في ذلك الصوت الغارق في الخطر، شعرت بأن قلبي يُعتصر بقوة. عينا فرانز، وهو يحدّق بي بأنفاسٍ متقطعة، قد غمرهما الظلام والاضطراب.
انخفض برأسه ببطء، وما إن لامست أنيابه الحادة فروي، حتى سرت قشعريرة باردة في جسدي.
‘لا يمكن… هل ينوي وسمِي بذلك الشيء المسمى ‘البصمة’؟’
اندفع إلى داخلي شعور بالغريزة، مزيجٌ قوي من الرفض والخوف.
لكن… لماذا في هذه اللحظة بالتحديد، يتبادر إلى ذهني وجه كاردين؟!
وقبل أن تخترق أنيابه جلدي، هبّت عاصفة ثلجية عاتية.
“كييييااااه!!”
حتى فرانزلم يستطع صدّ تلك الزوبعة الثلجية العنيفة، التي جرفتنا معًا وطرحتنا أرضًا، نتدحرج بين الجليد والغبار.
وعندما استعادت روحي وعيها، وفتحت عيني بتثاقل، وجدت أمامي عشرات الثعالب البيضاء العملاقة، تنظر إليّ بعيون متأهبة، حادّة، ومتوجّسة.
“هل تعي ما كنت تنوي فعله لتوّك، أيها القائد؟”
تقدّم فرانز بسرعة، منتصبًا أمامهم، لكن ملامح الضيق وعدم الرضا كانت واضحة على وجهه. راح يزمجر بصوتٍ خافت، يتقدم ببطء أمامهم.
“غغغغ… لماذا أنتم هنا؟ ألم أُصدر الأوامر بالتحرّك أولًا؟”
خطا إلى الأمام ثعلبٌ مسن، بعينٍ واحدة. ندبةٌ طويلة قد شقت الجانب الأيسر من وجهه، تُخبرك بصمت عن زمنٍ طويل من المعارك والخبرة.
ما إن ظهر ذلك الثعلب، حتى انحنى فرانزاحترامًا. من الواضح أنه كان أعلى مرتبةً منه.
“حتى أنت جئت يا معلّمي.”
“فرانز… لماذا حاولت وسم ذلك الشيء المشؤوم؟”
نظر الثعلب الأعور إليّ بنظرة تقطر احتقارًا وكراهية. وقد عبّرت وجوه الثعالب الأخرى كذلك عن عداءٍ واضح نحوي.
تراجعت إلى الوراء، من هول تلك النظرات. لكن فرانز سرعان ما وقف أمامي، يُخفي جسدي بذيله الأبيض الكثيف.
لماذا… لماذا يُدافع عني؟
لم أستطع فهم تصرّفه. لماذا يحميني؟
“رويل نجحت في التحوّل إلى هيئة بشرية. إنها خطيبتي، وسأقوم بوسمها بنفسي. إنها مسؤوليتي، وسأتحمّلها.”
تجعدت جبهة الثعلب الأعور بامتعاض، وظهر الاضطراب على وجوه الثعالب الأخرى. بدت كلمات فرانز صادمة بالنسبة لهم.
صرخ الثعلب الأعور بحدة:
“هل نسيت أن مجلس الشيوخ طرد تلك الفتاة؟ إنها نذير شؤم سيجلب الدمار لقبيلة الولفِس! لا تدع عواطفك القديمة تعميك!”
صرخ فرانز، بعينين تشتعلان تحديًا:
“مجرد امتصاصها للمانا لن يُدمر القبيلة! رويل واحدة منّا، من قبيلة الولفِس! لماذا تتخلّون عنها يا معلمي؟!”
راح الثعلب الأعور يدور حول فرانز ببطء، وهو يضرب لسانه بشفتيه.
“تذكّر جيدًا… كلما نمت تلك الوغدة، ستطمع بالمزيد. من المانا… إلى الأرواح. لقد كدنا نُباد قبل خمسين عامًا بسبب ثعلبٍ جشع مثلها، هل نسيت؟!”
قالها بصوتٍ خافت مشبع بالغضب، ولم يكن في عينه الوحيدة سوى رماد ذكريات مؤلمة.
ما الذي… ما الذي أسمعه؟! أنهم يتّهمونني أنني سألتهم الأرواح بعد المانا؟
كنت أودّ أن أحتج، أن أُجادلهم، لكن فرانتس كان يحجبني بجسده المتوتّر.
استشعرت منه توترًا بالغًا، وأنفاسه المتسارعة كانت كأنها تهدر تحت جلده.
إنه خائف… خائف من أن يقتلوني.
كانت الأجواء من حولنا مشبعة بقتلٍ وشيك. هم لا يرونني كواحدةٍ منهم، بل كعدوٍ يجب القضاء عليه.
“فرانز. آمرك كمعلمك. تذكّر مسؤوليتك في حماية القبيلة. اطرد هذا الكائن المشؤوم. وإلا…”
اقترب الثعلب الأعور من فرانز وهمس له بتهديدٍ ينضح بالموت:
“سأتولى بنفسي إنهاء حياتها.”
في تلك اللحظة، شعرت بالغضب… والرعب.
أن أموت فقط لأني وُلدت؟! فقط لأني مختلفة؟!
أنا لم أفعل شيئًا. لم أؤذِ أحدًا.
لكن نظراتهم التي سُلّطت نحوي، كانت كالسكاكين.
ازدراء، كراهية، وخوف… خوفٌ عميق منهم جميعًا.
لماذا يخافون من قدرتي على امتصاص المانا؟ ما الخطر في ذلك؟!
ثم توالت الاحتجاجات من الثعالب الأخرى:
“أيها القائد، هل نسيت أن هذه المهمة مصيرية؟!”
“مستقبل القبيلة في خطر! يجب أن نستقر في المجتمع البشري دون أذى.”
“لا تنسَ واجبك كقائد!”
راحت الثعالب تزمجر، وتضغط على فرانز. كانت جاهزة للانقضاض عليّ في أي لحظة.
لكن فرانز لفّني بذيله مرةً أخرى، وصرخ غاضبًا:
“ماذا قلتم؟! كيف تجرؤون؟!”
بمجرد أن صرخ بتلك النبرة، ساد الصمت المكان. نظراته الفضية كانت حادة كالسيوف.
“أنا القائد القادم لقبيلة الولفِس. وبصفتي قائدًا، أعلن أمامكم: رويل هي رفيقتي، وسأصطحبها معي في هذه المهمة!”
“فرانز!!”
لقد جنّ! كيف يقرر من دوني؟! أي نوع من الرجال هذا؟!
لقد سئمت من هذا المكان. منحتهم قلبي للحظة… وها هم يطعنونني بكراهيتهم.
هم لا يرونني سوى نذير شؤم.
بينما كان فرانز يواجههم، استغللت الفرصة. التفتُّ بسرعة وبدأت بالركض نحو قلعة الشمال.
لكن فجأة، اهتزت الأرض تحت قدمي، وارتفع صوت صهيلٍ مدوٍّ.
من بعيد، ظهرت سُحُب الغبار، ومعها مجموعة من الرجال يمتطون الخيول.
هل… هل جاء كاردين؟
كدت أخرج إليهم بفرح، لكن…
الرائحة مختلفة. ليسوا هم. من هؤلاء؟
كانوا يصرخون، يهتفون، يلوّحون بالهراوات والحبال.
“وجدناهم! ثعالب الشمال الثمينة!”
صرخ قائدهم، رجلٌ كثّ الشاربين يرتدي ثيابًا فاخرة:
“أمسكوهم جميعًا! لا تُصيبوهم! كل واحد يساوي ثروة! لا تفوّتوا أيًّا منهم!”
تدفّق الرعب إلى قلوب الثعالب. كان هؤلاء… تجّار عبيد.
صرخ فرانز بكل صوته:
“إنهم تجّار العبيد! تفرّقوا فورًا!”
حتى الثعلب الأعور ارتبك، وراح ينظّم الثعالب وسط الفوضى:
“لا تُؤسَروا! اهربوا فورًا!”
اختبأتُ بسرعة داخل شجيرة كثيفة، وقلّصتُ جسدي الصغير بين الأوراق.
لحسن الحظ، لم يرني أحد.
كيف وصلوا إلى هنا؟! أليس من المفترض أن تحرس القلعة الشمالية الحدود من مثل هؤلاء؟
راح تُجّار العبيد يطاردون الثعالب بانضباطٍ مخيف، يستخدمون الحبال المزوّدة بخطّاطيف لصيدهم.
“كييييااه!!”
شبكة ضخمة ارتطمت بعدة ثعالب، وأوقعتهن. حاولن الفكاك، لكن الشبكة شدّت عليهن أكثر.
صرخ فرانز:
“لاااا!”
اندفع هو والثعلب الأعور، ومزّقا الشبكة بأسنانهما.
اندلعت المعركة. أحد الخاطفين صرخ:
“تبا لكم، أيها الثعالب!”
لوّح بعصاه نحو فرانز، لكن الأخير قفز ببراعة، متجنبًا الضربة.
من الخلف، ألقى أحدهم شبكة جديدة.
“انتبه!”
الثعلب الأعور دفع فرانز بقوة، متلقيًا الضربة نيابةً عنه.
سقط أرضًا، وفي تلك اللحظة، أطلق أحد الخاطفين قوسًا ضخمًا.
“الآن! أمسكوه!”
انطلقت سهمٌ هائل انفجر في الهواء ليتحول إلى شبكةٍ سوداء ضخمة.
“لاااا!!”
قفز فرانز، دافعًا الثعلب الأعور بجسده، لكن الشبكة انقضّت عليه.
ززززز!!
شبكةٌ مغطاة بالصدمات الكهربائية أحكمت قيودها عليه. حاول النهوض، لكن الكهرباء كانت تعصف بجسده.
“أمسكنا به!!”
هتف التاجر منتشيًا. بينما فرانتس يصارع الألم، عاجزًا عن الفرار…
لا، فرانز… لاااا!!!
التعليقات لهذا الفصل " 47"
وين راحت القوة الي چان ايتفاخر بيها