ارتعبتُ للحظة والتفتُّ خلفي، فإذا بكاردين يحدّق بي بثبات.
لم أعرف ماذا أقول، فاكتفيتُ بتشبيك يديّ على مئزري بإحكام.
تظاهرتُ بالنظر إلى مكان آخر، متجنّبة عينيه.
قلتُ بهدوء:
“هل تزور الدفيئة كثيراً؟”
“آتي أحياناً حين أحتاج لبعض الوقت وحدي. الهدوء هنا يبعث على الراحة.”
كان كاردين مستنداً إلى المقعد، ينظر من خلال الزجاج إلى حديقة الورود الممتدة في الخارج.
نظرتُ إلى جانب وجهه دون وعي، فتوقّف نفسي. أنفٌ سامق، فكّ قوي، وشعر أسود ينسدل على جبهته العالية…
كأنّ تمثالاً نحتته الحاكمة يجلس إلى جواري. بقيت أحدّق به بذهول.
يبدو أنني بالغت في التحديق، فقد استدار ناحيتي وابتسم ابتسامة آسرة.
“لماذا تنظرين إليّ هكذا، شوشو؟”
“أ-لا، ليس الأمر كذلك. الدفيئة جميلة جداً فحسب…”
أدرت وجهي سريعاً متظاهرة بالانشغال.
آه… لماذا هذا المكان حار جداً الآن؟!
هبط الصمت بيني وبين كاردين، صمت مربك وثقيل.
حين كنت ثعلبة، كنت أتعامل معه بحرية وارتياح. أما الآن كبشرية، فلا أعرف كيف أتصرف، وكأنني دمية معطّلة، لا أستطيع الحركة، ولا التفكير… فقط قلبي ينبض بجنون.
قال كاردين بنبرة حذرة:
“شوشو، هل أنت بخير بعد لقائكِ بأحد أفراد جنسك بالأمس؟”
كانت نبرته مشوبة بالقلق، وفي عينيه رأيت عطفاً حقيقياً.
هززت رأسي بصمت، عاجزة عن الرد.
“ذلك الثعلب ناداكِ باسم ‘رويل’. هل كان ذلك اسمك الحقيقي؟”
“ربما… لا أذكر تماماً.”
“إن كان ذلك هو اسمك الحقيقي، فهل تفضلين أن أناديكِ به؟”
“ماذا؟”
رغم أن كاردين يبدو بارداً غير مبالٍ، إلا أنني أعتقد أنه يحمل في داخله اهتماماً عميقاً بالآخرين.
حين بقيتُ صامتة، مدّ يده وربّت رأسي بعادةٍ مألوفة، تماماً كما كان يفعل عندما كنت ثعلبة.
كانت يده دافئة، قوية، ولمستها تبعث في داخلي الطمأنينة.
“أُحب أن أنادَى بـ شوشو. أحب هذا الاسم.”
“كما تشائين.”
رغم أنه أجاب بهدوء، إلا أنني لمحت ابتسامة باهتة ترتسم على شفتيه.
هل يشعر بالسعادة لأنني أحب الاسم الذي أطلقه عليّ؟
شيئاً فشيئاً، بدأت السكينة تتسلّل إلى قلبي، تهدّئ اضطرابي.
قررت أن أتحلّى بالشجاعة، وأن أبوح له بالحقيقة… لماذا نُبذت من قبل أبناء جنسي.
“يا سيدي الدوق… لقد عرفت لماذا تخلّوا عني.”
“ماذا تعنين؟”
“قالوا إنني نذير شؤم لجنس الأُولفِس. قالوا إنني أحمل قُدرةً تبتلع السحر، وهي قُدرة كارثية بالنسبة إليهم. فنبذوني بدافع الخوف… هذا كل ما في الأمر.”
تنفّس بعمق، محاولاً تهدئة نفسه، ثم قال بصوتٍ حاسم:
“شوبليا، اقطعي صلتكِ بجنس الأُولفِس. هم لم يتخلوا عنك، بل أنتِ من ستتخلّين عنهم. هذا القصر… هذه الأرض، هي موطنك الآن، وستكون وطنك إلى الأبد.”
“يا… سيدي الدوق…”
ولكن… هل سيكون هذا كافياً؟
ماذا لو كان ما قالوه صحيحاً؟ ماذا لو كنت أمتلك حقاً قوة دمار؟ ماذا لو تسبّبت بضرر لكاردين… أو لهؤلاء الناس الطيبين؟
الكلمات تمتلك قوة تسيطر على العقول والنفوس.
ما قاله لي فرانتز كان كالسُّم يتسرّب إلى روحي ببطء.
هل يحق لي حقاً أن أبقى هنا؟
صعد إلى السطح ذلك الخوف القديم الذي دفنته طويلاً داخلي.
“ماذا لو كنتُ فعلاً نذير شؤم؟…”
في حياتي السابقة، نُبذت أيضاً، واضطررت للكفاح لأبقى على قيد الحياة.
فهل سأحتمل أن أُنبذ مرة أخرى في هذه الحياة أيضاً؟
أمسك كاردين بيدي وجذبها إلى صدره، إلى قلبه النابض.
شعرت بخفقاته العنيفة تحت راحتي، فأحسست بأمانٍ عميق، كطفلة بين ذراعي أمّها.
“شوشو… لا تدعي وساوس الأيام تخدعك، فأنتِ لستِ نذير شؤم كما يُقال… بل أنتِ النور نفسه، النور الذي غمر عالمي حين توارت عنه كل شمس، النور الذي لم يكتفِ بالإضاءة، بل بعث الحياة في رماد قلبي.”
“سيدي الدوق…”
ارتفع شيء في داخلي، عالق في حلقي.
لا أريد أن أُنبذ مجدداً… أتوق لأن يُحبّني أحد. لكن الخوف من أن يُلقى بي مجدداً يجعلني أرتعد.
وقد قال لي ما تمنيتُ سماعه طويلاً.
هل يُدرك كم يعني لي ذلك؟ كم هو عزاءٌ عظيم لقلبٍ مثقل؟
مدّ يديه وسحبني إلى حضنه. اندفعت بلا مقاومة إلى صدره.
تنشّقت رائحته المألوفة… وفجأة، أيقنت أن هذا هو ملجئي.
غرست وجهي في صدره، كما يفعل الصغار. لا إرادياً، بدأت أفرك خديه في صدره القوي، كما كنت أفعل حين كنت ثعلبة.
آه… كم هو دافئ هذا الحضن…
عندها اضطربت أنفاس كاردين وتيبّس جسده.
كان يتنفّس بثقل، كمن يقاوم شيئاً ما.
“شوشو… كنتِ محقة. أن تكوني إنسانة… أحياناً يكون ذلك أكثر مما يمكن احتماله.”
“ما… ماذا تعني؟”
رفعت رأسي في حيرة، وأنا ما زلت بين ذراعيه.
“كلما تحوّلتِ إلى بشرية… أجد نفسي عاجزاً عن كبح مشاعري. أشعر أن صبري يوشك أن ينفد.”
في عينيه الزرقاوين، رأيت نيراناً تتراقص.
ضيق ذراعيه قبضتي، وشفتاه الحمراء الدافئة أطلقتا حرارةً ألهبت وجهي.
هل قلت أو فعلت شيئاً خاطئاً؟!
أردت التراجع، الهرب من صدره، لكنني لم أستطع.
وفجأة، جاء صوت من خارج الدفيئة:
“أعذرني يا سيدي الدوق، هل أنت هنا؟”
فتح مساعده “مايلد” باب الدفيئة وأطلّ برأسه.
ولما رأى كاردين يجلس إلى جانبي، اتسعت عيناه، وأدار وجهه خجلاً.
“آآه! أعتذر بشدة! لم أكن أعلم أنك مع الآنسة شوشو.”
“لا بأس، لا بأس يا مايلد.”
ابتعدت بسرعة عن حضن كاردين، ووقفت مستقيمة.
يا إلهي… أشعر وكأننا ضُبطنا متلبسين بجريمة!
أما كاردين، فبقي على حاله، جالساً بهدوء، وإن كان قد نظر إلى مايلد بنظرة حادة.
“ألم أقل لك ألا يدخل أحد إلى الدفيئة وأنا فيها، يا مايلد؟”
انحنى مايلد معتذراً.
“أعتذر بشدة يا سيدي، ولكن لدينا حالة طارئة. يجب أن تذهب إلى ساحة التدريب فوراً. لقد ظهر ثعلب من جنس الأُولفِس… ذاك الذي رصدناه قرب الحدود.”
تلاقت أعيننا، أنا وكاردين.
نهض كاردين فوراً، وقال لي:
“شوشو، ابقي هنا. سأذهب وحدي لأقابله.”
“إنه من جنسي. سأذهب أيضاً.”
“قد يؤذيك.”
هززت رأسي بإصرار:
“لقد أتى وحده إلى هنا، إلى هذا المكان المليء بالبشر. لا بدّ أن لديه سبباً. ربما يريد الحديث معي.”
“… كما تشائين.”
نظر مايلد إليّ بدهشة عندما رأى أنني أرتدي زيّ الخادمات.
“آنسة شوشو… لماذا ترتدين زيّ الخادمات؟! هل كنتِ تلك الخادمة الجديدة التي رأيتها في الردهة؟”
“أوه، هذا حدث عن طريق المصادفة. على أية حال، لنذهب بسرعة. لا وقت للحديث الآن.”
انطلق مايلد أولاً، وتبعته.
لكن فجأة، شعرت بالدوار، ووهنت ساقاي.
“هاه؟ ما الذي…؟”
“شوشو!”
ترنّحت قبل أن أخطو ثلاث خطوات، فأسرع كاردين وأمسكني.
في تلك اللحظة، انبعث ضباب خفيف، وجسدي بدأ يتقلّص بسرعة.
سقط زي الخادمة على أرضية الدفيئة، وأخرجت رأسي من بين طيّاته.
“كياااه! تحوّلتُ إلى ثعلبة مجدداً!”
لم أتمكّن من الحفاظ على شكلي البشري إلا لعدّة ساعات! غضبت بشدة، وضربت الأرض بكفوفٍ غاضبة.
كاردين لم يتمالك نفسه، ورفع يده إلى فمه ليكتم ضحكته.
“لا تضحك! أنا غاضبة جداً الآن!”
نفشت فرائي غيظاً… لكنني كنت أعلم، المشكلة بي أنا.
أمسكني كاردين بلطف، ورفعني إلى حضنه.
“حتى في غضبك… أنتِ لطيفة. لا تتعجّلي. سيتحسّن الأمر مع التمرين.”
بدأ يُدلّك عنقي بلطف، محاولاً تهدئتي. ورغم غيظي، وجدت نفسي أتدلّى في حضنه.
“سيدي، دعنا نذهب الآن.”
ضمّني إليه، وغادر الدفيئة بخطى سريعة.
في طريقنا إلى ساحة التدريب، غمرني التفكير.
يا إلهي… الأمر معقّد.
حين أكون بشرية، صدري يضطرب كلما اقترب مني. أما كثعلبة، فأشعر براحة غريبة، بلا أي خجل!
خرج كاردين من القصر ممتطياً جواده، وانطلق بي نحو ساحة التدريب. لم يستغرق الأمر سوى دقائق.
في الساحة الواسعة، كان عشرات الجنود يطوّقون ثعلباً فضّي الفراء… كان فرانز، واقفاً شامخاً.
تقدّم كاردين وهو يحملني، ووقف أمام فرانز، ينظر إليه بعينين مليئتين بالحذر والحدّة.
“ما الذي جاء بك إلى هنا، أيها الوغد؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 33"