عضَضتُ على أسناني غيظًا، وأنا أحدّق في ديريك بيرسون الجالس على طاولة التحكيم بجانب المعلّمين.
“كلوي، آسف! أحد الأعضاء تغيّب اليوم، لذا أحتاج مساعدتك.”
وهكذا انتهى بي المطاف إلى أن أُسحب إلى الكواليس، لأتولّى مهمة ترتيب المتسابقين استعدادًا لتصفيات فروليك.
“تبا… لماذا هذا النيرد يثير ضجة هنا أيضًا؟!”
ذلك الأحمق لا يكفّ عن استفزازي متى رآني. تجاهلت تعليق كايل جينسن اللاذع تمامًا، وأشرت للمتسابق التالي:
“يمكنك الصعود إلى المسرح الآن.”
وفي تلك اللحظة، علا صوت كايل جينسن ساخرًا:
“أيتها النيرد! أليس مكانكِ الطبيعي في سيرك للوحوش بدلًا من فروليك؟”
ثم انفجر ضاحكًا وهو يتمايل ممسكًا ببطنه.
“أليس كذلك؟”
ولم يكتفِ، بل أخذ يوكز الفتيان من خلفه طالبًا تأييدهم. هززتُ رأسي، وكتمت الكلمات التي اندفعت إلى طرف لساني: أنت بحاجة أولًا إلى تعلم أبجديات الأدب!
تماسكي. أنا هنا مجرد نيرد لا يلحظها أحد. إن لزمتُ الصمت، فلن يجد أحد سببًا ليستفزّني.
وبالفعل، ما إن تجاهلته حتى فتر اهتمامه بي سريعًا، وانشغل بتجهيز صوته استعدادًا للعرض.
“المتسابق التالي، تفضل.”
عند ندائي، أطلق كايل صوتًا ساخرًا وصعد إلى المسرح، لكن قبل أن يُنهي المقطع الأول حتى، كان قد أُقصي.
تستحق هذا أيها المتعجرف.
ضحكت في سري، ثم التفتُّ لأستدعي المتسابق التالي.
…ها؟ جاك!
كان يضبط أوتار جيتاره الكهربائي، يمرر الريشة بخفة فوقها، فبدا وكأنه تجسيدٌ للأناقة والبرودة. الحِدّة التي أضفاها على وسامته أصابتني بقشعريرة.
“جاك، حان دورك.”
ناديت اسمه بخفوت، فالتفت إليّ بنظرة خاطفة.
“لنذهب.”
لكن كلمته لم تكن موجهة إليّ، بل إلى رفاقه الذين تبعوه إلى المسرح. وما هي إلا لحظات حتى امتلأ المكان بألحان صاخبة جبّارة.
واو!
أخرجتُ رأسي بحذر من خلف الكواليس لأتفرج. كان العرض مدهشًا لدرجة أن قدمي بدأت تخبط الأرض من تلقاء نفسها على الإيقاع. هم مجرد طلاب ثانوية، لكن مستواهم كان احترافيًا بحق. ابتسمتُ بفخر، وأنا أحدّق في ظهر جاك.
“لقد اجتزتم الاختبار.”
مع إعلان المعلّم هانكر، هلّلت في داخلي وتهيأت للمتسابق التالي. كثيرون قدّموا عروضهم في ذلك اليوم، لكن لم يقترب أحد من مستوى فرقة جاك.
«ألم ترينا من قبل؟»
ظل صوت جاك المستنكر وصورته عالقين في ذهني. لا بد أن هذا ما قصده حين قال إن كل ما يهمّني هو الدراسة. كان ينبغي أن أنكر وقتها… لكن الأوان قد فات. شعرت وكأنني جرحت كبرياءه.
سأذهب إلى مهرجان فروليك هذه المرة. لا بد أن أذهب وأهتف من أجله.
أطبقت قبضتيّ بعزم وأنا أُقسم في داخلي—لكن فجأة، قبض أحدهم على كتفي.
“آه!”
“أوه، المعذرة—إنه أنا.”
كان رئيس مجلس الطلبة يرفع كفّيه في الهواء بدهشة وهو يرمقني بعينين متسعتين.
“آسف، لم أظن أنكِ ستفزعين هكذا.”
“لا… لا بأس…”
أجبتُ ببرود وأنا أرتب المقاعد، فإذا برئيس مجلس الطلبة يقترب ويرفع الكرسي الذي وضعتُه للتو.
“شكرًا على المساعدة، كلوي.”
“على الرحب… والسعة.”
لمجرد الوقوف بقرب رئيس مجلس الطلبة، بدأت حبات العرق تتجمع على جبيني، فسارعتُ إلى الابتعاد عنه وانشغلتُ بأي عمل آخر.
“كلوي، هل توافقين على مساعدتي في أمر صغير؟”
“…أهو واحد من تلك الطلبات التي لا يمكنك البوح بها مجددًا؟”
ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة.
“ليس أمرًا غير قانوني. لو كان كذلك، يمكنكِ التوجه مباشرةً إلى المعلّم والإبلاغ عني.”
ضحكتُ بسخرية من كلماته. أيعقل أن يطلب مني بنبرة عادية أن أشي به؟ ما به هذا الشخص؟ أليس لديه غيري ليساعده؟ كرئيس مجلس الطلبة لا بد أنه يحظى بشعبية كبيرة…
“لا أريد.”
“ولماذا؟”
كنتُ أظن أن مجرد قولي “لا أريد” سيكون كافيًا، لكنه أصرّ على معرفة السبب.
“ولِمَ لا ترغبين؟”
صوته الهادئ حمل ضغطًا جعلني أكثر انزعاجًا، خصوصًا وأنني كنت محاصَرة إلى جانب الجدار، فازداد شعوري بالاختناق.
“فقط… لا أريد.”
انكمشت كتفاي غريزيًا وأنا أبحث بعيني عن مخرج.
“ظننت أننا أصبحنا مقرّبين. يبدو أنني كنت مخطئًا.”
ها هو مجددًا. لو كنتُ كلوي القديمة، لشعرتُ بالذنب من كلماته ولغيّرت جوابي فورًا بالموافقة. لكنني لم أعد تلك الفتاة. لم أستطع أن أقبل طلبًا غامضًا بدوافع غير واضحة. فذلك يتعلق بسلامتي أنا.
“صحيح. نحن لسنا قريبين إلى هذا الحد.”
نظرتُ إليه مباشرة وقلت:
“أيًّا كان طلبك، ابحث عن شخص آخر. وربما في المرة القادمة، جرّب أن تُخبر الآخرين بما تريده أولًا قبل أن تطلب مساعدتهم.”
بدا أنه لم يتوقع ردًا بهذا الحزم. وبينما وقف متجمدًا وقد اعترته الدهشة، تسللتُ من جانبه وغادرت القاعة قبل أن يستعيد وعيه.
آه، إنه مرهق حقًا.
تمتمتُ في داخلي بضجر، وأنا أمشي في الممر حين التقطت أذناي محادثة.
“هيه، يا جاك. ألا تظن أن أغنيتك الجديدة ستلقى صدى هذه المرة؟”
“لا أعلم. سنرى.”
“إنه دائمًا متشائم.”
كان جاك مع أصدقائه.
“بالمناسبة يا جاك، كيف تعرف تلك النيرد؟” سأل أحدهم، وعيدان الطبول بارزة من جيب بنطاله الخلفي.
فور سماعي ذلك، انعطفتُ بسرعة خلف عمودٍ قريب.
“نحضر معًا أحد الدروس.”
“يا إلهي، مع تلك النيرد؟ لا بد أن الأمر مريع.”
“ليس كثيرًا. عند المشاريع الجماعية يكون الأمر جيدًا، فهي تعرف كل الإجابات.”
تنفستُ براحة بسماع رده اللامبالي. على الأقل لم يكن يسيء الظن بي. لكن سرعان ما انفجرت الضحكات حوله.
“هذا يزيد الأمر سوءًا يا جاك.”
“بالضبط. إذن أنت فقط تقترب منها لتحصل على درجات جيدة.”
لم ينفِ جاك ذلك.
آه… إذن، جاك لم يكن يسيء الظن بي، بل لم يكن يفكّر بي مطلقًا.
غمرني شعور بالكآبة أثقل صدري.
قال أحدهم:
“هيه، لنذهب إلى منزلي ونطلب بيتزا.”
“حسنًا.”
“جاك، أسرع.”
بقيتُ مختبئة خلف العمود حتى ابتعدوا، ثم تسللتُ بهدوء إلى الممر. لكن الغصّة في صدري أخذتْ تتضخّم شيئًا فشيئًا مع كل خطوة، حتى كادت تبتلعني تمامًا.
وحين خرجتُ من الكافتيريا متجهةً إلى البهو، صادفتُ آيزنهاور وهو يدخل من البوابة الرئيسية. بدا وكأنه أنهى لتوّه تمرين كرة القدم، إذ كانت بقايا العشب الأخضر ملطّخة على أجزاء من زيه الرياضي.
قال وهو يقطب حاجبيه:
“أأنتِ… تبكين؟”
ولم يكد يُنهي حديثه حتى أمسك بي أحدهم من الخلف.
“كلوي، الوقت متأخر. سأوصلكِ بنفسي.”
كان ديريك بيرسون.
والحقيقة أنّ آخر من رغبتُ أن يراني وأنا أبكي هو رئيس مجلس الطلبة، لذا أسرعتُ بخفض رأسي وقلت:
“لا بأس… أمي قالت إنها ستأتي لأخذي.”
“تكذبين. والدتكِ مشغولة دائمًا ولا تستطيع الحضور غالبًا.”
“…….”
للحظة شعرتُ وكأن رئيس مجلس الطلبة يعرفني أكثر مما أعرف نفسي.
تابع وهو يُلحّ:
“هيا، فقط اركبي سيارتي وسأـ…”
لكن صوتًا حادًا قاطعه:
“هي ستذهب معي.”
وفجأة، شدّني أحدهم إلى الأمام. كان آيزنهاور قد جذبني إلى صدره، لينسابَ عطر العشب إلى أنفي.
قال الرئيس بغضب لم أعهده في صوته من قبل:
“آرون، ولماذا ستصطحب كلوي معك؟”
كانت نبرته حادّة وغاضبة. ولأنني لم أرد أن يلمح أحد دموعي، بقيت جامدة في أحضان آرون.
“إنها تعطيني دروسًا خصوصية.”
كان اعتراف آرون المفاجئ بشأن الدروس الخصوصية صادمًا. كنتُ أظنه يكره أن يعرف الآخرون أنه يتلقى دروسًا مني.
“أنا غبي جدًا لدرجة أنني أحتاج مساعدتها.”
فسأله الرئيس موجّهًا إليّ الحديث:
“هل هذا صحيح يا كلوي؟”
أومأتُ برأسي بخفوت:
“نعم… السيد ألبرت هو من طلب مني ذلك.”
“سمعتَ بنفسك.”
جاء صوت آرون باردًا، كأنه يُسائل رئيس المجلس: “لماذا ما زلت واقفًا هنا إذن؟”
فتنهد الرئيس قائلًا:
“… آه. هكذا إذن.”
وشعرتُ براحة تتسلل إلى صدري حين بدا صوته أكثر هدوءًا.
“إذن أراكِ غدًا يا كلوي. عودي بحذر.”
حتى بعد أن سمعتُ وقع خطواته وهو يبتعد، أبقيتُ رأسي مطأطئًا أكثر. لكنني لم أستطع البقاء في حضن آيزنهاور أكثر، ف
تراجعتُ خطوتين إلى الوراء.
“شكرًا… لمساعدتك.”
خشيتُ أن أبقى معه أكثر فأتعرض لمتاعب، فاستدرتُ على عجل لأرحل. لكن صوته أوقفني:
التعليقات لهذا الفصل " 7"