أردتُ رؤيتك. ليس لأسبوعٍ واحدٍ فقط، بل لتسعةٍ وعشرين عامًا. قضى ليون بيرج حياته كلها يبحث عن مُنقذ للهاوية التي وقع بها.
بحرٌ حالك السواد. مستنقعٌ كثيفٌ وحيدٌ يتجمع عند قدميه. لم يُدرك أن الوحدة السوداء التي ظلّ يقطعها قد تجاوزت ركبتيه وكتفيه، وباتت تخنق رقبته – حتى التقى بها.
– “أحيانًا أفكر في الأمر. وكأن الدموع التي ابتلعتها تتراكم في داخلي. تتراكم حتى تصل إلى عينيّ يومًا ما، ومن حينها لن يكون أمامي خيار سوى البكاء طوال حياتي.”
أمسك أحدهم بيده الغارقة وسحبه. زفر نفسًا باردًا متيبّسًا، ثم استنشق نفسًا دافئًا. كان الأمر عكس ما يبدو تمامًا. لقد أنقذته، وأخيرًا أعادته ليتنفس.
– “هل أبكي عليك؟”.
كانت معجزة، مُخلِّصة. كانت أول حاكم نظر إليه وحده.
لكن كتلميذٍ أحمق في الكتب المقدسة، باع ليون حاكمه الوحيد بثمنٍ زهيد. تجرأ على فعل ذلك. قطّع بتهوّرٍ ذراتٍ من غبار الذهب، تاركًا إياها تتسرب من بين أصابعه مع الرمل. فقدها. لم يستطع العثور عليها. في الظلام الدامس حيث اختفت النار، عانق وجهه وأدرك الحب في الوحدة. ندم على ما فعله، متمنيًا لو يستطيع التراجع عنه، مع علمه أن الزمن لا يعود أبدًا.
“أردت رؤيتكِ مرة أخرى قبل ذهابي.”
لم تكن المشاعر التي تُعذبه بتلك الحلاوة أو الجمال الذي وصفه العالم. كانت ببساطة شفافةً بشكلٍ بائس، لدرجة أن غروره في الاعتقاد بأنه يستطيع إخفاؤها كان أمرًا لا يُصدق.
في الحقيقة، بدلًا من أن يقول إنه يريد رؤيتها، كان لديه شيء آخر ليقوله. منذ لمّ شملهما، لو كان لا يزال في التاسعة عشرة من عمره، لكان قد تفوه به بالفعل. لكنه في الوقت نفسه، كان يعلم أنه يجب عليه الصمت. ليس لأنه ابن الحاكم، بل لأنه سيُشارك قريبًا في الصفوف الأمامية.
لو مات ليون الليلة، لكانت مشاعره المشتعلة علامة عليها. لم يستطع أن يُثقل كاهلها برغباته الأنانية. لذا، بدلًا من أن يُعبّر عما أراد قوله بصدق، اعترف ليون مجددًا.
“نعم، أردت رؤيتكِ.”
قول “أردت رؤيتك” مأساة. لأن الكلمات وُلدت من الشوق. لأنها تناقلتها القلوب بين عشاق لم يتشاركوا الحب قط.
بدت فيرونيكا مرتبكة. لمعت عيناها الحمراوان الزاهيتان كشعلة في الريح. طاردت نظرة ليون المتعطشة ذلك التغيير الطفيف في تعبيرها. لم يُرِد أن يُفوّت لحظة واحدة. أراد أن يحفرها في شبكية عينه، وأن يُخلّدها في ذاكرته. لم يُهم إن بدت غاضبة أو علامة استياء، طالما كان وجهها آخر ما يتذكره.
لكن الاضطراب اللحظي تلاشى عندما كبحت فيرونيكا مشاعرها كما لو كانت تكبتها. بدلًا من أن تغضب أو تسأله عن سبب قوله هذا الآن، نظرت إليه بنظرة بعيدة، عضّت شفتيها. كما لو أن الأمر لا يستحق الرد، كما لو أنها مستسلمة. هذا كان جوابها. كانت متعبة جدًا لدرجة أنها لم تعد تتأثر أو تهتز، ولم تعد تغضب. لم تتوقع شيئًا حتى لا تتأذى.
قالت إنها لا تريد رؤيته مجددًا، أليس كذلك؟ عندما ظهرت ذكرى حديثهما خلال النهار، تألم قلبه.
لم يكن لديه أي عذر، حتى لو كان لديه عشرة أفواه. راقب ليون بعجز أكاذيبه وهي تعود لتخترق قلبه. أراد قتل النسخة التي نطقت بتلك الكلمات من نفسه.
“أعلم أن هذا تصرفٌ وقح. أعلم أنه لا يمكننا العودة إلى ما كنا عليه.”
وتابع ليون بصوت منخفض، “فقط دعني أبقى بجانبك.”
أراد أن يجذب نظرها إليه. لكن صوتها الذي يأمره بعدم لمسها سيطر على أفعاله. أراد ليون أن يتغير. أراد أن يجرب. يده، التي استقرت على السرير، قبضت على الملاءة ببطء.
“أنا لا أفعل هذا لأني أريد شيئًا منكِ. لن أطلب منكِ حتى أن تُعجبي بي مجددًا. لا أمانع لو كرهتني بشدة. اضربيني كلما راودتكِ ذكريات مؤلمة، آأذيني كما آذيتك – افعلي ما تشائين. فقط حتى ينتهي كل هذا.”
“……”
“فقط ابقى معي حتى ذلك الحين.”
لو أرادت، لكان قادرًا على دفع أي ثمن. سيركع، ويلعق قدميها، بل ويكرر نوبات الهياج المؤلمة حتى الموت – أيًا كانت رغبتها. طالما بقيت بجانبه. لن تطول حياته على أي حال.
الصمت الذي بدا وكأنه سيستمر إلى الأبد تحطم في تلك اللحظة.
“لكي يكون هذا طلبًا لا أمرًا، يجب أن تكون كلماتي ذات وزن، أليس كذلك؟ ولكن إذا طلبتُ منك المغادرة، فهل يمكنك المغادرة بصدق دون قول أي شيء آخر؟.”
خيّم صمتٌ ثقيلٌ مظلمٌ كما لو أنه أُخذ على حين غرة. اختفى تعبير ليون وهو يُكرّر سؤالها لنفسه. ارتجف قلبه بعنف. غمرته حقيقةٌ باردةٌ ومُزعجة، ارتجفت حتى النخاع.
على الرغم من أنه تعهد بعدم التصرف بأنانية، إلا أن توسله كان في النهاية أنانيًا تجاهها.
إن كان ينوي حقًا دفع أي ثمن، فعليه أولًا احترامها تمامًا. حتى لو قررت أنها لا تريد رؤيته مجددًا، حتى لو اضطر إلى البقاء بعيدًا عن الأنظار حتى وفاته.
“إذا كان هذا ما تريدينه.”
بدت فيرونيكا متفاجئة بعض الشيء من الإجابة التي جاءت بعد هذا الوقت الطويل. أطلق ليون ضحكة خفيفة وهو يفرك عينيه.
“لماذا تضحك؟”.
“لأنني ندمت على ما قلته في اللحظة التي قلته فيها.”
عندما أجابها بصدق، رمقته بنظرة غريبة. ولبرهة، ملأ صوت المطر الصمت بينهما. فتحت فيرونيكا فمها فجأة، وهي تحدق في النافذة بنظرة فارغة.
“هل تعلم أن دلو السرطانات لا يحتاج إلى غطاء؟”.
“…ماذا؟”.
“تسحب السرطانات بعضها بعضًا إلى الأسفل عندما يحاول أحدها الصعود. لذا لا داعي للتغطيته.”
“……”
“في بعض الأحيان، أعتقد أن البشر الذين سقطوا إلى القاع ليسوا مختلفين كثيرًا.”
أضاءت الغرفة فجأة. لم يجد ليون ما يقوله. عندما وصل الصوت مع هدير، وأظلمت الغرفة من جديد، كانت شفتاها على شفتيه.
“أريد أن أدمرك.” همست فيرونيكا من الجانب الأيمن منه، بعد أن سحبت شفتيها بعيدًا.
“أتمنى أن تسقط بعيدًا لدرجة أن الحاكم سوف يتقزز ويتخلى عنك.”
لقد سمع هذه الكلمات من قبل. يوم فرارهم من الانهيار الأرضي – يوم أخبرته باسمها. لم يفهم ليون تمامًا ما قصدته حينها.
“الآن بعد أن فكرت في الأمر، لم تخسر شيئًا.”
أُزيلت قطع من الدروع، وسقطت على الأرض. تحرك ليون لا إراديًا ليوقفها، لكنه تجمد في مكانه في اللحظة التالية. رأى كتفي فيرونيكا يرتجفان قليلاً.
“في الواقع، أعتقد أنني أعرف ما حدث خلال الأسبوع الماضي. لم أكن جائعة حتى، وتقيأت كل ما تناولته من عشاء.”
“……”
“لم أنم إطلاقًا، ولم أعد أرى أي رؤى. لا أستطيع حتى فتح جفني الداخلي كما كنت أفعل عند استدراجهم. هناك خطب ما.”
كان صوتها يرتجف كما لو كان مبللاً بالمطر.
“حاولتُ ألا أفكر في الأمر. لكن الآن، أشعرُ حقًا أنني مجرد باهاموت عادية”، تمتمت بخوف.
أخيرًا، لم يعد ليون قادرًا على التحمل، فضمّها بين ذراعيه النحيلتين. كان يعلم أنه لا ينبغي له أن يلمسها، لكن ذلك كان حتميًا. إن تركها وشأنها، فقد تجرفها العاصفة.
“ششش، لا بأس،” قال بهدوء، وهو يحتضنها بقوة، وكانت ذراعيها، الملفوفة حول رقبته، أكثر استفزازًا في الظلام.
تلامست أجسادهم دون أي مسافة. كان يسمع دقات قلبها. عطشها لا ينتهي. كان يتمنى رؤيتها لآخر مرة، أما الآن فيريد أن يشاركها الدفء.
“إذا كنت قد أصبحت حقا باهاموت، فإن احتضاني سيكون أعظم خطيئة في العالم،” همست فيرونيكا في الظلام.
صحيح. حتى الحاكم لا يغفر فسادًا مثل خيانته مع شيطان.
كانت تطلب منه أغلى ما في قلبه. حتى لو بذل كل شيء، فلن ينال الحب بالمقابل. كانت صفقةً ظالمةً للغاية، لكن ليون كان يعلم أنه لن يرفض. لأن هذا هو الإيمان: إخلاصٌ غير مشروط وتضحيةٌ لا ترحم.
تحركت يده نحو شعرها الأسود، ممسكًا به وهو يجذبها نحوه. أمال رأسه، ولامست شفتاه عنقها، وقبّلها بعمق. كان لعابها حلو المذاق، كالخمر. مرر لسانه برفق على أسنانها، ضاغطًا على حنكها حتى استجابت.
عندما خرج أنين خفيف من شفتيها أخيرًا، أصبح خشنًا، ولسانه يغوص فيها ليأخذها. لم يكن هناك مفر. أعمق، أعمق. دفع حتى شعر وكأنه يصل إلى حلقها. في كل مرة تتوقف فيها الأصوات الرطبة، ينطلق شهقة. يده الكبيرة، التي تنزلق تحت قميصها الأبيض الرقيق، تقبض على جلدها بإحكام.
أه، أه.
لطالما اعتقد أن هذا الفعل أشبه بالقتل، من حيث السادية التي تدفع المرء إلى الرغبة في الموت.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 77"