الفصل 182 : حُبّ أورفيوس ²¹
“……!”
“ما زال أورفيوس بداخلي.”
طالما أن أرسين لا يزال حيًّا، فإنه قد يستيقظ في أي لحظةٍ ويقوم بأفعالٍ مروّعة تجاه كيليان.
ولم يشأ أرسين أن تتكرر تلكَ المأساة مرةً أخرى.
“لا يهمّني!”
قال كيليان، وقد انهارت ملامحهُ كالأطفال.
“لا يهمّني ما الذي في داخلك، طالما أنك بجانبي، فهذا يكفيني.”
كانت كلماته نابعةً من أعماق قلبه.
لقد كان كيليان يُحبّ أرسين إلى ذَلك الحد، وكان أرسين يُبادله الشعور.
ولأجل ذلك…
“أنا أكرهُ نفسي.”
“……!”
“لم أستطع أن أُقدّم لك شيئًا طوال حياتي، ولا أريد أن أكون خطرًا عليك أيضًا. لا أُريد ذلك.”
بدأ وهجٌ ذهبي باهت يتوهّج من جسد أرسين.
لم تكُن تلك قوة أورفيوس.
بل كانت سحرًا يمتلكه أرسين فون أورفيوس منذ ولادته.
حينها خرج أورفيوس الذي كان قد هرب إلى الداخل.
“توقّف، أرسين!”
قال أورفيوس من فم أرسين.
“هل تعرف كم كان صعبًا أن أُبعث من جديد؟! وتريد مني أن أعود إلى ذلك الظلام مجددًا؟!”
“لن أدعك تذهب وحدك. فلنذهب معًا.”
هزّ كيليان رأسه بوجهٍ شاحب.
“لا، لا تذهب!”
ابتسم أرسين باتجاه كيليان.
“كُن سعيدًا، يا كيليان.”
كانت ابتسامةً دافئة مفعمةً بالحب.
غمر الضوء الذهبي الساطع المكان بأكمله.
وحين اختفى ذلك الضوء، عاد كيليان وأرتيا إلى الواقع.
كان التاج مطروحًا على الأرض، ومن خلفه الناس المتجمّدون في أماكنهم.
وفي وسطهم، كان أرسين ملقًى على الأرض.
“أخي!”
ركض كيليان نحوه واحتضنه.
كان جسده باردًا كالثلج، ونَفَسُه قد توقف.
لم تكن حالته مثل المرات السابقة التي شارف فيها على الموت.
لقد مات أرسين.
“آآآاااه!”
صرخ كيليان كوحشٍ مجروح.
‘لا، يمكنني إنقاذه.’
جمع كيليان ما تبقّى من سحره وأرسله إلى أرسين، لكن السحر ارتدّ عنه قبل أن يلمسه حتى.
حينها فقط أدرك الحقيقة.
السحر الأخير الذي استخدمه أرسين…
كان تعويذة تُنهي حياته وترفض العودة للحياة مجددًا.
“أخي… أخي…!”
انفجر كيليان بالبكاء، مناديًا أخاه كما لو كان طفلًا صغيرًا.
نظرت أرتيا إلى ذلك المشهد بحزن، ثم اقتربت منه واحتضنته بحذر.
كانت تأمل أن تتمكن من تقاسم حزنه ولو قليلًا.
***
طُرد جميع النبلاء الذين كانوا حاضرين في ذلك المكان.
ما رآه النبلاء لم يكن سوى أرتيا تُؤذي نفسها أمام كيليان، ثم يقوم هو بشفائها بقوته السحرية.
أما ما جرى في عالم أورفيوس العقلي، فلم يره أحد.
لذا كان النبلاء في حيرة.
“ماذا حدث بالضبط في مراسم التتويج؟”
“ألم تكُن السيدة إيدينبرغ هي من خلّصت الأمير كيليان من لعنةٍ ما؟”
“ولماذا تُوفي الأمير أرسين؟”
انتشرت شائعاتٌ عديدة، مثل أن ساحرًا من دولةٍ أجنبية استهدف كيليان وأرسين، أو أن الإمبراطورة ألقت لعنةً على الإمبراطور الراحل وكيليان.
لكن لم يكُن لدى أحد إجابةٌ دقيقة.
لأن أبواب القصر الإمبراطوري، التي تحتوي على الحقيقة الوحيدة، أُغلقت بإحكام.
لم يكن أحدٌ قادرًا على الدخول، ولا الخروج.
بعد موت أرسين، غرق كيليان والإمبراطورة في حزنٍ عميق، فلم يعودا قادرين على فعل أي شيء.
والتي اعتنت بهما كانت أرتيا.
ولم يُبدِ أحدٌ في القصر اعتراضًا على ذلك.
فحتى وإن لم يكن أحد يعرف ما الذي جرى بالتحديد في يوم التتويج، فإن أرتيا قد أنقذت كيليان من قوةٍ ما، وذلك كان واضحًا للجميع.
وفوق كل شيء، كانت تجمعها علاقةٌ خاصة بكيليان.
ولإثبات ذلك، تبِعها نوكتورن، خادم كيليان، بشكلٍ طبيعي.
“جلالة الإمبراطورة تناولت الدواء، وقد نامت أخيرًا.”
فبعد موت أرسين، فقدت الإمبراطورة وعيها في الحال.
ثم استيقظت باكيةً، تُريد رؤية أرسين بأيّ ثمن. وحين رأت جثته، فقدت وعيها مجددًا.
وعندما سمعت أرتيا من الطبيب أن الإمبراطورة تعرّضت لصدمةٍ كبيرة وتحتاج إلى الراحة، طلبت منه أن يُعطيها مهدئًا.
ثم قالت وهي تنظر إلى الإمبراطورة التي نامت بعينين متورّمتين من كثرة البكاء.
“ليكن بجانب جلالة الإمبراطورة دائمًا وصيفةٌ واحدة على الأقل، وتخلّصوا من كل الأشياء الحادّة أو الحُليّ الموجودة في الغرفة.”
فقد يكون وقع الصدمة لفقدان ابنها الحبيب دافعًا لها لإيذاء نفسها.
أومأ نوكتيرن برأسه، وقد فهم مقصد أرتيا.
وأثناء خروجهما من جناح الإمبراطورة وسيرهما في الردهة، سألها نوكتيرن.
“ألستِ تُحمّلينني المسؤولية؟”
اتّسعت عينا أرتيا دهشة.
“عن ماذا؟”
“كنت أعلم أن سموّ الأمير كيليان كان واقعًا تحت تأثير غسيل الدماغ، ومع ذلك أطعتُ أوامره دون اعتراض.”
“آه…”
تأمّلت أرتيا نوكتورن مليًّا ثم قالت:
“أورفيوس بحث عني بكل ما أوتي من جهد حتى أصدر أمرًا بإلقاء القبض عليّ، لكنه لم ينجح.”
فالكوخ الذي كانت أرتيا تختبئ فيه، كوخ شارلوت، كان يقع على سفح جبل بعيدًا عن العاصمة، لذا لم يكن العثور عليه بالأمر السهل.
ولو تحرّكت شبكة الفئران التابعة لكيليان للبحث عنها، لتمّ اكتشافها فورًا.
لكن الفئران لم تتحرك.
لأن نوكتورن، مَن كان ينقل أوامر كيليان، لم يصدر أي توجيهٍ بذلك.
“أعلم أن سيّد أليهاس حماني ضمن استطاعته. أشكرك على ذلك.”
اتّسعت عينا نوكتورن من كلمات الامتنان، ثم عبس قليلًا.
“يا سيدتي، إنك تملكين قدرةً تجلعين بها حتى أمثالي يشعرون بالخجل.”
“من حسن الحظ أن مَن اختارها سموّ الأمير كانت أنتِ.”
وقد لمعت في عينيه لأول مرةٍ نظرات احترامٍ لأرتيا.
دخلت أرتيا الغرفة التي فتحها لها نوكتورن.
في الغرفة المعتمة، جلس كيليان على طرف السرير بملامحٍ شاردة.
لم يعُد ذلك الأمير المجنون الذي لا يخاف شيئًا في العالم، بل بدا كطفلٍ مجروح.
أدار رأسه ببطء نحو أرتيا، ومدّ يده إليها.
ابتسمت أرتيا بلطف وضمّته إلى صدرها. التقى دفء جسديهما في غرفةٍ هادئة، وكأنهما وحدهما في هذا العالم.
بعد مرور وقتٍ طويل، تحدّث كيليان.
“كان أخي، منذ أن كنا صغارًا، يرغب في تقديم كل شيءٍ لي. لكنه كان يشعر بالحزن لأنه لا يملك شيئًا يمنحني إياه.”
لكن ذلك لم يكن صحيحًا.
فهو وحده مَن أحبّني حين لم يحبّني أحد.
رغم أنه امتلك كل شيء في هذا العالم، لم يحظَ يومًا بحب عائلته، لذلك كانت محبة شقيقه له مصدر سعادةٍ له. كانت تجلب له الفرح والبهجة.
امتلأت عينا كيليان بالدموع. وكذلك عينا أرتيا.
ضمّته أرتيا إلى صدرها وقالت:
“سأحبّكَ أنا من الآن فصاعدًا.”
سأجعلك سعيدًا.
سأكون بجانبك.
توالت كلمات أرتيا دون توقّف.
كل كلمةٍ حملت معها عزيمةً صلبة ومحبّةً دافئة.
وبكى كيليان في أحضانها.
لولا وجود أرتيا، لما تمكّن من تحمّل هذا الألم.
***
في صباح اليوم التالي، استيقظت أرتيا وعيناها منتفختان من كثرة البكاء. ثم اتّسعت عيناها دهشة.
فكيليان، الذي كان يبدو شاردًا حتى الأمس، كان يقف مرتديًا بدلته السوداء الرسمية.
ورغم أن وجهه النحيل لم يتغيّر، إلا أن بريق عينيه الذهبيتين كان مختلفًا تمامًا عن الأمس.
“هل أنت بخير؟”
سألته أرتيا بقلق.
“لست بخير، لكنني سأتوقّف عن التذمّر. لأنه أمرٌ مُخزٍ.”
أرادت أرتيا أن تقول له إن ذلك ليس أمرًا مخزٍ، لكنها لم تقل شيئًا واكتفت بالابتسام.
فهي سُرّت لرؤيته وقد استعاد جزءًا من حيويته بعد أيام.
وكان أول ما فعله كيليان بعد مغادرته غرفة النوم هو البدء بالتحضير لجنازة أرسين.
لم يكتفِ بإصدار التعليمات إلى الخدم، بل تابع كل شيء بنفسه.
وفي الليلة السابقة للجنازة، توجّه كيليان إلى غرفة أرسين.
كان أرسين مستلقيًا على السرير بعينين مغمضتين.
يبدو كأنه نائم، لكنه في الحقيقة جُهّز بطريقةٍ تمنع تحلّله.
إلى جانبه جلست الإمبراطورة.
“انظر، يا أرسين. جلبتُ معي كتابًا جديدًا. لنقرأه معًا.”
بعدما عانت من نوبات بكاء وإغماء متكررة، بدأت الإمبراطورة تتصرف وكأن أرسين لا يزال حيًّا.
وباتت لا ترى أي شخص سواه.
وكأن أرسين وحده من بقي في عالمها.
ظلّ كيليان يراقب هذا المشهد بصمت، ثم تحدث لوصيفة الإمبراطورة.
“سندفن نعشًا فارغًا أثناء الجنازة. وسنُبقي جثمان شقيقي هنا ما دامت والدتي ترغب بذلك. فاعتني بها جيدًا.”
أومأت الوصيفة التي جاءت من مسقط رأس الإمبراطورة بانحناءة وهي تبكي.
“أشكرك على رحمتك، يا جلالتُك.”
ثم نظر كيليان مجددًا نحو الإمبراطورة وأرسين.
“أرسين، ألا تشعر بأي ألمٍ اليوم؟ يا لسعادتي. أتمنّى لو كانت كل الأيام هكذا…”
ابتسمت الإمبراطورة ابتسامةً مشرقة.
وأرسين أغمض عينيه بسلام.
هذان الشخصان، اللذان كانا ذات يوم أغلى ما يملك، لم يعودا في عالمه الآن.
رغم أن قلبه كاد ينفطر، لم تذرف عيناه دمعة واحدة. بل وقف شامخًا.
لأن أرتيا كانت إلى جانبه.
“كوني سعيدة، يا أمي.”
حتى وإن كان ذلك في حلمٍ صنعتُه لنفسها.
وبهذه الكلمات، غادر كيليان الغرفة.
***
فُتِحت أبواب القصر الإمبراطوري، التي بقيت مغلقة طويلًا، وأُقيمت جنازة أرسين.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《التليغرام》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 182"