغرفة الهادئة بصوته الخافت.
تأمّلتُ جسده الذي لمع بنعومةٍ تحت ضوء القمر.
جراحٌ كبيرة ومؤلمة على شابٍ في الثامنة عشرة بالكاد.
لم تكن الجراح وحدَها، بل إنّ ذكرى المطاردة اليوم ما زالت تطارد عينيه القلقتين.
“…….”
أدار رافين رأسه نحو السقف، متجنّبًا نظري.
وبعد صمتٍ قصير، فتح شفتيه ببطء.
“كلّما فكّرتُ، أشعر أنّي جررتُكِ إلى خطرٍ كبير.”
ألم ننتهِ من هذا الحديث عصرًا؟
كان يبكي مرّةً أخرى.
مسح دموعه بعد فوات الأوان.
وحين نهضتُ بهدوء، ارتجف ظهره.
عندها أدركتُ.
لم يعد مصدر قلق رافين فرسان تولدا، ولا الذكريات الماضية، بل أنا.
لم أُرِد أن أُضعفه هكذا…….
جلستُ قُرب سريره، وقد جثوتُ بجانبه.
“لا تبكِ.”
“أمسكي بيدي، من فضلكِ.”
قال ذلك وهو يُعيد إليّ وجهه.
بحثت يدُه عن يدي، ثمّ تشبّث بها.
وأقحم أصابعه بين أصابعي، كأنّه يتوسّل ألّا أرحل.
وحين اطمأنّ، ارتخى جسده ببطء.
“مع ذلك، أُفضّل أن تكوني إلى جانبي، لوسي.”
“لقد وعدتُك. سأبقى.”
“لا بجانبي فقط……
تعالي إلى هنا.”
تردّدتُ.
“سيكون المكان ضيّقًا جدًّا…….”
لكنّه لم يُبالِ، بل انزاح إلى طرف السرير، مشيرًا بإصرار.
تنفّستُ بعمق.
حسنًا، لا بأس.
كان السرير ضيّقًا، فتلاصقت أجسادُنا عند الحافة.
وحين اقتربتُ أكثر كي لا نسقط، اصطدمت ساقانا مرارًا.
ومع ذلك، لم يُفلت يدي.
“ألا تشعرين بالخوف؟”
“أبدًا.”
كان وجهانا قريبين.
ارتجفت شفتاه وهو يراني أُجيب بلا تردّد.
“……أغبطكِ على قوّة قلبكِ.”
مع أنّي لستُ قويّةً حقًّا.
“ونظرتكِ الثابتة أيضًا.”
“…….”
“لهذا، حين أكون إلى جانبكِ…… يهدأ قلبي.”
كان يبالغ في مدحي.
مددتُ يدي الأخرى، ومسحتُ دموعه برفق.
حبس أنفاسه، وبقي جامدًا.
“إذًا، ابقَ إلى جانبي.
الأمر مجانيّ.”
“إلى متى يكون مجانيًّا؟”
“بالنسبة لك، إلى الأبد.”
أغمض عينيه.
“هل يعني هذا أنّي أستطيع البقاء طوال حياتي؟”
“……ألستَ تنوي الزواج؟”
“لا أفكّر في الأمر.”
لكن في الأصل…….
في القصّة الأصليّة، كنتَ ستتزوّج من أميرة.
لكن منذ زمن، خرجنا عن الأصل، وتلاشى ذلك المصير.
“افعل ما تشاء.”
“حقًّا؟”
“نعم، أنتَ أولويّتك الأولى.”
“أنا…… لستُ أولويّتي.
أنا أكره نفسي، لوسي.”
“…….”
“لم أستطع حمايتكِ.
وهربتُ مرّةً أخرى.”
تساقطت دموعه بغزارة.
انهار تمامًا، وانكمش وهو يبكي بصمت.
وكان بكاؤه موجعًا، مختنقًا، كأنّه لا يملك حتّى حقّ البكاء.
‘لماذا يبدو بائسًا إلى هذا الحدّ؟’
شدَدته إلى صدري.
“لوسي.”
خرج من شفتيه أنينٌ خافت.
“إن كان الهروب شرًّا، فأنا أسوأ البشر.”
“……أنتَ لم تهرب.”
“أنا؟”
ابتسمتُ بخفّة.
“في الحقيقة، أنا هربتُ من قصر أوهان.
كان مكانًا خانقًا.
لو بقيتُ، لمُتُّ قهرًا.”
“لكنّكِ قلتِ إنّهم طردوكِ.”
“طردوني، نعم.
لكنّ الأمر كان مخطّطًا.
أراد أبي تحويل ابنةٍ عديمة الكفاءة إلى سلاحٍ بشريّ، فرفضتُ.
وفعلتُ كلّ ما يكرهه.”
لو سردتُ أفعالي، لانفضّ عنّي كلّ تعاطف.
“وتعرف أكاديميّة شول؟
لا يدخلها إلّا النخبة.”
“…….”
“نجحتُ بالكاد بفضل الدرجات النظريّة، لكنّي لم أنتمِ إلى هناك.
وفي الامتحان الأخير، رغم معرفتي بالإجابات، رميتُ النرد وكتبتُ عشوائيًّا.
قالوا إنّي انسحبت، لكنّي هربت.”
“…….”
“ومع ذلك، لستُ إنسانةً حقيرة.
ما الخطأ في الهروب؟
بهروبي، التقيتُ بك، وبفضلك لم تختفِ هاندسلاك من ذاكرتي.”
ظلّ ساكنًا.
“أحسنتَ، رافين.”
لقد أحسنتَ الهروب.
حين ضممتُه أكثر، توقّف عن الارتجاف.
“هل يضايقكِ هذا؟”
هزّ رأسه سريعًا نفيًا.
وتوغّل أكثر في حضني، حتّى هدأ تنفّسه شيئًا فشيئًا.
نام؟
وحين حاولتُ سحب يدي، شدّ عليها بقوّة.
“……حسنًا.”
استسلمتُ، وبقيتُ إلى جواره حتّى سمعتُ أنفاسه المنتظمة.
“تصبح على خير، رافين.”
التعليقات لهذا الفصل " 21"