السيدةُ الشرِيرةُ تُخفيِ هَويتهِا - 1
الفصل الأول
في القبو الرطب للمعبد، هناك حيث تقع غرفة الصلاة السرية.
غرفة لا يُسمح بدخولها إلا بإذنٍ خاص من البابا نفسه، ولهذا يعتبرها البعض مكانًا مقدسًا.
ويُطلق عليها أيضًا اسم غرفة الاعتراف.
“يا ابنتي البِكر.”
كانت ريڤونيا معتادة على كل ما يجري هنا.
سواء كان الأمر رؤية البابا فريتيس، الذي يُقال عنه إنه الأقدس والأطهَر في التاريخ، وهو يُمسك بالسوط، أو مشاهدة كاهنٍ جاثٍ على ركبتيه، قابضًا على ألمه في صمت.
“نعم، قداسة البابا.”
رائحة العفن الكريهة اخترقت أنفها، شعرت بالغثيان يتصاعد في حلقها، لكنها كما فعلت طوال السنوات الماضية، قمعت إحساسها وطمسته سريعًا.
لقد اعتادت على هذه الفظائع لدرجة أنها لم تعد تميّز إن كانت بشرًا أم مجرد دمية بلا روح.
عند الزاوية، ألقى البابا فريتيس بالسوط بغضبٍ قبل أن يصدر أوامره بصوتٍ بارد:
“اسرقي الإرث المقدّس لعائلة دوق كرايتان، وأحضِرِيه إليّ.”
هنا، كانت أوامره مطلقة، ولم يكن لدى ريڤونيا خيارٌ سوى الطاعة.
“يمكنكِ استخدام أي وسيلة تراها مناسبة.”
تمتم وهو يداوي الجرح الذي سببه السوط على يده، دون أن يلقي بالًا للكاهن الذي كان يتلوّى من الألم أمامه.
“يا ابنتي.”
كان دائمًا يتصنّع نبرةً رؤوفة، وكأنه إلهٌ يُلقي ببركته، كلما كلفها بمهمة.
“وإن تمّ القبض عليكِ، فتأكدي من أن تموتي دون أن تتركي أثرًا.”
أوامر خفية، تُمنح لخدمه ليحققوا رغباته الشخصية، حتى وإن كانت تناقض مشيئة الإله، ومع ذلك… لا يزال يمتلك تلك القوة المقدسة التي يُقال إنها هِبةٌ إلهية.
يا له من إله… قاسٍ… لا يبالي.
“نعم، قداسة البابا.”
خفضت ريڤونيا عينيها ببطء.
راح البابا يمسح يديه الملطختين بالدماء بالماء المقدس، ثم ألقى عليها نظرةً جانبية، وهو يقول بنبرة هادئة:
“يا ابنتي، لقد بلغتِ سن الرشد، أليس كذلك؟ أظنّ أن الوقت قد حان لتستقلي بذاتك.”
“ماذا؟”
“نعم، إن أكملتِ هذه المهمة بنجاح، سأمنحكِ الاستقلال.”
ارتجفت عيناها للحظة.
“لقد نضجتِ الآن، ويمكنكِ أن تعيشي وحدكِ، أليس كذلك؟ ما عليكِ سوى إنهاء هذه المهمة، وسأقدم لكِ الدعم اللازم… بعدها، يمكنكِ أن تعيشي كما تشائين.”
… أن تعيش كما تشاء؟
عبارة ترددت في عقلها، بعد أن كانت حياتها متوقفة لسنوات طويلة…
ضحك البابا قائلًا:
“إن فشلتِ في المهمة، فلتلقي حتفكِ. فذلك وحده ما يُعدُّ عدلًا، أليس كذلك؟”
يمكنها أن تتوقف الآن. يمكنها أن تنهي هذا كله، أن تتوقف عن تنفيذ أوامر البابا، أن تتحرر.
لكن…
انحنت ريڤونيا بعمقٍ، وهمست بصوتٍ ثابت:
“سأراهنُ بحياتي.”
في هذه غرفة الاعتراف المعتمة، حيث لا يصل شعاع شمس، لم يكن هناك إله.
—
خمس سنوات.
أول ذكرى في عقل ريڤونيا كانت عن دار الأيتام.
في ذلك اليوم، رأت شقيقتها في الدار تُباع لمالكٍ مجهول بسبب المديرة، وسمعتها تنتحب بيأس.
خافت ريڤونيا. إن بقيت هكذا، فقد تلقى المصير نفسه، فقررت الهرب إلى أحد الملاجئ التابعة للإمبراطورية.
لكن الوضع هناك لم يكن أفضل.
المكان الذي كان من المفترض أن يكون ملجأً آمنًا للأطفال لم يكن سوى ساحة للعنف والقسوة المستمرة.
كانت أيامًا وحشية لدرجة أنها، رغم صغر سنها، فكرت أن الموت قد يكون خيارًا أهون.
لكن أين يمكنها الفرار؟
وفي خريفها الخامس، خلال احتفالات مهرجان الحصاد، قابلت ريڤونيا البابا فريتيس لأول مرة.
جاء لزيارة الملجأ وتفقّد أحواله، فتشبثت بردائه وهي تبكي، تتوسله أن يُنقذها.
تذكّرت كلماته بوضوح:
“هل ستفعلين أي شيء لأجلي؟ إن وعدتِ بذلك، فسأجعلكِ تعيشين كإنسانة.”
كان يجب أن تهرب حينها.
لكنها لم تفعل.
فما الفرق بين جحيمٍ تتركه خلفها، وجحيمٍ آخر تمضي نحوه؟
كان تفكيرها حينها ساذجًا.
اصطحب البابا فريتيس مجموعة من الأطفال معه، من ضمنهم ريڤونيا، ونقلهم إلى قصر صغير على أطراف المدينة.
هناك، ارتدت ملابس فاخرة، استحمت بالماء الدافئ، ولم تعرف الجوع مجددًا.
وحين بلغت السادسة، بدأت تتلقى تعليمًا خاصًا على يد المعلمين الذين أحضرهم البابا.
حتى جاء اليوم الذي قيل لها فيه:
“ضعي هذه الرسالة في جناح الكاردينال.”
قبل خمس سنوات.
كان ذلك أول اختبارٍ لها.
ومنذ ذلك اليوم، أصبحت عينا البابا وأذنيه، ظله الذي يتحرك في الخفاء.
كلبًا ربّاه البابا بنفسه.
هذا هو الثمن الذي دفعته ريڤونيا كي تعيش كإنسانة.
أما أولئك الذين فشلوا في تنفيذ أوامره، أو حاولوا الهرب… فقد عُثر عليهم جميعًا جثثًا باردة.
في هذه الإمبراطورية، لا أحد يمكنه الهرب من عين البابا، حتى الإمبراطور نفسه لم يكن يمتلك نفوذًا يضاهيه.
أما ريڤونيا الصغيرة، فقد أُجبرت على تنفيذ المهام رغم صغر سنها، وحين كانت تبكي متوسلةً عند قدمي البابا ألّا يُحمّلها هذا العبء…
لم يكن مصيرها سوى العقاب.
لحسن الحظ، كانت ريڤونيا طالبةً متفوقةً، لم يسبق لها أن فقدت المركز الأول في تعليمها.
وربما لهذا السبب، نجت من الموت رغم إخفاقها في ثلاث مهام.
لكن هل يمكن حقًا اعتبار ذلك “حسن الحظ”؟
في النهاية، لم يكن أمامها خيار سوى النجاة.
ومن أجل ذلك، قتلت كل مشاعرها، وأصبحت اليد التي يُحرِّكها البابا، والقدم التي تسير بأوامره.
—
في الوقت الحاضر.
أطلقت ريڤونيا تنهيدةً متعبة، وهي جالسة في كوخها، الذي اتخذته ملجأً لها.
“هاه…”
كانت مستندةً إلى الكرسي، رأسها مائلٌ إلى الخلف، ووجهها مغطى بكومة من الوثائق.
إنها معلومات عن عائلة دوق كرايتان.
تمتمت بسخرية:
“يبدو أن تجسُّدي من جديد كابنة دوق كرايتان سيكون أسهل من سرقة إرثهم!”
عائلة دوق كرايتان…
الحُماة الذين يحمون الإمبراطورية، ويضمنون أمنها وسلامها.
كان الدوق ورجلاه من مستخدمي الأورا، ما جعلهم أقوى عائلة بلا منازع.
أولئك الذين يستخدمون الأورا، تتباطأ شيخوختهم بشكل كبير، حتى يكاد يُقال إنهم لا يموتون، وبطبيعة الحال، تراكمت قوتهم وثروتهم وشهرتهم عبر السنين.
ببساطة، لا يوجد نقطة ضعف يمكن استغلالها.
سوى واحدة.
ابنتهم الصغرى.
طفلة لم يُكمل عمرها عامًا حين اختفت.
قبل عشرين عامًا، تعرضت عربة الدوقة لكمين.
عُثر على جثتها، لكن الرضيعة اختفت دون أثر.
ورغم مرور كل هذه السنوات، ما زالت العائلة تبحث عنها…
ريڤونيا نَقرت بلسانها، وهي تفكر:
“تافه، هناك الكثير من المحتالين الذين ادَّعوا أنهم الابنة الضائعة… سيكون من الصعب عليَّ التظاهر بذلك.”
الدوق سيُشكك فورًا في أي شخص يدّعي أنه ابنته، لذا من الأفضل تجنُّب هذه الطريقة تمامًا.
لكن، يجب أن أنجح مهما كان الثمن.
الأمر لا يتعلق بقتل أحد، بل مجرد سرقة إرث.
وبمجرد إنجاز المهمة، يمكنها الاختفاء عن أنظار البابا إلى الأبد.
لقد نجت من كل شيء حتى الآن… لا يمكن أن تفشل في خطوتها الأخيرة.
“لا مجال للتراجع.”
صفعت وجنتيها براحة يديها، ليخترقها ألمٌ حارقٌ للحظة.
“أولًا، عليَّ معرفة ماهية الإرث.”
فقط حين تتأكد من ذلك، ستقرر كيف ستسرقه، سواء بوضعه في كيس أو إخفائه في ملابسها.
لكن اختراق قصر كرايتان ليس بهذه السهولة.
الحراسة مشددة للغاية، وحتى مع التنكر، فلن تتمكن من الدخول ما لم يكن لديها هوية موثوقة.
صناعة هوية مزيفة ليست صعبة، لكنها لا تنوي التسلل الآن، فقط تريد معرفة مكان الإرث.
ابتسمت ببطء، وهمست:
“لحسن الحظ، لدي شيء لهذا.”
مدّت يدها نحو درج الطاولة، وسحبت زجاجة دواء صغيرة، كانت مدفونة هناك منذ مدة.
كانت تلك جرعة تقليص.
إذا شربتها، ستصبح صغيرة بحجم ظفر إصبع اليد.
اشترتها بثمن باهظ بعد استخدامها سابقًا في إحدى مهام السرقة، وخبأتها لاستخدامها في الهرب إن لزم الأمر.
لكن هذه المرة، لن تحتاج للهروب.
بمجرد إنجاز المهمة، لن تكون هناك حاجة للهرب أصلًا.
“سأشرب الجرعة، وأدخل قصر كرايتان لأتحقق من الإرث بنفسي.”
فتحت ريڤونيا غطاء الزجاجة، رفعت الوثائق الأخيرة أمام عينيها، ثم…
شربتها دفعة واحدة.
فتحت ريڤونيا الدُّرج، وأمسكت بزجاجة صغيرة كانت تتدحرج بداخله.
إنها جرعة تقليص، ما إن تشربها حتى يصبح جسدها صغيرًا بحجم ظفر إصبع اليد.
استخدمتها سابقًا في إحدى مهام السرقة، ثم اشترت واحدةً أخرى بسعر باهظ، وخبَّأتها بحرص.
“لم أحتفظ بها من أجل مهمة… بل لاستخدامها إذا اضطررتُ للهرب.”
لكن، إن نجحت في هذه المهمة، فلن يكون هناك حاجة للهرب أصلًا.
“سأشرب الجرعة، سأصبح صغيرةً، ثم سأدخل قصر كرايتان لأتفحص الإرث بنفسي.”
فتحت ريڤونيا غطاء الزجاجة، حدَّقت في الوثائق مرة أخيرة، ثم…
شربتها دفعة واحدة.
—
“ما هذا؟!!”
صدى صرختها ارتد في أرجاء الغرفة.
لم يكن جسدها صغيرًا فحسب… بل عاد تمامًا إلى ما كان عليه حين كانت في الخامسة من عمرها!
ريڤونيا، الطفلة التي كانت تهرب من دار الأيتام إلى الميتم الإمبراطوري.
وضعت يدها على صدرها، شعرت بضيق شديد، قبل أن تسقط على الأرض بلا حول ولا قوة.
كان نبضها يدوي في أذنيها، وكأن الطبول تقرع داخل رأسها.
دوووم… دوووم… دوووم…!
الدنيا تدور… الرؤية تنقلب رأسًا على عقب… الهواء ثقيل… والوقوف مستحيل.
من…
من سينقذني؟
مدَّت يدها، محاولةً أن تتمسك بشيء.
لكن، كما كان الحال دائمًا…
لم يكن هناك أحد لينقذ ريڤونيا.
وفي اللحظة التالية، أُغمي عليها.
—
حين فتحت عينيها، كان كل شيء… مختلفًا.
“هاه؟!”
الأرض أصبحت أبعد، والملابس التي ترتديها أكبر بكثير مما ينبغي.
يدها… قدمها… صارت صغيرة جدًا.
وحين نظرت إلى ظهر يدها، رأت ندبة قديمة، كانت قد حصلت عليها عندما تسللت عبر سياج دار الأيتام.
تلك الندبة التي اختفت تمامًا منذ زمن… عادت لتظهر بالشكل ذاته.
“مـ… ما هذا؟!”
“يدي… لماذا أصبحت صغيرة هكذا؟!”
“صوتي… لماذا يبدو هكذا؟! لماذا… لماذا…؟!”
لم يكن هذا تقليصًا.
“مـ… ماذا؟! طولي… لماذا أصبحت قصيرة جدًا؟!”
“وصوتي… لماذا أتكلم بهذا الشكل الغريب؟!
“مرآة!! أين المرآة؟!”
ريڤونيا لم تصبح صغيرة فقط…
لقد عادت إلى طفولتها، تمامًا كما كانت في الخامسة من عمرها، حين كانت تهرب من دار الأيتام.