استمتعوا
في الجهة الأخرى.
كان ديل يتسكّع كعادته قرب البرج، فإذا به يعثر على سيخٍ من البصل المشويّ حتى الاحمرار، وإلى جانبه جوابٌ غامض.
[إن كنت رهينةً، فهل أنت ايها العمّ، رهينة مسكينة؟!]
“…آه، ما إن قرأت هذه الورقة حتى هاج بي الشوق إلى ابنتي. لو لم يكن ذاك التنّين اللعين…”
جلس القائد يأكل البصل المشوي وهو يخطّ ردّه.
[لستُ رهينة، بل فارسٌ جاء ليهزم التنّين ويُنقذ الأميرة. فما هويتك أنتِ؟]
ارتسمت ابتسامة على شفتي ديل وهو يخطّ الكلمات.
غير أنّه في اليوم التالي، وجد ردّاً جديداً.
[لستَ رهينة بل شرير؟! أنت تنوي خطف أميرتنا، صحيح؟! لا حاجة لك!]
وكانت السلّة، التي فاح منها بالأمس عبق الطعام، فارغةً تماماً.
وفوق الحروف الحافلة بالريبة، رُسم فارسٌ بعينين ضيّقتين يصوّب سيفه.
هكذا تحوّل ديل بين ليلةٍ وضحاها من أسيرٍ بريء إلى شريرٍ ماكر.
حكّ مؤخرة عنقه في حرج.
“طفلة تعيش في البرج… هل غسلت الأميرة دماغها؟”
في قرية شادوم كان هناك كثيرٌ من الصغار الذين فقدوا أبائهم.
فقد ظنّ أنّ هذه الطفلة أحد أولئك المشرّدين، التقطتها الأميرة وضمّتها إليها.
‘لكن يبدو أنّ أفكار الأميرة قد تسرّبت إليه حتى أعماقه.’
في تلك اللحظة…
“القائد! لقد أزلنا الأشجار كلّها، وأصبح المدخل جاهزاً. هل نستقبل الأميرة؟”
ارتفعت أصوات الفرسان الذين كانوا يلفظون أنفاسهم في الأيام الماضية وقد دبّت فيهم الحياة.
وكان هذا خبراً سارّاً له أيضاً.
“طبعاً، يجب أن نستقبلها.”
لكنّه صمت.
“القائد؟”
“….”
“ايها القائد، هل أنت بخير؟”
ظلّ ديل شاخص البصر إلى أعلى البرج لا يصدر منه أمر.
شعر بغصّة.
‘هذه الصغيرة، تظنّني إنساناً شريراً على ما يبدو.’
كيف يرحل بعد أن زرع في قلبها ذكرى سيئة، بينما كان الأولى أن يترك لها كلمة امتنان؟
أحسّ أنّه يمزّق براءة طفلة نقية، فساءه ذلك.
“انتظروا قليلاً. أودّ أن أودّع الطفلة فحسب.”
“طفلة؟ آه… مفهوم، سيدي.”
الفرسان بدوا متسائلين، لكنهم آثروا الانضباط وانصرفوا.
ظلّ ديل واقفاً كتمثالٍ من حجر.
‘لكن… كيف أناديها؟ لو ناديت فلن تخرج.’
***
في تلك الأثناء، في غرفة لولو…
– أيّتها الصغيرة، هل أنت بخير؟
“لا ايها الحجر. لستُ بخير. إنّني في غاية السوء.”
أطلّت وجنتا لولو المنتفختان من تحت اللحاف بملامح متجهّمة.
“الشخص الذي أعطيته الطعام… كان شريراً يريد أخذ أختي. لقد أطعمْتُ الشرير بيدي.”
– ليست كلّ يدٍ ممدودة بالخير تُقابَل بالخير. تلك هي سُنّة الحياة.
كان كلام الحجر مُرّاً، لكنّه لا يخلو من صواب.
‘آه، ما أصعب هذه الدنيا، حتى على تنّينة صغيرة مثلي…!’
وتوقّف العداد الذي كان يرتفع شيئاً فشيئاً عند سبعةٍ ونصف.
إذ لم تعد تقدّم الطعام.
“آه…”
إلى متى يجب أن تواصل لولو المبادرة؟
الفارس، ورايان، جميعهم أصبحوا أصدقاء بجهدها وحدها.
ما عدا أختها، لم يتقدّم إليها أحد من تلقاء نفسه.
حتى تشيس لم يظهر بعدها قطّ!
ظلّ يردّد أنّ الطعام سيّئ، ثم بدا وكأنّه تخلّى عن تحقيق حلمه.
“لا بدّ أن أبذل جهدي كي يحبّني الناس… لكنّ لولو تشعر بالمرارة حقّاً.”
غطّت رأسها باللحاف حتّى قمة جمجمتها، تخنق عبراتها بصمت.
لكن فجأةً دوّى صوت أختها من خلف الباب.
“إلى الطابق الأول جميعاً! لقد أزال الفرسان الأشجار عند المدخل. حان وقت الرحيل!”
لقد حان الموعد.
“إذن… هذه المرّة لن أترك أختي وحدها أبداً!”
مسحت دموعها، وهبطت عن السرير، تمشي متثاقلة بخطواتها الصغيرة.
لكن، حين مدت يدها إلى مقبض الباب لتأخذ من القبو كتاب الحكايات…
“…النار الدافئة تذيب البرد… وتشفي الزكام… وتذيب اللحم المجمّد…”
رنّ لحنٌ مألوف من عند النافذة.
إنّه اللحن الذي ألّفه أصدقاؤها من بحيرة الظلال السوداء خصيصاً لها.
“السلمندر الصغيرة تذيب البرد… وتشفي الزكام… إنها صديقٌ طيّب…”
صوتٌ أجشّ كأنّه نُحت بالصخور، لكنّه مع ذلك جعل أردافها تتحرّك طرباً.
فتحت فمها مبتسمة.
‘من يغنّي هذا؟! لا يعرفها إلا اصدقائي…!’
هل تفتح الباب؟ أم تتفحّص النافذة؟
غلبها الفضول، فاستدارت نحو النافذة.
***
في الخارج.
“القائد! ماذا تفعل؟!”
“انتظروا قليلاً!”
كان ديل يمسح العرق عن جبينه.
راح يدندن بما سمعه في قرية شادوم، لكن لا ظلّ لطفلٍ ولا خيط شعر أبيض يطلّ من النافذة.
“تبّاً! لم أسمع باقي الكلمات!”
لكنّه فكّر. ربما يكفي هذا.
إنّ الأطفال، وهو أبٌ ربّى ولداً وبنتاً، يسمعون أكثر ممّا يظنّ الكبار.
“…هاه، يا لي من عجوز أحمق.”
تنحنح، وهو يفكّر أنّ السبيل الوحيد لجذب انتباهها هو الصدق.
‘إنها تشبه ابنتي… وإن رحلت دون أن أكشف قلبي فسأندم.’
فقرّر أن يرتجل تتمّة الأغنية.
“الفارسُ الذي جاء بالأميرة، ليقبض على التنّين، في الحقيقة لم يرد ذلك…”
تراجع الفرسان من الذهول.
“أتسمي هذا غناءً؟!”
“وهل يبدو أنّني ألقي خطاباً ؟!”
وتابع صادحاً.
“بل ولم ينوِ أن يؤذي التنّين… إنّما ارتجف خوفاً منه…!”
عندها تحرّك شيء عند الطابق الرابع.
فعل ديل نفسه لا يدري، وأسند ظهره إلى الجدار، وواصل الغناء.
“لكنّه لم يجد بداً من الرحيل… لأنّ زوجته وابنته محتجزتان في مكانٍ أدهى من البرج…”
“آه!”
إذ بوجهٍ مستدير يطلّ من النافذة.
“إن لم تأخذ أختي ولولو، فستقع عائلة الفارس في خطر؟!”
لقد كانت الطفلة تُنصت طيلة الوقت.
اتّسعت عيناه حتى كادتا تبرزان.
‘هل أمدّ لها يدي؟’
ابتسم ديل بمرارة، ومدّ كفّه مازحاً.
لكن قبل أن يتمكّن من قول شيء… ظهرت فوقه أنجيلا، صارخة.
“أيّها الأحمق! كيف تنصاع لتهديد الملك؟! أهذا ما تفعله فارسٌ بأميرة؟!”
ثم ارتسم وجه الدوق فيليكس خلفها، قاتم الظلال.
“أن يفرض الأوامر بالرهائن… أحقّاً هكذا صارت مملكة ليديا؟!”
ولم يكد يُفيق حتى قفز رايان إلى جوارهم، يصيح بحماسةٍ مراهقة.
“لتُعلَن الأميرة ملكةً علينا!”
“….”
امتلأت النافذة الصغيرة بالوجوه النبيلة.
شهق ديل.
“…كم عدد النبلاء الذين يقطنون هذا البرج؟! هل هناك المزيد مختبئين؟”
عندها رفعت لولو يدها خجلاً.
“في الحقيقة… لولو تنّين!”
طَقطَق.
كان ذلك صوت فكّ ديل وهو يسقط من شدّة الذهول.
وتلاه سقوط سيوف الفرسان إذ فقدوا عزيمتهم.
***
دخل الكبار في اجتماعٍ عاجل بعدما فُضح السرّ
(وكان اعتراف لولو أقرب إلى انتحارٍ طائش).
أمّا لولو ورايان، فقد أُبعدا بحجّة أنّهما طفلان.
فجلسا يعدّان النمل الذي يمرّ من أمامهما.
“نملة واحدة… نملتان… ثلاث…”
“لولو، هل نلعب من يحصي أسرع؟”
“حسناً! هيا من جديد… واحدة، اثنتان، ثلاث…”
وفجأةً، التقطت أذنا لولو الصغيرتان كلمةً وسط حديث الكبار.
“…هل لولو حقّاً تنّين؟”
‘إنّهم يتحدّثون عنّي!’
قفزت واقفةً بحماسة.
“إلى أين تذهبين؟” سأل رايان.
“سأستمع. يتحدّثون عن لولو. سأعود حالاً!”
وانطلقت تركض بخفّة، وأطلت من بين سيقان الفرسان.
“آه… لولو؟”
حدّقوا فيها بدهشة.
“نعم! ولولو حقّاً تنّين!”
“…حقّاً؟”
“نعم-!”
“ما عدا شعرها الأبيض، تبدو كطفلةٍ عادية…”
“…همم؟”
أمالت رأسها، متعجّبة.
‘لقد أجبتهم بنفسي، فلماذا لا يصدّقون؟’
يبدو أنّهم لا يعرفون أنّ التنّين يستطيع أن يتجسّد في هيئة إنسان.
إذن… صار لزاماً عليها أن تشرح لهم الحقيقة!
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات