تسعة أعشار طلّاب أكاديميّة ديكلا هم من أبناء العائلات الأرستقراطيّة، والعُشر المتبقّي من عامّة الشعب.
في الحقيقة، حتّى هذا العُشر يُعتبر نسبة مرتفعة جدًا.
يبلغ سنّ القبول في أكاديميّة ديكلا حوالي ثلاث عشرة سنة.
في العائلات الأرستقراطيّة، يتمّ فحص كمّيّة المانا لدى الطفل فور ولادته لتحديد ما إذا كان يملك موهبة سحريّة، ويُقدَّر احتمال نموّه كساحر.
إذا تبيّن أنّ الطفل لديه موهبة ليصبح ساحرًا، يُعيَّن له معلّم منذ بداية مشيته للتعليم المبكر، تمهيدًا لاجتياز امتحان القبول في الأكاديميّة.
أمّا أطفال العامّة، فقد لا يعرفون طوال حياتهم أنّ المانا تتدفّق في أجسادهم.
ففحص كمّيّة المانا يقوم به السحرة عادةً، واستدعاء ساحر أو مقابلته يكلّف أموالًا طائلة.
لذلك، كان من حسن حظّي أن أدرك تدفّق المانا بنفسي وحدي، بينما كنتُ أعيش في دار الأيتام، وأن أجتاز امتحان القبول في سنّ الثالثة عشرة… يجب أن أعتبر ذلك نتيجة حظٍّ عظيم.
كنتُ أملك موهبة عبقريّة في السحر، ويقال إنّ دار أيتام كليرمون سارعت بأخذي إلى الأكاديميّة لأجتاز امتحان القبول.
ونتيجة لذلك، أصبحتُ أفضل إنتاج لدار الأيتام.
بالطبع، هناك من يكتشفون موهبتهم السحريّة في الثلاثينيّات أو الأربعينيّات من عمرهم… لكن حينها، تمنعهم النظرة الاجتماعيّة، والرسوم الدراسيّة الباهظة، وقيود سنّ القبول من الالتحاق، فيصبحون مجرّد مساعدين للسحرة.
يُستغَلّون بأجور زهيدة من قِبل السحرة الكبار الذين تخرّجوا من الجامعات، وهذا أمر شائع.
أمّا أندرو، فقد كان محظوظًا بوجود ساحر بين أقربائه البعيدين، ممّا مكّنه من فحص كمّيّة المانا مبكرًا والالتحاق بالأكاديميّة.
لكن، للأسف، سواء كانوا بشرًا أو حيوانات، فإنّ الجميع يملك عينًا ترى الضّعيف.
كان أندرو فريسة سهلة جدًا للطلّاب الأرستقراطيّين.
وأدركتُ ذلك فقط بعد أن التقيتُ بأندرو.
“حتّى أنتِ، أيّتها المساعدة، كنتِ تعرفين ذلك قبل أن تفقدي ذاكرتكِ. لأنّكِ كنتِ طالبة في هذه المدرسة.”
عندما رمشْتُ بعينيّ، رأيتُ سماءً مشمسة بلا مبالاة.
أعدتُ أندرو إلى السّكن الداخليّ، ثمّ مشيتُ عبر الحرم الجامعي.
‘لقد أصبحتُ ساحرة لأنّني لم أرد أن أبدو ضعيفة أمام الطلّاب الأرستقراطيّين.’
لم أكن أكره الأطفال.
لكن، وأنا أعيش وحدي في هذا العالم، كان عليّ أن أعرف طريقة واحدة على الأقل لحماية نفسي.
***
“…حدث ذلك يا ديف.”
دخلتُ غرفة الاستراحة بوجه عابس والتقيتُ بديف.
بدلاً من تقديم قهوة قويّة، صنع لي كوبًا من الشوكولاتة الساخنة واستمع إلى قصّتي بعناية.
أومأ ديف برأسه موافقًا.
“حسنًا، أنا أكملتُ دراستي في الخارج وأصبحتُ مساعدًا هنا، لكنّني لم أرَ لجنة تأديب تُعقد بسبب العنف المدرسيّ سوى مرّات قليلة.”
“ماذا؟ حقًا؟”
“حتّى لو عُقدت، فهي تكون لتسوية الخلافات بين أبناء الأرستقراطيّين البارزين فقط.”
“…إذن، من يحمي أمثال أندرو؟ إذا لم تعمل لجنة التأديب بشكل صحيح…”
ردًّا على سؤالي، اكتفى ديف بوجه حزين.
شعرتُ بالضيق. طالما أنّ آباء الطلّاب المتنمّرين هم من الأرستقراطيّين النافذين، فلا سبيل لنا، نحن المساعدين من العامّة، لفعل شيء.
ثمّ خطر لي فكرة ذكيّة.
“هل يمكننا أن نطلب من الأستاذ كلينت أن يتولّى إرشادهم؟”
“إلى الأستاذ ليدروسي؟”
“إذا تحدّث ربع تنّين عاش أكثر من مئتي عام، ألن يستمع الجميع؟ حتّى القوانين الجوفاء ستصبح ذات قوّة.”
هزّ ديف رأسه.
“لاشا، التنانين لا تتدخّل في شؤون البشر.”
“لا تتدخّل في شؤون البشر؟ ما هذا الكلام؟ ألم يتطوّر سحر المملكة بفضل الأستاذ؟ أليس ذلك تدخّلاً؟”
“هذا مجرّد نتيجة للانسجام بين البشر والتنانين.”
“الانسجام؟”
“التنّين يبقى في عالم البشر، وفي المقابل يعلّم البشر ويدفع ثمنًا.”
الثمن. كرّرتُ الكلمة في ذهني.
“التنانين لا تتدخّل عادةً في شؤون بشريّة مثل الحروب، أو المجاعات، أو حتّى التنمّر البسيط. هناك سبب وراء عدم منح المملكة ألقابًا للتنانين طوال مئات السنين، وبقاء الأستاذ في منصب التدريس فقط.”
“لماذا؟”
كانت عينا ديف خلف عدستي نظارتيه هادئتين وجادّتين.
“لأنّنا إذا توقّعنا من التنّين أن يحلّ شيئًا مباشرة، فكأنّنا نسمح له بالتسلّط على كلّ شيء.”
كان هذا حديثًا صعبًا لفهمه دفعة واحدة.
كلّ ما أردته هو أن أعهد بطالب إلى تنّين يحترمه الجميع.
‘هل يجب على البشر حلّ مشاكلهم بأنفسهم؟’
شعرتُ بمرارة في فمي.
***
لكنّني لم أرد الاستسلام هنا.
رغم أنّني فقدتُ ذاكرتي، وكلّ ما أعرفه من السحر هو تفجير الطماطم، وأنا مجرّد مساعدة ناقصة.
لكن، إذا نظرتُ حولي قليلاً، كان هناك الكثير ممّا يمكنني فعله!
“الطالب ميخائيل، هل تأخذ دفتر الطالبة شري دون إذن؟ نقطة عقاب واحدة.”
“الطالب أنطون، لماذا تدهن مكتب طالب آخر بالغراء؟ نقطة عقاب واحدة.”
“الطالب جورج! ضع العطر في السّكن. نقطة عقاب واحدة.”
منذ ذلك الحين، راقبتُ الثلاثة بنظرة نارية. كلّما بدا أنّهم سينالون من طالب آخر، أوقفتهم وفرضتُ عليهم نقاط عقاب.
نظر إليّ ميخائيل وأنطون وجورج بوجوه شاحبة.
“آسف، أيتها المساعدة… ما هذه النقاط؟ لا يوجد نظام نقاط في هذه المدرسة…”
“لا النقاط الإيجابيّة ولا السلبيّة تُحتسب، لذا فإنّ نقاط العقاب هذه لن تعني شيئًا في النهاية.”
“إذن، لماذا تفرضينها؟”
“هل تتجرّأ على الردّ؟”
“لا، لا… لم أقصد ذلك…”
“القوانين ونقاط العقاب قد لا تعني شيئًا لكم. لكن، بهذه الطريقة، ستهابونني وتتوقّفون عن مضايقة زملائكم، أليس كذلك؟”
“هذا…”
“هل لديكم شكوى؟”
أغلق الثلاثة أفواههم، كأنّ الكلام قد انقطع عنهم.
قرّرتُ أن أتحكّم بهم على طريقتي، وحدّقتُ بهم كما لو كنتُ ساحرة حقيقيّة.
فخفض الثلاثة رؤوسهم.
“اذهبوا الآن.”
“حسنًا…”
همم. حدّقتُ في الثلاثة وهم يبتعدون وأنا أتمتم.
لكن، يبدو أنّ البشر إذا أُوقفوا من الأمام، يعبثون من الخلف.
بينما كنتُ أمرّ في ممرّ المدرسة، سمعتُ الثلاثة يتضاحكون في الفناء الخلفيّ.
“لذلك، كذبتُ عليه وقلب له إنّ اليوم درس في الهواء الطلق، فيجب أن يخرج. أندرو الآن يتيه في الجبل الخلفيّ للمدرسة، أليس كذلك؟”
“ممتع! التأخّر عن ذلك الدرس سيجعل الأستاذ يلاحقه طوال العام. هاها!”
عندما سمعتُ ذلك، أمسكتُ إطار النافذة بقوّة. شعر الثلاثة بغضبي، فنظروا إليّ وصرخوا مذعورين.
“ميخائيل، أنطون، جورج. جميعكم ستحصلون على نقاط…”
توقّفتُ هنا وقضمتُ شفتيّ.
لا، هذا كلّه لا فائدة منه.
يجب أن أذهب لإحضار أندرو الآن.
أندرو، الذي يعرف أنّه وقع ضحيّة خدعة، سيقف وحيدًا في الجبل بوجه مستسلم.
لسبب ما، شعرتُ أنّ أيّام دراستي المنسيّة تشبه حال أندرو، فشددتُ قبضتي.
“…سنتحدّث لاحقًا، أيّها الثلاثة.”
ألقيتُ تحذيرًا على الثلاثة الشاحبين، ثمّ خرجتُ مسرعة من مبنى المدرسة وركضتُ نحو الجبل الخلفيّ.
كانت السماء مغطّاة بسحب رماديّة كئيبة، وكأنّ المطر سيهطل في أيّ لحظة.
لحسن الحظ، كانت المدرسة والسّكن الداخليّ محميّين بحاجز سحريّ.
هذا الحاجز يصدّ الهجمات الخارجيّة، وحتّى الكوارث الطبيعيّة.
قد تصبح الطرق المؤدّية إلى الساحة موحلة عند المطر، لكنّ الجبل الخلفيّ للمدرسة، بفضل الحاجز السحريّ، يبقى ناعمًا ونظيفًا.
قرّرتُ أن أجد أندرو بسرعة وأعيده إلى القاعة الدراسيّة.
بينما كنتُ أركض نحو الجبل الخلفيّ، حدث ذلك.
[طوارئ. طوارئ.]
فزعتُ من صوت البثّ المفاجئ.
تردّد صوت عالٍ عبر المدرسة بأكملها.
[بسبب هجوم سرب من الوايفرن، حدث خلل في الحاجز السحريّ. على جميع الطلّاب الذين يمارسون أنشطة خارجيّة التوجّه فورًا إلى مبنى المدرسة بمساعدة الأساتذة والمساعدين.]
“وايفرن؟!”
[نكرّر مرّة أخرى. بسبب هجوم سرب من الوايفرن، حدث خلل في الحاجز السحريّ…]
أنا، التي درستُ القوانين، وسجلّات الطلّاب، وكتاب الوحوش، شعرتُ بالذهول.
لحظة، ظهور وايفرن في مدرسة للسحرة؟!
الوايفرن : هو كائن أسطوري شبيه بالتنين مع أجنحة وقدمين وذيل لكنه بدون أرجل أمامية وهو مختلف عن التنين العادي
— ترجمة إسراء
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"