ملجئي.
“عدتُ.”
استقبلني البيتُ برائحةٍ منعشة، وداخلٍ نظيفٍ مرتب.
نظر رافين إليّ وأنا منطرحةٌ على السرير، وتمتم بخجل: ‘كان الأفضل أن تخلعي معطفكِ قبل أن تنامي…’
“هل كان العملُ مُرهقًا؟”
ناولني كوبَ ماء.
“كلّ شيءٍ على ما يُرام، باستثناء أنّ الرئيس فظّ الطبع.”
لم يكن العمل صعبًا، لكنّ مجاراة طبع القائد المتعذّر تحتاج إلى بعض الوقت.
“هل يُسيء رئيسُكِ معاملتكِ يا لوسي؟”
اقترب رافين بصوتٍ باردٍ متوتّر.
وبما أنّ لديّ الكثير لأقوله، ربّتُّ على المقعد الفارغ إلى جواري، إشارةً له بالجلوس.
تأمّل المساحة الضيّقة قليلًا، ثمّ سحب كرسيًّا بعيدًا وجلس عليه بدل السرير.
“هل يجب أن تعملي هناك حتمًا؟”
فتح رافين فمه فور جلوسه.
“الأجرُ مرتفع.”
“إن كنتِ تعملين بسببي…”
تردّد في إكمال كلامه.
“سأغادر هذا المكان بأسرع ما يمكن.”
غاصت ملامحه وهو يتكلّم قسرًا من أجلي.
كنتُ أعلم أنّ الارتباك والخوف لم يغادرا قلبه بعد.
“رافين، هل تعرف كم ثمن هذه الكوخ؟
“لا أعلم.”
“وجدتُه بثمنٍ منخفض، لكنّه يعادل جوهرةً باهظة في العاصمة. لذلك لم أستطع تزيين الأثاث ولا الحديقة.”
“وما المشكلة في ذلك—”
“بل هي مشكلةٌ طبعًا!”
صرختُ فجأة، فارتجف جسده.
“من أجل حياةٍ مُريحة، الأثاثُ الجميل والحديقةُ الرائعة ضروريّان. أوّل ما سأفعله حين أتقاضى راتبي الأسبوعيّ هو تغيير هذا السرير الرخيص.”
هذا السرير الذي يئنّ عند أقلّ حركة.
“وألن يكون جميلًا لو وُضِعت هنا بعضُ النباتات؟”
أشرتُ إلى المساحة قرب الصناديق غير المفتوحة.
بدا شاردًا، ثمّ أومأ بهدوء، كأنّ الفكرة راقت له.
“على فكرة، يمكن صنع الأثاث بالسحر. انظر إلى ‘كتاب سحر البناء’.”
لكنّ تعلّمه معقّد، لذا يشتريه الجميع بثمنه.
“لو صنعتَ الأثاثَ بالسحر، فسيكون ذلك رائعًا.”
كنتُ أعلم أنّ رافين يواصل قراءة أساسيات السحر في غيابي.
وأدركتُ أيضًا، من بقايا المانا في المكان، نوع السحر الذي يتعلّمه.
“…هل تريدين السرير فقط؟”
نهض رافين ببطء واقترب منّي. فاحت رائحةُ ريحٍ شتويّة باردة.
صرير—
لِقِدَم السرير، ما إن جلسنا معًا حتّى غاص إلى الأسفل.
“بالطبع لا. أريد أصصَ نباتات، ومكتبًا جميلًا، وخزانة كتبٍ كبيرة.”
نظرتُ إليه مبتسمة.
“ويجب أن يكون السرير أوسع وأصلب من هذا بكثير، يتحمّل نوم خمسة بالغين دون أن يهتزّ.”
“لماذا؟”
“لأنّه أفضل من الضيّق البالي؟”
تردّد عند إجابتي البسيطة.
“كنتُ أتمنّى دائمًا سريرًا كبيرًا واسعًا.”
نادِرًا ما يتحدّث رافين عن نفسه؛ فأنصتُّ باهتمام.
“ولِمَ أنت؟”
“لأنّه مكانٌ مناسب للاختباء.”
انتظرتُ تتمّة كلامه. تردّد، ثمّ قال على مضض:
“كان لي أخٌ أكبر، وكنتُ دائمًا أقلّ منه. شعرتُ أنّ والدَيّ يفضّلانه عليّ.”
“فكنتَ تختبئ في السرير؟”
“تحت الغطاء تحديدًا. لكنّ سريري كان ضيّقًا، فإذا تكوّرتُ عجزتُ عن الحركة.”
توقّف عند هذا الحدّ. بدا أنّ الذكرى لم تكن سعيدة، إذ تذبذبت عيناه بقلق.
“لاحقًا… حتّى لو صرتُ معدمًا ومشلولًا، سأصنع لكِ الأثاث يا لوسي.”
كانت نبرته هذه المرّة حازمة.
“حقًّا؟”
“نعم. سأصنع لكِ سريرًا أوسع ممّا لديكِ الآن.”
ضحكتُ لجدّيّة تعهّده، واحمرّ وجهه خجلًا من شحمة أذنه حتّى عنقه.
لمستُ ظهر يده بطرف إصبعي.
“سأنتظر.”
“إن احتجتِ أيّ شيء، أخبريني متى شئتِ.”
بدل أن أكون هدفًا لموتٍ محتوم من البطل، صرتُ متلقّيةً لفضله.
كان الأمر غريبًا وجديدًا، لكنّ امتنان رافين الصادق أشعرني بالارتياح.
هل هذا ما يشعر به الوالدان وهما يربّيان أبناءهما؟
بعد ذلك تناولنا العشاء وتبادلنا أحاديث عابرة، ثمّ خلَدتُ إلى النوم أوّلًا.
قبل أن أُغمِض عينيّ سمعتُ صوته وهو ينام على الوسادة، لكنّ وعيي تلاشى قبل ذلك.
تنفّس رافين زفرةً خفيفة، رفع رأسي قليلًا ووضع الوسادة تحته. سواءٌ كان ذلك مقصودًا أم لا، لامست يده الكبيرة شعري
“ليلة هانئة.”
أرخى الصمت ستاره.
أطال رافين التحديق في لوسي دون أن ينبس ببنت شفة.
“…”
كانت أصابعها منقبضة كقبضة طفلة، وأنفاسها تنساب برفق. بدت وديعةً وصغيرة، ومع ذلك تسلّل إلى صدره شعورٌ غامض بالسكينة.
كان المكان يفيض دفئًا وطمأنينة.
بل إن موضع جلوس هذه المرأة إلى جواره كان يحمل الإحساس ذاته.
ملامحها النقيّة، وابتسامتها الدائمة، كانتا تمسّدان قلبه القاسي بلطفٍ خفي.
“…”
مدّ يده ولمس شعرها بحذرٍ بالغ.
فانسدل الحرير الذهبيّ الناعم بين أنامله في هدوء.
‘إلى متى أستطيع البقاء قرب لوسي؟’
كان إيقاع أنفاسها المنتظمة أرقّ من أيّ ترنيمة للنوم.
نهض على مهل، خشية أن يوقظها.
تخلّص من قميصه الخانق الذي لازمه طوال النهار، وفكّ الضمادات التي لم تعد سوى قناعٍ شكلي.
وكما توقّع، كانت الجروح قد اندملت.
لم يعد ثمّة ما يبرّر بقاءه في الكوخ.
لوسي امرأة في ريعان الشباب؛ ولو طال مقامه معها، لطاردهما همس القيل والقال، ولاستقرت فوقها عيون القرية القاسية.
الكلفة أثقل من العائد.
‘…لا يمكنني المكوث هنا إلى الأبد.’
لم يعد لرافين مأوى ولا أهل.
كل ما تبقّى له الآن امرأة واحدة، ظهرت على حين غرّة، واحتوته بصمت. امرأة تنام بلا حذر.
‘القرب منها يرخيني أكثر مما ينبغي.’
ومع ذلك… أليس لي أن أستعير هذا القرب قليلًا؟ قليلًا فحسب؟
لفّ الضمادات من جديد، ثم عاد إلى الأريكة وأغمض عينيه.
‘لا أريد أن أكون وحدي.’
تكور على جانبه.
فإن تفاقم ضعفه حتى عجز عن الحركة، فذلك هو البؤس بعينه.
كان عليه أن يرحل عاجلًا، لكنه لم يطاوع نفسه على الابتعاد عن سرير لوسي.
—
القرى المحيطة بريكيان.
دخل ثلاثةُ رجالٍ أقوياء إلى قريةٍ ما. لحاهم غير محلوقة، ووجوههم مغطّاة بالشَّعر، وأيديهم وأظافرهم خشنة.
من مظهرهم بدوا فرسانًا عائدين من حملة، لكنّ تصرّفاتهم الاستكشافيّة دلّت بوضوح على أنّهم يبحثون عن شخصٍ ما.
“لو سمحتم، سؤال.”
“إييك!”
ارتاع شابٌّ يافع كان يمرّ صدفةً عند مناداتهم.
“هل رأيتَ في هذه القرية فتىً في نحو الثامنة عشرة، طويل القامة، أسود الشعر، أحمر العينين؟”
“نعم؟”
“وسيمٌ لافت. هذا رسمٌ تقريبيّ لملامحه.”
أخرج الفارس ورقةً من جيبه وبسطها.
وبخلاف وصفه، كان الرجل في الرسم أقرب إلى القبح.
“لا أعرف الرسم، لكن إن كان أجملَ رجلٍ في القرية… فربّما ذاك الذي يسكن قرب حدّادة الشمال.”
“لم أقصد أجملَ رجلٍ في القرية.”
ضيّق الفارس ما بين حاجبيه.
“إذًا…”
“لا بأس. سنفتّش القرية كلّها.”
سحب سيفه من غمده بحذر.
ما إن يعثروا على رافائيل، سيقطعون عنقه فورًا، دون أن يتركوا له مجالًا للفرار.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 15"