الفصل 54 – لقد اختارك أخوكِ الأكبر
حين تمتمتُ بدهشة، وقف كاردين أمامي كمن يحاول حمايتي.
قال بصوت عميق، وقد كانت نبرته مشوبة بالحذر:
“لقد أخبرونا أنكما، أنت وفرانز، اختُطفتما على يد تاجر عبيد. يبدو أنهم أتوا لاستعادة فرانز.”
تقدّم الثعلب ذو العين الواحدة بانحناءة خفيفة، كمن يظهر احترامًا أمام كاردين، ثم قال بصوت رصين:
“يا سمو الدوق، كيف حال فرانز؟”
رد كاردين ببرود ممزوج بالحزن:
“فرانز تم تحويله قسرًا إلى هيئة بشرية وهو الآن في غيبوبة. سأعالجه وأعيده إليكم.”
لكن الثعلب أجابه بجدية:
“لا يمكننا السماح بإزعاجكم، فمضاد السمّ بحوزتنا.”
مضاد سمّ؟! خرجتُ من خلف كاردين واقتربت من الثعلب ذو العين الواحدة.
“هل تملكون حقًا مضادًا للسم؟ أعطوه لفرانز حالًا!”
حين رأى الثعلب مظهري البشري، اتّسعت عيناه وصُدم.
“أأنتِ أيضًا… تم تحويلك إلى بشر؟!”
بدأ بقية الثعالب يهمهمون بقلق وظهرت عليهم علامات الاضطراب، كانت نظراتهم نحوي مشوبة بالخوف والتوتر، كأنهم أمام وحشٍ مرعب.
لماذا يخشون كوني تحولت إلى بشر؟
قبضتُ يدي بشدة، ثم قلت:
“نعم، لقد حُوّلتُ قسرًا مثل فرانز.”
سألني الثعلب بذهول وصوت مرتجف:
“لكن… كيف استطعتِ الحفاظ على وعيك؟ ذلك الدواء يُفترض أن يحوّل المرء إلى دمية بلا روح.”
أجبته بصراحة:
“لا أعلم. في البداية لم أستطع التحرك، لكن شيئًا فشيئًا استعدت قدرتي.”
قال الثعلب بتنهيدة مثقلة:
“إنها قوتكِ… لقد أبطلت مفعول الدواء برغبتك الساحقة في استخدام السحر.”
هل بلغت قوتي هذا الحد؟ لا أعلم إن كان ذلك نعمة أم لعنة.
لكن نظرات الثعالب لي باتت أكثر حدة، كأنني شر محض.
لِم يروني كوحش؟ لست كذلك…
في تلك اللحظة، وضع كاردين يده برفق على كتفي. كان ينظر إليّ بعينين دافئتين مليئتين بالحنان.
قال بنبرة حاسمة:
“شوفيليا، سأتعامل معهم بنفسي. اذهبي لترتاحي في العربة الأخرى.”
أن يتعامل كاردين مع شعب الولفِس؟ نظرت إلى سيفه المعلق على خصره، وشعرت بالقلق.
“أ… أنت لا تنوي إبادتهم، صحيح؟ لا يمكنك فعل ذلك!”
أمسكت بسترته برجاء، لكنه ابتسم ساخرًا:
“أترينني بهذا القدر من الوحشية؟”
أطرقت برأسي خجلًا:
“لا… ليس كذلك…”
حينها لاحظت الثعلب ذو العين الواحدة يتحدث إلى ثعلبة صغيرة ذات فرو فضي وحقيبة صغيرة على خصرها.
“لينا، أعطي فرانز مضاد السم.”
“نعم، يا أستاذي.”
حرّكت لينا ذيلها فتحولت في لحظة إلى فتاة بشرية يافعة في سن المراهقة، بشعر فضي قصير وفستان من نفس لون الفرو.
يالها من قدرة مدهشة على التحول!
تحدّثت إليها وأنا أراقبها بانبهار:
“فرانز في تلك العربة…”
قاطعتني بنبرة باردة وهي تطأطئ رأسها:
“لا حاجة لإخباري، يمكنني التعرف على رائحته بسهولة.”
هل تخافني؟ أم أنها تكرهني؟
توجهت لينا مباشرة إلى العربة، عرفت طريقها بلا تردد — فهي ثعلبة، وحاستها الشمية مذهلة.
“كاردين، سأذهب لأتفقد إن كان فرانز قد تناول الدواء.”
أومأ كاردين برأسه بصمت.
أما بقية الثعالب، فقد خفضوا رؤوسهم وذيولهم كمن يقف أمام ملكٍ مرهوب الجانب.
تقدّمتُ من العربة، فتوقّفت فجأة.
لينا كانت تحدق فرانز، وجهها شاحب وملامحها توشك على البكاء. كانت تلمس وجهه برفق بالغ، بعينين تغمرانها المحبة والقلق.
“يا أحمق… كنت واثقًا جدًا بنفسك، فكيف انتهى بك الأمر هكذا؟”
صوتها المرتجف حمل همسًا من العتاب، ممزوجًا بالحزن.
آه… إنها تحب فرانتس.
وقفت مترددة عند باب العربة، ثم التفتت إليّ فجأة.
“وقحة! هل تتجسسين علينا؟”
“لا! أنا فقط قلِقة عليه…”
لوّحت بيدي على عجل.
قالت بصرامة:
“أنا من سيعطيه الدواء، تراجعي.”
كانت محقة. فرانز لا يستطيع تناول الدواء بنفسه، فتنحّيت بهدوء.
انتظرت بقلق لدقائق، حتى فُتح باب العربة فجأة. خرجت لينا وهي تمسك بزجاجة فارغة، تمسح فمها بكمّها.
“هل… هل شرب الدواء؟ هل هو بخير؟”
رمقتني بنظرة غاضبة:
“كيف يمكنكِ أن تظلي هادئة هكذا؟”
“ماذا؟”
“لقد أطعمته الدواء بنفسي، ومع ذلك تبدين غير مبالية. ألستِ خطيبته؟!”
الخطيبة؟ مجددًا هذا الهراء. لا أذكر شيئًا، فلم هذا الإصرار؟
خفضت لينا رأسها وارتعش كتفاها.
“أنتِ لا تعتبرينه خطيبك، ومع ذلك هو ضحى بالكثير من أجلك! هل تعلمين؟!”
“ماذا تعنين بالتضحية؟”
نظرت إليّ بعينين دامعتين:
“قال إنه سيختاركِ أنتِ… وتخلى حتى عن منصبه كقائد قادم لعشيرتنا!”
مستحيل…!
كنت أظن أنه فقط يرافقني من أجل تدريبي. لم ألحظ شيئًا من مشاعره الحقيقية.
“لم… لم أكن أعلم.”
قالت لينا بعينين مكسورتين:
“بسببكِ، عشيرتنا عاشت في خوف دائم. الكبار حذرونا منك دومًا، قالوا لا نقترب منكِ.”
آه…
عاد الألم القديم إلى السطح. لا أذكر شيئًا من حياة رُويل، الثعلبة التي تلبّستني، لكن الألم بقي في قلبي.
لينا كانت تخبئ جراحها في جسدها الصغير والهشّ، لكنها الآن انفجرت.
نظرت إليّ وصرخت:
“أنتِ نذير شؤم، ظلام يبتلع كل شيء. من يقترب من الظلام يصاب
بالعمى ثم يُبتلع. أخي ابتلعه ظلامكِ!”
“هذا ليس صحيحًا، اهدئي رجاءً.”
أردت تهدئتها، لكنها فجأة ركعت أمامي.
“لينا؟!”
“أرجوكِ… أرجوكِ!”
توسلت إليّ وهي تتشبث بي برجاءٍ يفتّت القلب.
“أرجوك، لا تعذّبي قلب أخي أكثر. غادري. إن أردتِ قوتي، خذيها… لكن ارحلي عن حياته، رجاءً!”
ماذا أستطيع أن أقول؟ لم أفعل شيئًا، ومع ذلك أخافهم لمجرد وجودي.
كأن يدًا سوداء خرجت من باطن الأرض لتأسرني.
حينها… خرج من فرانز أنينٌ خافت.
“…شوشو؟”
“فرانز!”
أسرعت إلى الداخل. كان يجلس مستندًا دون مساعدة.
شعره الفضي مبعثر، ووجهه شاحب بصورة مؤلمة. رفع يده يدفع خصلاته إلى الوراء.
عينيه الفضيتين تحدقتا بي بلا تركيز، ثم رمش فجأة، وعاد بريقهما.
“هاه… لقد نجوتِ، شوشو.”
حتى بعد أن أفاق، أول ما قاله كان القلق عليّ؟ يا له من… أحمق.
“أيها الأحمق! أقلق على نفسك أولًا! هل تذكر ما حدث؟”
“نعم… كل شيء.”
“وتذكُر كيف كنت تتصرّف كدمية بلا روح؟”
“كنت كمن غرق في أعماق البحر… عاجزًا عن فعل أي شيء.”
تمتم بمرارة.
لكنه مختلف الآن. شيء ما فيه تغيّر.
“أنت حقًا…”
كنت سأكمل، لكن لينا دفعتني بحدة.
“أخي، هل أنت بخير؟!”
أرتمت في حضنه وهي تبكي بانفجار.
“كنت خائفة أن أفقدك! أواه!”
تنهد فرانز وهو يربّت على رأسها بحنان:
“كفى بكاء، سيصبح وجهكِ القبيح… أقبح.”
“أوه، أخي…”
حاولت لينا كتم شهقاتها، لكنها أصيبت بالحازوقة.
يا لها من فتاة لطيفة.
كدت أضحك، لكن تماسكت — لا أريد أن تطلق عليّ نظراتها الحادة من جديد.
التعليقات لهذا الفصل " 54"