تبدّد السواد الكثيف الذي غشّى البصر من دخان النار، وإذا بأفقٍ مغمورٍ بضياء الشفق ينفتح أمامها. بدت الفرسان التابعون للقصر الإمبراطوري وسحرتُه، وفي المقدّمة وليُّ العهد وكاليكس يقودان الجمع. التقت عينا سيلا بعيني كاليكس.
تردّد صدى أصوات الفرح والتهليل بالنجاة في أرجاء المكان، غير أنّ مسامعها لم تعد تصغي إليها.
“…….”
“…….”
هبط كاليكس عن صهوة جواده، واتّجه نحوها بخطى ثابتة، بطيئة في وقعها، لكنها ما لبثت أن صارت قريبة، حتى غدت المسافة بينهما لا تُقاس إلا بمدّ اليد.
آنذاك، حين امتلأ بصرها به، أيقنت سيلا أنّها خرجت سالمة. فانهدّ الجدار المتراكم في صدرها من التوتر، وتدفّق إلى مكانه طمأنينة وارتخاءٍ جعل أوصالها تثقل بالسكينة.
“أشكرك على قدومك.”
لم يجبها كاليكس، بل مدّ يده يسدل عباءتها الثقيلة، فانطلقت خصلات ذهبية تميل إلى الحمرة تتراقص في النسيم.
خرجت من لهيبٍ يوشك أن يذيب العظم، فإذا بالقشعريرة تسري في جسدها. ارتجفت واحتضنت ذراعيها، فسارع يطرح رداءه العريض على كتفيها. احتواها دفؤه، وعبقه العالق في ثناياه، كأنما كان حضناً خفيّاً يلفّها. لم تعد تشعر بالبرد، بل بوقع أنفاسه الدافئة يثقل صدرها ويضيق أنفاسها.
راح يتأملها بعينين متفحّصتين، كأنّه يخشى أن يكون ألمسها مكروه.
“أنا بخير. لم يصبني أذى، سوى بعض الدخان الذي استنشقتُه، فلا تقلق.”
رفع كاليكس بصره ليلتقي بعينيها، ثم قبض برفق على إصبعها الخالي من الخاتم. أخرج من جيبه خاتم خطوبةٍ انعكس عليه نور المغيب فتلألأ ببهاء، وأعاد إدخاله في إصبعها بملاءمةٍ بديعة.
‘أنا ممتنه لذلك الصبي.’
وما إن لمست جبهته ظهر يدها حتى أحسّت ببرودة شعره الأسود المنسدل.
“إن كنتِ بخير، فذلك يكفيني.”
تزلزل صوته وهو يلفظها، وأنفاسه اللاهثة تحمل آثار التعب.
“لكن من الآن فصاعداً، اصطحبي حارسك دوماً. وإن لم تثقي بفرسان عائلة أرسيل، فليكن فرساني في خدمتك… أو أنا نفسي.”
“أهكذا تظن؟”
اتسعت عيناه بدهشة، وحين أبصرت في نظراتها لمحة من الدعابة، اقتنص الفرصة بلهفة.
“حسناً. موافقة.”
“……أحقاً تقولين؟”
“أجل. وما إن أفرغ من مشاغلي، سيكون الأمر ممكناً.”
كانت تمازحه لتخفّف الجو المكهرب، غير أنّ هذا الرجل…
تقدّم وليّ العهد بخطواتٍ وئيدة، وعينٌ نصف مغمضة، حتى بلغ قربهما.
“أما تزال أمامك أعمال جمة؟ أفتراك ستتركها جميعاً لتتبع الآنسة سيلا وحسب؟”
ثم وضع يده على كتف كاليكس بطلاقة، وأدار نظره نحو سيلا وهو يمرّر أصابعه على شفتيه بابتسامةٍ خفيفة.
“لكِ مني، آنستي، وافر الشكر. بفضلك استطعنا القبض على العصابة المجرمة، وإنقاذ نفوس بريئة من رعايا الإمبراطورية.”
ألقى نظرةً على المبنى المحترق خلفهم؛ كان ملكاً للماركيز شتاين. ورغم قوة السلطان الإمبراطوري، لم يكن من اليسير اقتحام ممتلكات النبلاء بلا ذريعةٍ قاطعة، وإلا انقلبت قلوبهم على العرش. ولطالما حار في إيجاد ذريعةٍ ملائمة… حتى جاءته من تلقاء نفسها.
‘ها قد حظينا بالذريعة.’
تلألأت عينيه الحادتين وهما تتابعان السحرة الذين يصبّون قواهم المائية في ألسنة اللهب المستعصية.
‘ليست ناراً عادية إذن.’
وإلا، فما الذي يحول دون انطفائها حتى الآن؟
“آنستي، أتعلمين لم اندلع هذا الحريق؟”
“لا أعلم. غير أنّه انتشر بسرعةٍ مريبة.”
“غير مألوف، إذاً… تبا. كنت أودّ التحقيق داخله، لكن يبدو أنّ المبنى لن يصمد.”
نقر ولي العهد بلسانه وتقبّضت ملامحه. فما دام الماء لا يفلح، فلا بد من حيلةٍ أخرى. عندئذٍ، سحب يده عن كتف كاليكس.
“دوق…”
ارتسمت على وجه لوكاس ملامح التذكّر وهو يستعيد ما أسرّ به إليه اليوم، فحوّل رأسه جانباً.
“لقد كانت خطيبتك على وشك أن تقع في كارثة، فلا بأس إن لم تفعل شيئاً اليوم. ولتكن أحاديثنا المفصّلة في يومٍ آخر.”
“نعم، يا صاحب السمو. أشكرك على كرمك.”
“أشكرك على كرمك.”
ردّدت سيلا التحية بوقارٍ، ثم انفرجت شفتاها فجأة.
“سموك، أرجو أن تمهلوني لحظة.”
أوقفته بخطابها، وأخرجت من حقيبتها السحرية دفتراً كانت قد خبأته، ومدّته إليه.
“لقد وجدته هناك. خشيت أن يُفقد، فاحتفظتُ به، والآن أقدمه لك.”
اتسعت عينا لوكاس بدهشة.
“يا آنسة، إنك كنزٌ ثمين.”
“عفواً؟”
“أعني أني شاكر لك.”
ثم ابتعد بخطواتٍ أخفّ من ذي قبل، وقال.
“فلنعد الآن. ولنترككِ في رعاية طبيب القصر.”
“ليكن كما تشاءون.”
رغم أنّ طبيب عائلة أرسل كفيلٌ برؤيتها، إلا أن بريق عيني ولي العهد كان عسيراً على الرفض. فما إن أومأت برأسها راضية، حتى أشار كاليكس بعينيه، فسارع رون ــ الواقف في الخلف ــ ليُحضر العربة.
وبينما كانوا في الانتظار، تقدّم الفرسان الذين التقتهم سيلا في القبو.
“آنسة.”
“آه…”
“لم نُتح لنا الفرصة أن نعرّف بأنفسنا آنذاك. أنا مايكل.”
انحنى الفارسان بأدبٍ جمّ، ثم قال أحدهما.
“لقد بلغنا أنّكِ لجأتِ إلى صاحب السمو الدوق قبل أن تأتينا. وبفضلك تحررنا، فكان لا بد أن نشكرك.”
وأضاف الآخر متردداً.
“وربما لاحظتِ أننا قد أسأنا الظن فيك آنذاك… فاعذرينا على شكوكنا.”
انحنى الاثنان حتى زاويةٍ قائمة.
“ليس في الأمر سوء. كان ظرفاً يُحتّم الريبة، وأتفهم ذلك.”
“يا لعظيم رحمتك، آنسة. لكن…”
تبادل مايكل النظرات مع رفاقه، ثم قال بخفر.
“ذلك الرجل الذي كان معنا، خُيّل إلينا أنك تعرفينه منذ زمن، أحقّ هذا؟”
“لقد بدوتما قريبين للغاية.”
“نعم، هذا صحيح.”
“فهل نجرؤ أن نسأل أين لقيته، وأين يمكن أن نلقاه؟”
أغمضت سيلا عينيها ببطء، ثم فتحتهما من جديد.
“آسفة، لا أستطيع أن أخبركم.”
كانوا يتعاملون مع كين بغير عداوة، وكأنهم يعرفونه. لكن ما داموا يسألون عنه وكأنهم يجهلون أين يقيم، فقد شعّت في نفسها ريبةٌ كئيبة.
‘لعل علاقتهم به ليست بطيبة كما يبدو.’
رفضت بحزم، وكاد مايكل يعيد الكلام، غير أنه فجأة اختلس النظر إلى جانبه، فإذا به يبتلع ريقه مذعوراً.
“شكراً على إجابتك. نأذن بالانصراف!”
‘ما بالهم؟’
راقبتهم سيلا في دهشة وهم ينسحبون مطأطئي الرؤوس.
‘آه…’
لكن حين التفتت إلى كاليكس، انكشف لها السبب دفعةً واحدة.
“سيلا، ذلك الرجل الذي بدوتِ معه على أُلفة… أيمكن أن تخبريني من يكون؟”
“…….”
“أودّ أن ألقاه، ولو مرة واحدة.”
ابتسم كاليكس بظاهر شفتيه كأنه يُبدي اللطف، أما نظراته فكانت تتوعّد بأن تمزّق الرجل إرباً متى كشف عن هويته.
‘أيّ غافلٍ هذا الذي لا يدرك وضوح ما في عينيه؟’
تشبّثت سيلا بعباءته ونظرت إليه بعزم.
“ليس كما تظن. فاطمئن.”
“لم يخطر بذهني قط أن أشك بكِ.”
أجاب بصلابة.
“أحقاً؟”
“أجل.”
إنما ريبة قلبه متجهة إلى ذلك الرجل وحده. ظل يرمقها دون أن يكشف عما في صدره.
“أنا أؤمن بكِ يا سيلا، و…”
رفع ذقنه وارتسمت على محيّاه ابتسامة واثقة.
“وأؤمن بنفسي كذلك.”
“…هكذا هو كاليكس الذي أعرفه.”
هزّت رأسها، وألقت بصرها نحو العربة التي توقفت أمامهم. لم تستلطف غطرسته، لكنها تقبّلتها. وما إن صعدا معاً، حتى انطلقت العربة بلينٍ نحو دار الدوق.
“والآن، ذلك الرجل… من هو؟”
“آه، ألم أقل لك؟ إنه العم كين.”
“وكيف…؟”
“كان يحقق في أمرٍ أوكلته إليه.”
‘ذلك الرجل، كم بدا واثقاً أنني سأستجيب لأمره بلا نقاش…’
عبثت بأصابعها في خصلات شعرها وهي غارقة في التفكير.
أما كاليكس، فأطبق شفتيه صامتاً. صحيح أنّها تبدو سالمة، لكن ظاهرها ليس كلّ باطنها. ولأجل أن يتيح لها قدراً من الراحة، أدار وجهه إلى الخارج متأملاً.
ساد الصمت في العربة، وكاد يرافقهما إلى القصر لولا صوتٌ مباغتٍ شقّ السكون.
طنينٌ خافت كجرسٍ دقّ.
اتسعت عينا كاليكس، واضطربت ملامحه، والتفت مباشرة نحو سيلا. هي الأخرى رفعت جفنها، فتلاقت عيناهما.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات