ما إن خطت أقدامها حتى تسلّل إلى أنفها عبير اللحم المشوي ودسومة دخانه.
توغّلت أكثر، فإذا بجدارٍ منقوش عليه فراشة، شعارُ عائلة شتاين.
‘إذن… هذا ما كان يقصدونه حين ذكروا شتاين قبل قليل.’
لقد كان المكان مطعمًا تديره أسرة الماركيز شتاين.
فانكشف لها سرّ أدبهم البالغ.
اقترب أحدهم بوقار وقال.
“هل نُبلّغ الداخل بمقدومكِ؟”
وعرفت سيلا على الفور ما الذي يعنيه ‘الداخل’.
كان بوسعها أن تتراجع في صمت، وتكتم خبر وجودها هنا.
ذلك أضمن لسلامتها.
ولكن…
خطرت في بالها صورة الدمية الساقطة على الأرض.
فحرّكت شفتيها قائلة.
“أعطوني رداءً. أريد الدخول كضيفة، لا كحَفيدة الماركيز.”
قالوا في صوتٍ واحد.
“كما تأمرين. لحظةً من فضلكِ.”
خرج أحدهم مسرعًا، وعاد بعد قليل يلهث وفي يده رداءٌ أسود جديد.
ناولها إيّاه وهو يطأطئ رأسه.
“لقد أتيتُ به.”
قالت.
“أحسنت صنعًا.”
فقال.
“لا شكر على واجب. تفضّلي معنا.”
ارتدت الرداء وأسدلته حتى غطّى وجهها، ثم تبعتهم إلى مخزنٍ في آخر الطابق الأول.
أزاحوا بعض الصناديق، فانكشف مقبض في الجدار.
ما إن سحبوه، حتى ارتجّت الأرضية وظهر سلّمٌ يقود إلى الأعماق.
هبّت من الأسفل نسمة باردة كأنفاس القبور، فاقشعرّ جسدها.
وما إن بلغت آخر الدرجات حتى اختنق نفسها.
كان هناك زنزانة حديدية، خلف قضبانها احتُجز رجال ونساء وأطفال.
طوالٌ وقصار، بدناء ونحاف، لكنهم جميعًا اشتركوا في شيء واحد.
‘عيونهم… كأنها عيون الموتى.’
فقدوا رجاء الحياة، فأمْسوا أحياءً كالأموات.
وكان اليأس المنبعث منهم ثقيلاً يطأ صدرها حتى كاد يخنقها.
“من هذه النقطة فصاعدًا لسنا مخوَّلين لمرافقتكِ، لذا سأستدعي السيّد كونراد.”
“حسنًا.”
“ونعيد الاعتذار عن سوء التصرف السابق، ونرجو منكِ أن تتقبّلوه بسعة صدر.”
انحنوا برؤوسهم وتراجعوا. وما هي إلا لحظات حتى أطلّ رجلٌ شديد النحول، قد شاب شعره الأبيض فجمعه في خصلة واحدة بعناية. انحنى بأدب وقال.
“أعتذر عن التأخّر. لم يُبلّغني أحد بقدومكِ اليوم، فشغلتني أعمالٌ أخرى.”
كان هو الوحيد مرتديًا عباءة رماديّة، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ودودة.
“سمعتُ أن هويّتكِ قد ثُبّتت، فلندخل مباشرةً في صلب الموضوع. ما الذي ترجينه؟”
قالت سيلا بثبات.
“أين الأطفال؟”
“سأريكِ.”
قادها حتى وقف أمام زنزانة خُصّصت لحبس الأطفال. رفع الصغار أبصارهم نحو كونراد وسيلا، ووجوههم مرتجفة من الفزع.
‘إيلي… هيوغو…’
بين عشرين طفلًا، لمحت إيلي وهيوغو، بل ورأت بعض الوجوه التي سبق أن مرّت بها في الميتم.
قالت بحزم.
“سأشتري هؤلاء جميعًا.”
‘فلأنقذهم أولًا…’ فكّرت، ثم نطقت، فتسعت عينا إيلي وهيوغو بدهشة. بدا أنهما تعرّفا على صوتها، فأشارت إليهما بإصبعها تدعوهما إلى الصمت.
كادت إيلي أن تهتف فرحًا، لكنّها أسرعت تكتم فمها بكفّها. وفي عينيها وهيوغو لمعان حياةٍ لمّاع.
حولت سيلا بصرها نحو كونراد.
“أتريدين حقًا شراء هؤلاء كلّهم؟”
“نعم.”
“عددهم ليس بالقليل.”
جالت عيناه الثعبانيتان بين الأطفال واحدًا واحدًا. فارتعد الصغار وازدحموا في الزاوية يرتجفون.
قال.
“تمّ التأكّد. إذن الآن…”
هزّ رأسه وبسط كفّه إلى الأمام.
فتلألأ سوار ذهبيّ في معصمه تحت ضوء المصباح.
“أخبريني… ما الذي تبتغين تحقيقه حقًا؟”
لبرهةٍ لزمت سيلا الصمت، لم تفهم إلى أين يسوق الكلام. خفضت نظرها إلى راحته الغائرة بالخطوط، ثم رفعت جفنها وأجابت.
“لا أريد إلا هؤلاء الأطفال. ليس وراء ذلك غاية أخرى.”
تجمّدت عيناه الماكرة عليها طويلاً، ثم أومأ أخيرًا.
“حسنا… فهمت. إذن اتبعيني، ولنتلقَّ الثمن أوّلًا.”
سارت خلفه تحدّق بظهره، حتى توقّف عند بابٍ بلون البرقوق. مدّ يده إلى جيبه، فسمعت خشخشة الحديد، وأخرج مفتاحًا. دوى صوت القفل وانفتح الباب، فكشف عن غرفة مرتّبة نظيفة.
“تفضّلي بالدخول.”
أُغلق الباب خلفها. لكنّه ما تحرّك بعدها، فأدارت بصرها إليه.
فقال ببرود، مزمجرًا كالأفعى الكاشفة عن أنيابها.
“من أي جحرٍ خرجتِ، أيتها الفأرة الدخيلة؟”
***
في مكتب وليّ العهد، كان لوكاس يقطّب جبينه بعد سماع تقرير كاليكس.
“فُقِد ثلاثة فرسان، ومن بينهم مايكل.”
“……اختفاء آخر إذن.”
ضغط لوكاس على صدغيه بقوة. فمنذ أشهرٍ وهو يكرّس جهده لملاحقة عصابة الاتّجار بالبشر، بلا ثمرة. كلّما قبضوا على أحدٍ في موقع الخطف واستجوبوه، لم ينالوا سوى صمت مطبق.
جرّب خطة أخرى، فأمر بمراقبة العصابة بدل اقتحام مواقع الخطف، لكن النتيجة لم تختلف. كل مرة، يختفي الفرسان المكلّفون، وكأن الأرض ابتلعتهم.
“وكأنّنا نعيد مشاهد ماحدث قبل خمس سنوات.”
ضحك لوكاس بمرارة، وارتسم الغضب على محيّاه. آنذاك أيضًا لم يتكلم الأسرى، وتلاشى الفرسان المتعقّبون بلا أثر. حاولوا تتبّع المفقودين، لكن لا خيط ولا ظلّ ظهر.
‘لو بقي الدفتر الذي عثرنا عليه قبل خمس سنوات…’
خوفًا من طمع الأعداء في الدفتر، وزّع خمسة دفاتر مزيفة على خمس فرق. أما الحقيقي فأودعه عند تابع اشتهر بمهارته ودقّته. لكنّ ذلك الرجل ـ على غير عادته ـ فقده ومعه حقيبته السحرية.
لم يزل لوكاس يلعن تلك اللحظة؛ لأنها حالت دون إنقاذ المخطوفين من أبناء الإمبراطورية.
‘لهذا، لا بدّ أن أمسك بهم هذه المرّة.’
أطبق جفنيه وفتحهما، فتألّقت في عينيه زرقة شرسة كالبرق.
“أحسنتَ صنعًا دومًا، دوق.”
“لا شكر على واجب.”
“غير أنّ…”
ارتكز بصر لوكاس على كاليكس.
“أراك منهك الوجه. أليست مهامك ما زالت ضمن حدود قدرتك؟”
كان جلده باهتًا وعينيه محاطتين بسواد، أشبه ما يكون بعيون مساعده رون. فرفع لوكاس حاجبيه.
ابتسم كاليكس ابتسامة باردة وقال.
“إذًا تنوي إثقال كاهلي أكثر في الأيام القادمة.”
“لا تقلق. لن أرهقك إلى حدّ يلهيك عن أمور منزل إيكاروس أو شؤون الدولة.”
أنزل لوكاس يده عن صدغه، وجلس متكئًا وهو يسأل فجأة.
“فأخبرني، ما الأمر؟”
“أيّ أمر؟”
“أتريدني أن أنطق به؟ إنّه ما يشغلك أكثر من شؤون البلاد.”
أجابه بحزم.
“لا شيء. وإن وُجد، فليس من شأن سموّك.”
لكنّ لوكاس كان رجلًا عنيدًا لا يترك صيدًا.
“ولم لا؟ أليس من واجبي أن أرعى رجالي؟ ثم إنّ القضاء على عصابة الاتّجار بالبشر سيتطلّب دورًا أساسيًّا من سيّد السيف، فلا بدّ أن أُخفّف عنك ما استطعت.”
‘لن ينتهي هذا النقاش…’
فكّر كاليكس، ثم عقد عزمه. انحنى قليلًا وقال.
“عندي كثير من الأعمال، أستأذن الآن.”
دار على عقبيه وغادر بخطًى حازمة، دون أن يُبالي إن بدا تصرّفه جافيًا؛ فما بينهما أعمق من أن تهزّه مثل هذه الرسميات.
لكن صوت ولي العهد لحقه كالسهم.
“إن أبيتَ أن تُفصح، حسناً. سأخمن إذن.”
“….”
توقف كاليكس في مكانه.
“أليس للأمر صلة بالأنسة سيلا آرسيل؟”
فتجمّد جسده في لحظة، وتوقّف عن الحركة كمن أصابته صاعقة.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 109"