.:
الفصل 6
“أنتَ مخطئٌ تمامًا الآن.”
“مخطئ؟ مستحيل. إذا لم تكوني جنيّة، فسأراهن باسم عائلتي.”
لم يدرك ثيودور أنّه أصبح أحمقًا دون علمه، بل ويوشك أن يخسر اسمه أيضًا.
بعد تكرار هذا الحديث عدّة مرّات، بدا أنّه ظنّ أنّني أحاول تغيير الموضوع لأنّه أصاب الحقيقة، فتغيّرت نبرته إلى نبرةٍ أكثر لطفًا.
اختفت نبرته الحادّة التي كانت تُرهقني، وحلّت محلّها نبرةٌ ودودة.
“هل ستنكرين حتّى الآن؟”
“لا أعرف من أين أبدأ بشرح هذا.”
“لا حاجة للشّرح. فقط اعترفي.”
اعترفي بماذا؟ بماذا أعترف؟ إذا لم يصدّق أنّني لستُ كذلك، فما الدّليل الذي يثبت أنّني لستُ جنيّة؟
في خضمّ هذا، بدا أنّه قلقٌ من هروبي، فأمسك ثيودور بكاحلي برفق.
“لا تفعل هذا.”
لحظة، لكن ماذا سيحدث إذا قلتُ إنّني لستُ جنيّة؟
“لو، لو لم أكن جنيّة، ماذا ستفعل؟”
“لستِ جنيّة؟”
“لا، أعني، لو افترضنا. لو لم أكن، ماذا ستفعل؟”
“إذا لم تكوني جنيّة، فلن يكون هناك سببٌ لأبقى هادئًا هكذا. كنتُ سأسحب حبل الجرس وأستدعي الحاضرة فورًا.”
“و، وبعد استدعائها؟”
“متسلّلة تدخل قصر الدّوق الأكبر، في غرفتي، في منتصف اللّيل؟ هل تظنّين أنّني سأطردها فقط؟ ربّما ستقضي شهرًا في زنزانةٍ تحت الأرض تتعرّض لتعذيبٍ قاسٍ-”
“سيّدي!”
عندما ناديته بصوتٍ عالٍ، أصبحت عيناه كعينيّ أرنبٍ مفزوع.
“كما هو متوقّع من سيّد عائلة فرانسيس الجميل. بصركَ حادٌّ حقًا. حسنًا، بما أنّ الأمر وصل إلى هذا، لا خيار أمامي سوى الكشف عن هويّتي المخفيّة.”
حتّى لو اكتُشف الأمر لاحقًا، المهمّ الآن هو تجاوز هذا الموقف بأيّ طريقة.
أشرتُ إلى نفسي بابتسامةٍ وقحة، وتذكّرتُ المنزل فتشكّلت ابتسامةٌ طبيعيّة.
حان الوقت لكشف هويّتي التي لم أكن أعرفها بنفسي.
“أنا بالضّبط تلك الجنيّة الأسطوريّة.”
“كنتِ تنكرين طوال الوقت، والآن؟”
“آه، هذا لأنّني، سيّدي، خجولةٌ منذ ولادتي.”
خداع هذا السيّد البريء كان صعبًا في المرّة الأولى، لكنّه أصبح سهلاً في المرّة الثّانية.
كنتُ أتفوّه بالكذب تلقائيًّا بمجرّد فتح فمي.
“…!”
كنتُ أتوقّع أن يثور ويتهمني بمحاولة خداعه، لكن ثيودور هدأ عندما وافقتُ.
كان يحتضنني بحذر، ثمّ وضعني على السرير.
شعرتُ بلمسةٍ ناعمة تحتي.
“كانت كلمات مربّيتي صحيحة.”
لم يضحك ثيودور ولم يعبس.
بدلاً من ذلك، أومأ كما لو كان يعرف ذلك منذ البداية.
“كما توقّعتُ. أنتِ أجمل من أيّ حوريّةٍ في الأساطير، فلا يمكن أن تكوني بشريّة.”
“جميلة؟ كح! كح!”
بدت عيناه المرتخيتان وكأنّه غارقٌ في أفكاره الخاصّة.
“نعم، كنتُ أعرف. منذ لحظة سقوطكِ في أحضاني، كنتُ أعرف. لا يمكن أن يصعب التّنفّس هكذا عند رؤية بشريّة.”
“لحظة، هل يمكنكَ عدم قول أفكارك بصوتٍ عالٍ؟ أم، كفى! أنا آسفة!”
احمرّ وجهي واستمرّيتُ بالسّعال.
توقّف السّعال فقط بعد أن أعطاني ثيودور كأس ماء.
“بالمناسبة، أعرف أنّ البانشي يدخلن البيوت بشكلٍ طبيعيّ، فلماذا سقطتِ من السّماء؟”
لأنّني لستُ جنيّة، بالطّبع، سيّدي.
كوني بشريّة يعني أنّني لا أستطيع دخول البيوت بهذه الطّريقة، لكن بما أنّني بدأتُ الكذب، قرّرتُ الاستمرار حتّى النّهاية.
“هذا لأنّني جنيّةٌ جديدة… لستُ د، أعني، جنيّة.”
“هل هناك جنيّاتٌ جديدات؟”
مالت رأسه باستغراب.
توقّف عن تحفيز ضميري بعينيك البريئتين المتلألئتين.
لا أعرف! أنا أقول هراءً لأبقى على قيد الحياة.
“نعم، هناك. عالم الجنيّات أكثر تعقيدًا ممّا تظن.”
“إذن، لماذا أتيتِ إلى هنا؟ هل لأنّ وقت موتي قد اقترب؟”
تحدّث ثيودور عن الموت بلا مبالاة، وبدا متحمّسًا بشكلٍ غريب.
استند بيديه على السرير ومال نحوي.
تقلّصت المسافة بيننا مجدّدًا.
“ماذا؟”
“لا تعرفين كم تمنّيتُ هذا اليوم.”
أمسك ثيودور يدي فجأة.
كانت يده البيضاء النّاعمة باردةً كجثّة، فانتفضتُ مفزوعة.
كانت درجة حرارة جسمه أقلّ ببضع درجاتٍ من الآخرين.
كان ملمس جلده يشبه جلد الزّواحف.
أمسك يديّ بكلتا يديه كما لو كان يصلّي، وقال بنبرةٍ ملؤها التوسّل:
“أنتِ هنا لأخذ حياتي، أليس كذلك؟”
“هذا…”
تذكّرتُ أنّ البانشي تظهر قبل الموت مباشرة.
أليس من الطّبيعيّ أن يشعر بالخوف؟
لا أحد يُرحّب بمن ينبئ بموته.
لكن ثيودور كان يرحّب بي منذ البداية.
شعرتُ بالقلق من ردّ فعله هذا.
“سيّدي، ألا تخاف؟ ألم تقل إنّ البانشي تظهر عند الموت؟”
“أخاف؟ أنا؟ يا للسّخرية! لا تعرفين كم تمنّيتُ الموت.”
بدا ثيودور وكأنّه يمضغ كلمة الموت بلا مبالاة.
“كلّ يوم، كلّ لحظة، كنتُ أنتظر يوم موتي.”
“…!”
نظرتُ إلى يده الباردة التي أمسكتني بحماس.
كانت أكبر قليلاً من يد جريتنا، لكنّها رقيقةٌ وناعمة.
على الرّغم من صغر سنّه، لماذا يريد الموت؟ كان من الصّعب تخمين السبب.
لذلك، لم أجد الكثير لأقوله لثيودور.
كنتُ فتاةً في المدرسة الثّانويّة، أُجبرتُ على دخول روايةٍ أثناء إجراء اختبار القبول الجامعيّ، وهويّتي ليست أميرةً أو نبيلة صغيرة، بل خادمة.
لو كنتُ قد قرأتُ الرّواية قبل التّجسدِ، ربّما كان الوضع أفضل.
لو عرفتُ ماضي ثيودور، لكنتُ قدّمتُ له تعزيةً أكثر مصداقيّة.
ربّما كنتُ ساعدتُ هذا السيّد التعيس بمعلوماتٍ لا يعرفها الآخرون.
لكنّني لا أعرف شيئًا، سوى النّهاية التي ذكرتها أختي عابرة.
حتّى الآن، شعرتُ بأصابعه البيضاء ترتجف بشكلٍ يثير الشّفقة.
سحبتُ يدي برفقٍ من قبضته.
“سيّدي، اليوم ليس يوم موتكَ.”
أظلمت عيناه الزرقاوين المليئتين بالتّوقّع فجأة.
ظهر الغضب على وجهه الجميل.
أمسك ثيودور قبضته بقوّة.
“إذن، لماذا أتيتِ؟ لماذا… ظهرتِ أمامي؟”
“لقد أتيتُ لأساعدكَ على النّوم. لقد تمنّيتني بشدّة في قلبك، فجئتُ.”
“من قال إنّني أريد رؤية شخصٍ مثلكِ؟”
“حسنًا، حسنًا، إذن ربّما أنا من أراد رؤيتكَ.”
لا أحد يستطيع أن يبصق على وجهٍ مبتسم.
رفعتُ زاوية فمي وابتسمتُ بمكرٍ لتجاوز الموقف.
نظر ثيودور إلى وجهي المبتسم بذهول، ثمّ أدار رأسه بعنف.
“لا فائدة.”
بدا أنّه متضايق، إذ انتفخت خدّاه النّحيفان قليلاً.
هكذا يبدو مثل طفلٍ تمامًا. طفل.
بدا ثيودور متعبًا، فاستند إلى رأس السرير بشكلٍ مائل.
“لم أنم بعمقٍ قطّ. ربّما قتلي سيكون أسرع.”
“هل تعاني من الأرق؟”
كنتُ مفتونةً بعينيه الجوهريّتين فلم ألاحظ، لكن عندما دقّقتُ في وجهه الجميل، رأيتُ أخيرًا.
كانت هناك دوائر داكنةٌ أرجوانيّة تحت عينيه، كما لو أنّه لم ينم جيّدًا.
“في اللّيل، يؤلمني جسدي. أستطيع تحمّل حكّة أسناني، لكن ظهري وجبهتي يبدوان كما لو أنّهما سينشقّان.”
“هل هذا ليس خطيرًا؟”
عند سماع كلمة “ينشقّان”، فحصتُ جبهته.
ألا يجب استدعاء طبيبٍ لهذا؟
كأنّه قرأ أفكاري، هزّ ثيودور رأسه ببطء.
“الأدوية تجعل الألم محتملاً. لكن أكثر من ذلك…”
“أكثر من ذلك؟”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"