منذ أن نطقت سيلا بتلك الكلمات وغادرت المنزل، بدا وكأن لعنة ما قد حلّت، فتوالت المصائب والكوارث على التوالي بلا هوادة.
اختفى الباحثون الذين كانوا يدرسون طريقة تكرير الحجر السحري في ليلة واحدة، كأن الأرض ابتلعتهم. ومع اختفائهم، تبخرت الأموال الطائلة التي استثمرها الماركيز في مشروعهم، دون أن يتركوا وراءهم أثرًا يُذكر.
أرسل أرسيل رجاله على عجل لتعقّب أثرهم، لكن يبدو أنهم أعدّوا نفسهم للرحيل منذ زمن، إذ لم يُعثر على أي دليل يشير إلى مكانهم.
توجه الماركيز إلى فابيان، الذي أوصى بهؤلاء الباحثين، ليستفسر عن مصيرهم. لكن فابيان استقبله بعينين متسعتين ووجه يعكس الدهشة والجهل بالأمر.
[أنا من أوصى بهم؟ يا للهول! يبدو أنني أثرثر بكل شيء حين أشرب الخمر!]
ثم أصاف.
[لكن الذين أوصيت بهم ليسوا هؤلاء على الأرجح. كنت أنوي أن أرشح لك الأخوين إلناكد، لا الأخوين إلراكد. يبدو أنك أسأت فهمي.]
[لمَ لم تستشرني مرة أخرى بعد أن صحوت من سكرتي؟]
وفي النهاية، لم يتمكن الماركيز أرسيل من العثور على أولئك الهاربين حتى الآن.
ولم تتوقف المصائب عند هذا الحد. فقبل أن يتمكن من تسوية الأضرار الناجمة عن هذا الخسران، وصلته أنباء مروعة. إفلاس الجهة التي استثمر فيها، وهروب آخرين بالأموال التي أودعها لديهم.
قبل أسبوعين، وصلته مذكرة من البنك تطالبه بسداد ديونه، وقبل أربعة أيام، جاءته رسالة من فابيان نفسه. كانت رسالة تعبر عن أسفه للوضع، لكنها تحمل تهديدًا واضحًا. إذا لم يسدد الماركيز المبالغ المستحقة في المواعيد المحددة، فسيتم تنفيذ ما ورد في العقد.
كان التهديد يعني نزع ملكية القصر بالقوة.
‘أن ينتزع قصر عائلة أرسيل العريقة من يديها ويسقط في يدي غريب؟!’
لم يتمالك الماركيز نفسه من الغضب الذي تفجر في أعماقه، فأطلق صيحة غاضبة هزت جدران القصر.
سارع إلى طلب العون من المحيطين به، لكن ما إن يذكر المال حتى يستقبله الجميع بوجه بارد وينبذونه. بل إن بعضهم رفض حتى لقاءه. لا أحد، سواء من كانوا على علاقة ودية بعائلته أو من ارتبط بهم بصداقة شخصية، مدّ له يد العون.
كانت الأنباء عن إخفاقاته المتتالية في الاستثمارات وديونه المتفاقمة قد انتشرت في الخفاء، فأدار الجميع ظهورهم له.
‘لو كانت عائلة شتاين الماركيزية لا تزال قوية، لما كنت في هذا الموقف!’
تأسف الماركيز متأخرًا على غيابهم، وهو يعتصر قبضته في حسرة. كانوا سيمدون له يد العون، ولو من أجل كلارا.
في تلك اللحظة، دخلت كلارا إلى المكتب.
“… ما الذي جاء بكِ؟ رأسي يكاد ينفجر، فعودي لاحقًا!”
لكن كلارا، رغم أمر زوجها بالمغادرة، تقدمت نحوه بثبات. كانت سيدة نبيلة، حتى وإن عاشت منعزلة في الجناح الجانبي بعيدًا عن الأوساط الاجتماعية. كانت دائمًا تهتم بأناقتها، تختار الفساتين وفق أحدث صيحات الموضة، وتزين نفسها بالجواهر الثمينة، وتحرص على مظهرها الراقي.
لكن الفستان الذي ترتديه الآن كان قديمًا، خارج عن الموضة التي تسود الأوساط الاجتماعية. قبل شهر واحد فقط، كان هذا الأمر لا يمكن تصوره. حتى مكياجها بدا غير متناسق، فقد تخلى عنها معظم الخدم الذين كانوا يعتنون بها، بما فيهم الخادمات الماهرات اللائي كن يزينّها يوميًا.
لم يبقَ في القصر سوى الخدم الذين أجبرتهم ظروفهم على البقاء.
“عزيزي! ماذا عن ليليا؟ هل سنتركها هكذا حقًا؟”
نظر إليها الماركيز بنظرات مليئة بالضجر والاشمئزاز.
“لقد اعترفت بذنبها بنفسها، فماذا تريدين مني أن أفعل؟ كفّي عن التفكير بليليا!”
“كيف أتخلى عن ليليا؟ إنها ابنتنا!”
“لم تكن لي ابنة منذ البداية! إن كنتِ متمسكة بها إلى هذا الحد، فحلي الأمر بنفسك!”
شعر الماركيز أن الحديث لن ينتهي، فعبس في نفور واضح، ثم تجاوز كلارا وخرج من الغرفة، مغلقًا الباب خلفه بعنف.
نظرت كلارا إلى الباب الموصد بإحكام بعيون شاردة، وقلب مثقل بالأسى.
“كيف يستطيع أن ينطق بمثل هذه الكلمات…؟”
تذكرت كلامه الذي نفى فيه وجود ليليا، فارتعدت من هول الفكرة. أن يكون هذا الرجل، الذي عاشت معه سنوات طويلة، هو أبو طفلتها! أحاطت ذراعيها بجسدها وأجهشت بالبكاء بهدوء.
‘ليليا… يا ابنتي المسكينة.’
عشرة أشهر حملتها في أحشائها، وتحملت آلام المخاض المميتة لتضعها في الوجود. في اللحظة التي ضمتها إلى صدرها لأول مرة، طبعت كلارا قبلة على جبينها، وأقسمت قسمًا مقدسًا. سأجعلها سعيدة مهما كلف الأمر.
كما نالت هي الحب الغامر من عائلتها قبل زواجها، أرادت أن تغمر ليليا بالسعادة ذاتها. لكن في اللحظة التي تجلت فيها لعنة الجنيات التي كانت تظنها مجرد خرافة، انهار كل شيء.
منذ ذلك اليوم، صارت كلارا في نظر ابنتها مجرمة. تحوّل قسمها القديم إلى شعور بالذنب يعتصر قلبها، فانصرفت إلى التضحية بكل شيء من أجل ليليا بعناد محموم. حتى لو أمضت الليالي تبكي على ما خسرته من كنوزها، كانت مستعدة لفعل أي شيء تريده ابنتها.
لكن هذا كان الثمن. ليليا في السجن. مجرد التفكير فيها خلف القضبان جعل كلارا تغرق في بحر من العجز المرير، عاجزة عن كبح دموعها.
‘لا بد أن أجد طريقة لإنقاذ ليليا.’
يائسة من عجزها عن فعل المزيد لابنتها، عادت إلى غرفتها. قضت ساعاتها بين الخمر والدموع، حتى استيقظت عند الفجر من صوت أيقظها.
“السيدة كلارا، الآنسة ليليا تطلبك.”
كان الداخل يرتدي رداءً أبيض مزينًا بنقش أوراق مألوف لكلارا.
“هل تقول إنك ستأخذني إلى ليليا؟”
“نعم.”
نهضت كلارا على عجل، دون أن تهتم بتغيير ثيابها الملطخة بالخمر. تبعت الرجل ملتصقة به، بل وحثته على الإسراع.
بعد لحظات، انقلبت الرؤية، واستبدل برائحة مألوفة عبق عفن كريه يخترق الأنف. تقلصت من برودة الهواء، لكن صوتًا عزيزًا ناداها ففتحت عينيها على اتساعهما.
“أمي!”
“ليليا!”
اندفعت كلارا نحو القضبان التي تفصلها عن ابنتها. عندما رأت وجنتيها النحيلتين، انهمرت دموعها لا إراديًا.
“الماركيزة، هل أتيتِ؟”
“ثيودورو…”
التفتت كلارا إلى مصدر الصوت، لترى ثيودورو واقفًا أمامها.
كانت منشغلة بليليا لدرجة أنها لم تلحظه حتى تلك اللحظة.
“هل جئت لإنقاذ ليليا؟”
“نعم، هذا صحيح.”
“إذن أنت أفضل من زوجي.”
تمتمت بانفعال خافت، فابتسم ثيودورو.
“حقًا؟”
“شكرًا لك. سأرد هذا الجميل يومًا ما.”
“حسنًا.”
في تلك اللحظة، مدّت ليليا يدها عبر القضبان، وهي التي كانت تستمع إلى حديثهما بهدوء، ونقرت على كتف كلارا بلطف.
“أمي، لدي طلب أرجوكِ أن تستجيبي له.”
أصغت كلارا إلى صوت ليليا الناعم، بينما يعتصرها القلق من أن تكون عاجزة عن تلبية رغبتها. كانت تريد بكل قلبها أن تمنحها كل ما تطلب، لكنها لا تملك شيئًا الآن.
“قال لي ثيودورو إنه لتحقيق رغبتي، يلزم تقديم قربان.”
ارتجفت كتف كلارا عند سماع كلمة ‘قربان’.
شعور غامض بالقلق دفعها دون وعي إلى التراجع خطوة إلى الوراء، لكن يدًا أمسكت بمعصمها، فلم تستطع الحركة.
“قال إن القربان يجب أن يعكس مدى تصميمي.”
“ليليا…”
“أمي، ألم تَعِديني بأنك ستفعلين أي شيء من أجلي؟”
لم تستطع كلارا الإجابة. لا، بل لم تقدر. قبل أن تتحرك شفتاها، انهار جسدها.
انهارت الماركيزة على الأرض بلا حول ولا قوة. في تلك اللحظة، انبعث من إصبع ثيودورو وهج مشؤوم.
“شكرًا يا أمي. في النهاية، كنتِ عونًا لي.”
نظرت ليليا إلى جسد كلارا، التي سُلب روحها بفعل خاتم مسحور، وابتسمت بنقاء وهي تحني جفنيها برفق.
استقلت سيلا عربة متجهة إلى القصر الإمبراطوري بناءً على استدعاء مفاجئ. لم تكن تعرف التفاصيل، لكنها شعرت أن هناك مشكلة ما.
***
فلو لم يكن الأمر كذلك، لما استدعاها الإمبراطور بهذه العجلة دون كشف الأسباب.
‘ما الذي قد يكون وراء استدعائي؟’
غرقت في التفكير، عيناها شبه مغمضتين. ما الذي قد يدفع القصر الإمبراطوري لاستدعاء فتاة نبيلة بلا منصب أو نفوذ بهذه السرعة؟
‘أيكون…’
كبحت سيلا مخاوفها وهي تعض على أصابعها. وصلت إلى القصر متمنية أن تكون مخاوفها مجرد هواجس، فاستقبلها ولي العهد لوكاس.
“آنستي، لقد مر وقت طويل.”
“أحيي سمو ولي العهد.”
“أعتذر لاستدعائكِ دون إفصاح عن السبب، لكن الظروف اضطرتني لذلك.”
كان لوكاس، الذي اعتادت أن تراه يبتسم بخبث في كل لقاء، يحمل اليوم وجهًا جادًا خاليًا من أي مظهر من المرح.
شعرت سيلا بقلق يتصاعد في صدرها، فقالت.
“هل يمكنني معرفة السبب؟”
“ليليا أرسيل هربت من السجن. ليس هي فقط، بل حتى تلك المزيفة الذي تحولت إلى شكلكِ سابقًا اختفى بلا أثر.”
ارتجفت جفون سيلا وارتفعت عيناها في ذهول. رأى لوكاس نظراتها المضطربة، فسألها.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات