0
المقدّمة
كانت ليلةً ماطرة.
دخل الإمبراطور زنزانةً مشبعةً بالرطوبة.
ميديا، التي ظلّت تحدّق في السماء السوداء من نافذةٍ لا تتجاوز شبرًا، استدارت ببطء.
كان الجسد النحيل، البارز من تحت الثوب البالي، أشبه بغصن يابس. وجهٌ شاحب، عينان غائرتان، وهيئة تشبه جثّةً ما زالت تتنفس بالكاد.
قطّب الإمبراطور حاجبيه.
ومع ذلك… تلك هي المرأة التي قاسمته نصف عمره. لم يصدّق أن من صمدت معه حتى في أقسى الحملات العسكرية انتهى بها الحال إلى هذا البؤس.
“ياسون.”
تردّد صوتٌ فارغ في الهواء. فغضب الفارس الواقف خلف الإمبراطور.
“كيف تجرؤ آثمة على تلويث اسم جلالته!”
“دعها. لعلّ فيّي من الكرم ما يكفي لأن أُنصت إليها قبل موتها.”
بدت ميديا شاردة، كأنها لا تسمع حديثهما.
“لقد فعلتُ كل شيء لأجلك.”
رفعت نظرها إلى الإمبراطور.
“يا أميرة فالدينا… ناديني ياسون، كما في السابق.”
كان ذلك التحية المألوفة، وما زالت جميلةً في عينيها.
هو الرجل الذي أحبّته عمرًا كاملًا.
ظنّت أنها إن ضحّت بكل شيء ستملكه… وهكذا فعلت.
سرقت كنوز البلاد وقدّمتها له.
ضحّت بشبابها من أجله.
ضحّت بجنود وطنها لتُجلسه على العرش.
لكن النهاية كانت خيانةً تمزّق القلب.
قُتل شقيقها، ودُمّرت بلادها.
وزوجها… تزوّج أخرى.
“لقد تخلّى جلالتك عنّي واتخذ القدّيسة إمبراطورة.”
كانت تحمل بطنها المنتفخ بطفلها الثاني حين سمعت خبر زواج زوجها.
“سمعتُ أن الوحي هو السبب… ألم تُعلِن ابنك ليان وليًّا للعهد بناءً عليه؟”
ولقد مات ليان.
مرّت ستّة أشهر منذ أُدخل الطفل وحده إلى القصر لينال اعترافًا بشرعيته.
“عندها أدركتُ… التالي سيكون أنا، وليا.”
يُقال إن الكلاب تُسلخ بعد انتهاء الصيد.
لقد فهمت الحقيقة متأخرة.
“ألم يظهر وحيٌ آخر؟ النبوءة التي تقول إن زوجتك وابنتك ستجلبان الخراب لهذه الأمة!”
قال الإمبراطور وهو يوبّخها من جديد.
“ميديا. بدلاً من إحراقكِ كما أوصى الوحي، منحتك ميتة هادئة احترامًا لماضيك. ومع ذلك، لا يزال قلبك مليئًا بالضغينة.”
لم يعد يُدهشها وقاحته.
الرجل الذي ساقها إلى الموت يريد منها الامتنان.
“سواء كان وحيًا… أو أي ذريعة أخرى، لا يهم.”
بصقت ميديا كلماتها كالسمّ.
“لطالما كنتَ متأخرًا خطوة. عندما سرقتُ كنز الحكيم، وقتلتُ التنين، وأسقطتُ الإمبراطور، وحتى حين مات طفلنا… لم يكن ذنبك يومًا.”
لم يعد ذلك الرجل الهادئ بابتسامته الخفيفة.
لم يبقَ سوى طامعٍ حقير، أعمته الرغبة في المجد فخانها ودهسها في الوحل.
“أنهِ أمرها سريعًا. لا أريد رؤية هذا العار أكثر.”
رفع ذقنه. ففتح الفارس غطاء القارورة السوداء المعلّقة على حزامه.
«ليا ستعيش… هذا يكفيني.»
قبل ثلاثة أيام، توسّلت ميديا إلى ابنة عمها القريبة منها أن تهرّب طفلتها الصغيرة بعيدًا عن أعين الإمبراطور.
باعت كل ما تملك، واستبدلته بالجواهر لضمان حياة ابنتها.
لن تواجه ليا مشكلة… على الأقل حتى تبلغ.
أما هي، فقد سقطت هنا بعدما أنهكتها الرحلة، ونفدت قواها.
ولم تندم.
“… أشعر بالأسف فقط تجاه الأطفال. لكنهم لن يكونوا وحيدين… فهم يملكونك. هذا يريح قلبي.”
الأطفال؟
تجمّد وجه ميديا كقطعة جليد.
كان حدس الأم أسرع من التفكير.
“ليا…! لا، ليا!”
في تلك اللحظة، ظهرت خصلات وردية خلف الفرسان.
تصلّبت ميديا مكانها.
“أنا آسفة، ميديا.”
“بيرنا…؟ لماذا أنتِ هنا؟”
لماذا ابنة عمها، التي كان عليها عبور الحدود الآن… تقف أمامها؟
بدأ جسد ميديا يرتجف.
“لم أستطع خيانة جلالته. أنا آسفة يا ميديا… لكن ما تفعلينه خطأ، خطأ كبير.”
أسندت بيرنا رأسها بلطف على كتف الإمبراطور، وتمرّدت يدها البيضاء على ذراعه بملامسة خفيفة.
ثم مدت كيسًا صغيرًا نحو ميديا التي سقطت جاثية.
كان هو الكيس ذاته المعلّق على ذراع ليا عندما افترقت عنها.
كان النقش الزهري مغمورًا بالدم… محمرًا كالجمر.
“آآآااه!”
صرخت ميديا، وأصابعها ترتجف عاجزة حتى عن حمل الكيس الملطّخ بالدم.
ليا… طفلتي الصغيرة!
كم ارتعبت؟
كم بكت على أمها؟
“الأطفال سيفهمون أيضًا.”
قال الإمبراطور بقسوة… لا يشبه أبًا فقد طفله.
“ياسون، يا ابن الحقيـ…!”
اتّقدت عيناها بحقدٍ أسود.
“حتى الوحوش! أقسمت أنك لن تمسّ أطفالي!”
حجبت الدروع اللامعة رؤيتها.
“كيف تجرئين على رفع صوتك على جلالته! أخرسوا فم الآثمة! جلالتك… تفضّل بالرحيل.”
ابتسم الإمبراطور بفتور مودّعًا زوجته التي قاسمته الشدائد.
“وداعًا، ميديا. سأظل أذكر جميلك.”
ثم التفت إلى بيرنا بلطف مصطنع:
“إنهاء الليل يبرد الجوّ يا ليدي كلاديو… لا تطيلي الوقوف.”
“إن اهتمام جلالتك اللطيف يُسعد هذه العبدة.”
وما إن اختفى، حتى اختفت ابتسامة بيرنا الرقيقة، وحلّ مكانها سخرية باردة.
“وما ثمن إخلاصكِ، يا ميديا؟”
“…ماذا؟”
“هاهها! تدّعين الشموخ لأنكِ أميرة… فانظري إلى حالك.
فالدينا دُمّرت، وأخوكِ قُطِّع على يد الشياطين.
بسبب فتاة غبية مثلك!”
لم تفهم ميديا.
بيرنا… ابنة عمها.
أسرتها.
كيف تقول هذا؟
كيف تخونها؟
كيف… تسلّم طفلتها؟
“لا، لا يجب أن ألومك. فلولاكِ… لما وصلنا إلى هنا.”
“وصلتم…؟”
رفعت ميديا رأسها ببطء.
وفي اللحظة التي اتّضحت فيها الحقيقة، خيّم السواد على عينيها.
“… أنتم من دفعني لسرقة عين الحكيم لأجل ياسون… هل بدأ كل شيء منذ ذلك الحين؟”
“خطأ. قبل ذلك بكثير… بكثير، يا ديا المسكينة.”
قهقهت بيرنا، منتشية.
“حياتك كلّها… كلّها كانت في يد عائلتنا.”
“…”
“بفضلكِ… سيصبح والدي ملكًا على فالدينا، وأنا إمبراطورة على هذه الإمبراطورية.”
كم تمنّت ميديا أن تصرخ بوجهها،
لكنها كانت منذ البداية… دمية.
مرت حياتها أمام عينيها كالبرق.
تمرد، سقوط، موت—
وكانت عائلة عمّها في كل زاوية من مأساتها.
“وياسون يعرف. لطالما كان معنا.”
“…”
“كنتِ مجرّد حجر شطرنج. هل فهمتِ الآن؟”
غاصت العينان الخضراوان في ظلامٍ عميق.
وانساب أنينٌ موجوع بين شفتي ميديا المتشققتين.
“ياسون…”
لم تذكره لتلعنه،
بل لتتذكّر.
لتتذكّر كل كذبة نطق بها، وكل تضحية قدّمتها.
انسالت دمعةٌ داكنة، كأنها قطرة دم.
ارتعد الفرسان من الجوّ المخيف.
أما بيرنا فازداد وجهها بهجةً وهي ترى ألمها.
“لا تحزني. قريبًا… ستلتقين عائلتك التي تشتاقين إليها. أليست هذه نعمة؟”
“بيرنا… أنتِ أيضًا.”
ارتسمت على شفتيها اليابستين ابتسامة رقيقة.
ورفعت عينيها الحمراوين نحو بيرنا مباشرة.
“لن أنسى. أنتِ… وعائلتك.
كل شيء يخصّ آل كلاديو… لن أنساه أبدًا.”
اهتزّت كتفا بيرنا وتراجعت خطوة.
“م… ماذا…؟”
لكنها سرعان ما رمشت بملل.
إذ ظهر لها شيء أفظع لتخشاه من دميةٍ ميتة.
“ماذا تنتظرون؟ اسكبوه في فمها.”
زمجرَت في وجه الفارس.
أمسك الفارس بذقنها بقسوة.
“أمسكوها! لا تدعوها تتحرك!”
شدّ الفرسان أطرافها المرتجفة.
وسكب الرجل كل ما في القارورة من سمّ.
تناثرت القطرات السوداء مختلطةً بالدم الأحمر، متساقطةً على بشرتها الشاحبة.
وميديا، وهي تغمض عينيها أخيرًا، ردّدت في أعماقها:
ستدفع ثمن حماقتها لعدم تمييزها الوحوش الذهبية من البشر.
وستُحاسب على خطاياها.
لكن خطيئتهم هم—
لن تفنى مع الزمن.
وستعود—مهما احترقت أرواحٌ وتناسخت،
ولو وُلدت مخلوقًا صغيرًا،
ولو انتظرت دهورًا.
فلا الذين يسيرون خلف القدَر،
ولا الذين يحميهم الإله،
سيستطيعون الفرار منها.
حتى يضيء دمهم الطريق الذي ستسلكه… لن تتوقف.
Chapters
Comments
- 0 - المقدّمة منذ 6 ساعات
التعليقات لهذا الفصل " 0"