3
كان جاي يفتخر بأنّه عاش حياته من دون أن يحيد عن الطريق.
لكن بعد سماعه كلام فرِدِيا اليوم، بدأ يشكّ في أنّ ذلك لم يكن سوى وهمٍ ذاتيّ وغرورٍ منه.
فإن كانت فرِدِيا، التي لم يتبادل معها سوى بضع كلمات، قد قالت له مثل هذا الكلام، فهل كان الآخرون يرونه كذلك أيضًا؟
على سبيل المثال، إلينا التي يكنّ لها حبًّا من طرفٍ واحد.
“أخ.”
تأوّه جاي وهو يسترجع سلوكه السابق.
احمرّ وجهه مرارًا خشية أن يكون قد أظهر أمام إلينا جانبًا طائشًا من نفسه.
‘ليت إلينا لم تكن تعلم.’
أطلق جاي تنهيدةً منخفضة.
وعندها، سمع صوتًا مألوفًا.
“جاي!”
انتفض جاي عند سماعه مناداته بذلك اللقب الودّي.
فقد كان غارقًا في صدمته إلى حدٍّ لم يلاحظ اقتراب أحد، كما أنّه كان يعرف صاحبة الصوت.
تظاهر بتعديل ملابسه بسرعة، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ متكلّفة.
“إلينا.”
كانت إلينا قد اقتربت حتى صارت أمامه مباشرة، فتوقّفت قليلًا لتلتقط أنفاسها.
في الأيام العاديّة، كان سيحرص على حفظ تلك اللحظة في عينيه، لكنّ جاي الآن لم يستطع النظر إليها مباشرة.
إذ أخذ ما جرى مع فرِدِيا يطفو في ذهنه بلا توقّف.
“هل حصل شيء بينك وبين سموّ الدوقة الكبرى؟”
“لا؟”
من بين كلّ المواضيع، ذُكرت فرِدِيا تحديدًا، فأنكر جاي بسرعةٍ غير واعية.
وكان ردّه، في نظر أيّ شخص، مريبًا.
أدرك خطأه متأخّرًا، فاختلق عذرًا على عجل.
“……كحّ. لم يحدث شيء.
كانت تبحث عن التراس فقط، فدللتها عليه.”
ابتلع جاي ريقه سرًّا وهو يراقب ردّة فعل إلينا.
كان يخشى أن تسأله: ولماذا سألتك أنت تحديدًا؟
أو: ولماذا كنتما معًا في التراس وليس مجرّد إرشاد؟
لكن إلينا ابتسمت ابتسامةً صافية، غير مدركةٍ لتوتّره.
“أفهم. كنتُ خائفة أن يكون قد حصل لك شيء.
فقد قال بعضهم إنّك اختفيت مع سموّ الدوقة الكبرى.”
ولحسن الحظّ، لم تطرح إلينا أسئلةً تُقلِق جاي.
غير أنّ مجرّد تحقّق ما توقّعه جعل أسفل عينيه يرتعش.
فمع أنّه أسرع في الذهاب، يبدو أنّ أحدهم رآه متّجهًا إلى التراس وبدأ بالهمس.
خشي جاي أن تكون إلينا قد أساءت الفهم، فأسرع يضيف:
“لم يحدث شيء بيني وبينها.”
“هاه؟”
استغربت إلينا تكراره للجملة ذاتها مرّتين.
مالت برأسها قليلًا، ثم لم تلبث أن عدّت الأمر غير مهمّ.
“صحيح، سموّ الدوقة الكبرى لا تحبّني أصلًا.
كنتُ أخشى فقط أن تكون قد تصرّفت معك بالطريقة نفسها، لكن يبدو أنّ قلقي كان بلا داعٍ.”
لم يكن في صوتها المشرق أيّ أثرٍ لسوء فهم.
لم يكن جاي يريد أن تُسيء إلينا الظنّ به، لكنّ شعوره لم يكن جيّدًا مع ذلك.
حتى بقيّة النبلاء كانوا يتهامسون لأنّه كان مع فرِدِيا، فلماذا كانت ردّة فعل إلينا فاترةً إلى هذا الحدّ؟
‘هل رغبتي في أن تغار إلينا مجرّد أنانيّة منّي؟’
تحرّكت شفتا جاي قليلًا.
أراد أن يسألها: أهذا كلّ ما يزعجك لو كنتُ مع فرِدِيا؟
لكن إدراكًا مفاجئًا ضرب رأسه، فأطبق فمه بإحكام.
‘ألا يكون من الممكن أنّ إلينا، رغم أنّها لم تُظهر ذلك، كانت ترى في سلوكي مشكلة أصلًا؟
ولهذا…….’
ولهذا، حتّى لو كنتُ مع فرِدِيا في المكان نفسه، فإنّها تراها أمرًا يمكن تجاوزه؟
تشبّثت أفكار جاي ببعضها.
وحين ألقى نظرةً خاطفة على إلينا بعينين مضطربتين، لم تفعل سوى أن تبتسم بلطف.
“على أيّ حال، جاي!
هيا بنا إلى كلير.
قلتُ له ألّا يتحرّك حتّى أعود بك!”
أمسكت إلينا يد جاي فجأة.
ارتعش قليلًا، ثم أنزل بصره ليتأمّل يده الممسكة بيده.
الضغط الخفيف وكأنّه استعجال بعث في نفسه طمأنينةً غريبة.
“نعم. لنفعل.”
وقد هدأت مخاوفه، فابتسم براحة، وسار حيث تقوده إلينا.
حتّى لو كانت تنظر إليه بالفكرة نفسها التي تحملها فرِدِيا، فربّما لا بأس الآن.
فقد أمسكت بيده بلا تردّد هكذا.
‘إن بذلتُ جهدًا أكبر قليلًا، فستنظر إليّ إلينا أيضًا.’
وهو يمسك يدها، آمن جاي بأنّ الفرصة لم تضِع بعد.
—
مرّت أيّام عدّة بعد انتهاء مأدبة القصر الإمبراطوري.
في ذلك اليوم، رقص جاي مع إلينا، كما قالت له فرِدِيا، لكنّه لم يستطع الاستمتاع بفرحٍ خالص.
ففي اللحظة التي بدأ يشعر فيها بالارتياح وهو معها، وقعت عيناه على فرِدِيا.
كانت فرِدِيا، التي رآها صدفةً أثناء الرقص، تقف بعيدًا وتنظر في هذا الاتّجاه.
لم يستطع تمييز تعابير وجهها بوضوح، لكنّ وقوفها وحدها لفت انتباهه.
هل لأنّه كان يشعر تجاهها بنوعٍ من التماثل؟
‘ذلك التماثل في كون كلٍّ منّا يحبّ شخصًا من طرفٍ واحد.’
فجأةً، رأى جاي نفسه منعكسًا في فرِدِيا.
شعر أنّه ربّما بدا للآخرين كما بدت له هي الآن.
فهو أيضًا كان يراقب إلينا وهي ترقص مع صديقه المقرّب.
ومع ذلك، لم يستطع أن يفهم فرِدِيا بالكامل.
فمهما أحبّ الإنسان شخصًا، لا ينبغي أن يسلك طرقًا غير صحيحة لامتلاكه.
“هل تشتاق إليه أيضًا، جاي؟”
“……ماذا؟”
انتفض جاي واستعاد وعيه من ذكرياته في مأدبة القصر.
كانت إلينا، الجالسة أمامه، تميل بجذعها إلى الأمام وقد أسندت ذراعها على الطاولة.
“ألستَ شاردًا لأنّك تشتاق إلى كلير؟
منذ قليل وأنتَ غارقٌ في أفكارك.”
أطلق جاي صوت “آه” خافتًا، وارتعش حاجباه دون وعي.
أدرك متأخّرًا أنّه كان شارد الذهن خلال موعده مع إلينا.
وكان ينبغي عليه أن يُقدّر هذا الوقت أكثر.
تساءل جاي إن كان عليه أن يعدّ نفسه محظوظًا، فقد حظي بوقتٍ منفرد مع إلينا.
في الأصل، كان ينبغي أن يكون كلير معهما.
لكنّ جدول أعماله اضطرب فجأة، فاضطرّ إلى الغياب فترةً من الزمن.
“نعم. أنا أيضًا أشعر بالأسف.
فلنصطحب كلير معنا في المرّة القادمة.”
أجاب جاي بالإيجاب، رغم أنّه لم يكن يفكّر فعلًا في كلير.
فلم يكن يستطيع الاعتراف بأنّه كان يفكّر في فرِدِيا،
كما أنّه رأى أنّ هذا الجواب سيترك انطباعًا جيّدًا لدى إلينا.
وبدا أنّ قراره كان صائبًا، إذ ابتسمت إلينا ابتسامةً مشرقةً مرّةً أخرى.
“كنتُ أعلم ذلك.
يعجبني حقًّا انسجامكما معًا.”
حرّكت إلينا قدميها للأمام والخلف، وقد بدا عليها الرضا.
وعند رؤية ابتسامتها السعيدة، ارتفع طرف فم جاي بهدوء.
فابتسامتها كانت تُسعد من يراها.
من أجل رؤية تلك الابتسامة، استأجر جاي وكلير هذا المقهى كاملًا ليومٍ واحد.
إلينا، التي لا تعلم شيئًا، كانت سعيدةً لقلّة الزبائن اليوم.
‘لكن لماذا لم تُقدَّم الحلويّات التي طلبناها مُسبقًا؟’
وبينما كان يجيب إلينا، ألقى جاي نظرةً خاطفة داخل المقهى.
كان يريد أن يُقدّم لها حلوى لذيذة في أسرع وقتٍ ممكن ليُسعدها أكثر، لكنّ الأمر تأخّر قليلًا.
“نعتذر.
اليوم ليس يوم عمل.
نرجو أن تزورونا في وقتٍ لاحق، وسنخدمكم بأفضل ما لدينا.”
وبينما كان يراقب المكان، لمح جاي ثلاثة عمّال يقفون عند مدخل المقهى ويمنعون الدخول.
ضيّق عينيه حين أدرك أنّ أحدهم يعكّر سعادة إلينا.
وفي الوقت نفسه، ظنّ في داخله أنّ الطرف الآخر لا بدّ أن يكون نبيلًا عنيدًا.
فالشخص العادي كان سيغادر فورًا بعد سماع أنّ المقهى محجوز.
“إلينا، سأذهب قليلًا…….”
“هاه؟ آه، لا، لا!
لا يمكنكم الدخول إلى الداخل……!”
توقّف جاي عن الكلام وقد سمع صوت العامل المرتبك وخطواتٍ تقترب.
بدا أنّ الوقت قد فات على تجنّب المواجهة.
ومع ذلك، حتّى تلك اللحظة، ظنّ جاي أنّ الأمر لن يكون مشكلةً كبيرة.
كان يعتقد أنّه سيقدّم للطرف الآخر بعض الحلوى وينهي الأمر بهدوء.
لكن ما إن تلاقت عيناه مع الشخص القادم، حتّى نهض جاي بسرعة.
احتكّت ساق الكرسي بالأرض مُصدِرةً صوت “دِرررغ—!”.
“سموّ الدوقة الكبرى؟”
ناداه بسؤالٍ يحمل الاستغراب.
رفعت المرأة التي ترتدي قبّعةً عريضة الحواف قبّعتها قليلًا، فكشفَت وجهها بوضوح.
“…….”
ارتجف جاي عند التقائه بنظرتها الحادّة.
كانت هي بالفعل الدوقة الكبرى ذات الملامح الباردة، فرِدِيا.
تحرّك جاي فورًا نحوها، متغلّبًا على تصلّب ساقيه.
كان عليه أن يمنع فرِدِيا من الاقتراب من إلينا بنيّةٍ سيّئة.
وبفضل خطاه الواسعة والسريعة، وصل إلى أمامها في لحظات.
وقف حاجزًا بجسده، مُخفيًا إلينا خلفه بعناية، ثم قال:
“تحيّاتي، سموّ الدوقة الكبرى.
مرّ وقتٌ طويل منذ لقائنا في قاعة المأدبة.”
“…….”
امتلأ مجال رؤية فرِدِيا فجأةً بصدرٍ عريضٍ صلب.
ارتعشت قليلًا، ثم رمشت بعينيها.
تساءلت إن كان، مهما كان شوقه، قد اقترب أكثر ممّا ينبغي.
وبعد أن ظلّت تحدّق في الطريق المسدود أمامها، رفعت ذقنها ببطء.
“هل كنتَ تشتاق إليّ إلى هذا الحدّ؟
إلى درجة أن تستقبلني من دون أيّ مسافةٍ بيننا؟”
ألقت فرِدِيا نظرةً سريعة إلى المسافة الضيّقة بينهما.
وبعد أن تأكّدت أنّها لم تتوهّم، ارتفع طرف فمها بابتسامةٍ مائلة.
“لم أكن أعلم أنّك تحبّني إلى هذا الحدّ.”
التعليقات لهذا الفصل " 3"