الفصل 173 : حُبّ أورفيوس ¹²
تذكرت شارلوت صورة أرسين كما رأته في عيني كيليان والإمبراطورة.
كانت مشاعرهم عميقة، بينما صورة أرسين بدت باهتةً بالكاد تُرى.
‘هل لأن حياته شارفت على النهاية؟’
لو نظرتُ إليه، فقد لا أجد وسيلةً لعلاجه.
لكن ما إن نظرت إلى كيليان بجانبها حتى عبُست حاجبيها.
فوجهه الوسيم، الذي لطالما بدا باردًا إلى ما لا نهاية، كان يحمل مشاعر مليئةً بالحنان.
تنهدت شارلوت في سرّها.
‘أنا ضعيفةٌ أمام حزن الوسيمين…’
‘حسنًا، بما أنني وصلتُ إلى هنا، سأقرأ كل ما فيه حتى آخر خصلة من شعره.’
وقفت شارلوت في مكانها بعزمٍ جديد.
كان في عمق الغرفة الواسعة سريرٌ كبير، تُحيط به ستائرٌ تخفي ما بداخله.
“أخي، لقد جلبت الساحرة التي أخبرتكَ عنها منذ مدة.”
“هممم.”
صدر صوتٌ ضعيف من خلف الستارة، بالكاد يُسمع، وكأن صاحبه سيتلاشى في أية لحظة.
وعندما أزاح كيليان الستارة، ظهر أرسين.
رفعت شارلوت رأسها بثباتٍ ونظرت إليه.
“مرحبًا، أرسين. بما أن إنهاء الأمر بسرعة سيكون أريح لنا، فسأبدأ فورًا.”
التقت عينا شارلوت بعيني أرسين الذهبيّتين الباهتتين.
وسرعان ما بدأت تقرأ الآثار التي تركتها روحه.
‘ما هذا…؟’
في العادة، يجب أن تكون روح شاب في الخامسة والعشرين مليئة بعدد لا يُحصى من الذكريات.
لكن روح أرسين كانت بيضاء تمامًا، كصفحةٍ جديدة لطفلٍ حديث الولادة.
وكان كيليان وحده فقط من يسكن تلك البياض.
كيليان وهو يبتسم.
كيليان وهو يبكي.
كيليان وهو منزعج.
لم ترَ من قبل روحًا ممتلئة بشخصٍ واحد فقط.
وما كان أكثر إدهاشًا، هو أن كل تلك المشاعر لم تحمل أي أثر للتعلّق المرضي أو الظلام، بل كانت هادئة، بريئة، وغير مؤذية.
كما لو كانت زهرة تُحب الشمس.
‘إنه طفل طيب بطريقةٍ لا تُصدق…’
تجاوزت شارلوت اللحظة التي التقى فيها أرسين بكيليان لأول مرة، فعادت البياضات لتملأ الرؤية.
لكنها لم تتوقف، بل توغلت أكثر في العمق.
علّها ترى شيئًا صغيرًا، أي شيء، يُمكنه أن يساعد أرسين.
حتى وصلت إلى اللحظة التي وُلد فيها أرسين.
ثم…
“آآآه!”
صرخت شارلوت وتهاوت من شدّة الصدمة. لولا أن كيليان أمسك بها، لكانت سقطت أرضًا.
نظرت شارلوت نحو أرسين وهي تتصبب عرقًا باردًا.
“……؟”
رمش أرسين ببطء.
وبوجهٍ بريء كأنه يقول: ما الخطب؟
وذلك زاد قشعريرة شارلوت في كامل جسدها.
قالت وهي ترتجف:
“أُريد الخروج.”
ثم صرخت وهي تمسك بذراع كيليان.
“دعني! دعني أخرج فورًا!”
تردّد كيليان للحظة.
فهي الساحرة الوحيدة التي قد تتمكن من إنقاذ أرسين.
وليس من مصلحته أن يُثير غضبها.
‘على أية حال، فجرذان القصر يراقبونها الآن، ولا يُمكنها الهرب.’
وبعد أن توصّل إلى قراره، أطلق سراح يدها.
فخرجت شارلوت من الغرفة دون أن تلتفت خلفها.
وفي لحظة، لم يتبقّ في الغرفة الفسيحة سوى كيليان وأرسين.
زفر كيليان بهدوء ونظر إلى أخيه.
“هل أنت بخير؟ لم تُفزع، أليس كذلك؟”
ابتسم أرسين ابتسامة باهتة.
“أنا بخير. أظن أنها مَن خافت أكثر مني.”
كان وجه أرسين خاليًا من الذعر تمامًا.
الناس جميعًا، بل وحتى الإمبراطورة التي تخشاه بشدة، كانوا يرونه ضعيفًا.
لكن ذلك لم يكن إلا من الناحية الجسدية.
فأرسين لم يكن يخاف شيئًا، ولا يندهش من شيء. بل كان يستقبل كل شيء بهدوء.
حتى موته.
نظر إلى كيليان الذي كانت عيناه الذهبيتان غارقتين في الحزن.
“الكل يتمنّى لو أنني أختفي، فلماذا تصرّ على إبقائي حيًا؟”
“لأنك أخي.”
كان أرسين ثمينًا.
وتمنّى كيليان له السعادة.
أراد له أن يخرج من الظلام بقدميه، ويقف في النور، ويشاهد العالم من الأعلى.
كإمبراطورٍ يتلألأ.
وفجأة، اختفت الابتسامة من وجه أرسين.
“ومتى قلتُ بإنني أريد أن أكون إمبراطورًا؟”
“قلت.”
عندما لم يكن قد مرّ وقتٌ طويل على لقائه بأرسين، كان الآخر دائمًا يقرأ الكتب.
نظر كيليان إلى غلاف أحد الكتب وعبس.
“آه، هذا كتاب في علوم الحكم! المعلم لم يوبخك حتى، فلماذا تقرأ كتابًا مملًّا كهذا؟”
“لأنني يجب أن أصبح إمبراطورًا حين أكبر.”
وقبض أرسين على قبضته الصغيرة بعزم.
“سأجعل إمبراطورية أورفيوس أغنى وأقوى إمبراطورية في العالم. كي يكون جميع من يعيش على هذه الأرض سعداء.”
تلك العيون الذهبية الباهتة، في تلك اللحظة فقط، كانت تتلألأ كالنجوم.
وكان الطفل كيليان يعلم.
أخي يريد أن يصبح إمبراطورًا.
ليس لأن أحدًا أمره بذلك، بل بإرادته هو.
لكن ملامح أرسين تجمّدت.
“كنت صغيرًا ولا أعرف شيئًا، كانت كلماتٍ جوفاء. كيف يمكنني أن أصبح إمبراطورًا بهذا الجسد؟”
“يُمكنك ذلك.”
“…….”
“الساحرة قالت إن لدي قوةً سحرية تقارن بقوة أورفيوس نفسه.”
وفي عينيه الذهبيتين كانت إرادة أقوى من ذي قبل.
“بهذه القوة، سأُعالجك، هذه المرة بالتأكيد.”
ولو توقف الأمر عند هذا الحد، لربما اكتفى أرسين بالشعور بالامتنان تجاه مشاعر أخيه.
لكن ما قاله بعد ذلك جعل وجه أرسين يتجمّد كالجليد.
“وحين تتعافى، سأُعلن تنازلي عن حقي في وراثة العرش.”
توقف أرسين عن التنفس للحظة قبل أن يفتح فمه بصعوبة.
“ما معنى هذا الكلام؟”
“لقد وافقت فقط لأن والدي، والعالم كلّه، قالوا إنني يجب أن أصبح الإمبراطور. لكنني، في الواقع، لم أرغب بذلك يومًا.”
“…….”
“سأبقى إلى جوارك، أُساعدك كإمبراطور. هذا ما أُريده حقًا.”
كان هذا حديثًا تبادله الأخوان في طفولتهما، كمزحة بعيدة، قبل زمنٍ بعيد.
لكن أرسين لم يعُد قادرًا على الابتسام كما في الماضي.
تلاشت ملامحه، وتغيّرت الأجواء.
خرج صوتٌ بارد من وجهه الشاحب كدميةٍ من الشمع.
“لا تقل كلامًا لا تعنيه. أنت فقط تريد أن تتخلص مني وتذهب إلى تلك المرأة، أليس كذلك؟”
كان صوت أرسين هذه المرة حادًّا بشكلٍ لم يسبق له مثيل، حتى أن نظرته اللطيفة عادةً كانت تحمل عداءً.
قال لأخيه، الذي اتسعت عيناه من الدهشة.
“لن أسمح بذلك.”
لكن كيليان، وبعد لحظة من الارتباك، تحدث بصوت منخفض.
“الأمر ليس متعلقًا بسماحكَ أو رفضك.”
“ولِمَ لا؟ هل لأنني أضعف من أن أقارن بك، أنت الذي تشع كالشمس، بينما أنا لا أُشبه سوى جثة؟”
“لم أقصد ذلك…”
“لهذا كنت أكرهك. في كل مرة أنظر إليك كنت أفكّر: لو أنني وُلدت بجسدك، كم كنت سأكون سعيدًا!”
كانت المرة الأولى التي يسمع فيها كيليان الحقيقة المؤلمة من أخيه، وقد كانت كخنجرٍ طعن قلبه.
وبدأت الدموع تتجمع في عيني أرسين.
“لكن الكراهية لم تدم طويلًا. لأنني كنت أحبك أكثر من أن أكرهك.”
ولهذا، بدأ أرسين يحلم بحلمٍ مختلف.
“يجب أن تصعد أنت إلى العرش بدلاً عني. وتُكمل بناء هذه البلاد حتى الكمال، كيليان فون أورفيوس!”
وفي تلك اللحظة، تلألأ نورٌ ساطع من عيني أرسين الذهبيتين الباهتتين.
وكان موجّهًا نحو كيليان.
***
قاعة مجلس النبلاء.
رغم أنها بالكاد جلست على المقعد، كانت مقاومة النبلاء لأرتيا شديدة جدًا.
حتى أن بعضهم كان ينظر إليها وكأنه سيفترسها في أية لحظة.
لكن أرتيا حافظت على جلستها المستقيمة ووجهها الهادئ طيلة الاجتماع، معبّرةً عن رأيها بكل ثقة.
بوصفها وكيلةً عن عائلة إيدينبرغ.
وعندما انتهى الاجتماع، قال الكونت غولدجوس.
“أحسنتِ اليوم. قد يرفض البعض كونكِ امرأة، لكن لا أحد يستطيع أن يُشكك في كفاءتك كوكيلةٍ للعائلة.”
ضحكت أرتيا بارتياح.
وعندما عادت إلى القصر، ألقت بنفسها على السرير دون أن تُغيّر ملابسها.
جسدها كله بدا مرتخيًا بعد يومٍ طويل من التوتر.
وبينما كانت مستلقية كغطاء مرميّ على السرير، نظرت إلى نافذة الغرفة.
‘أريد أن أرى سموّه بسرعة.’
أرادت أن تحكي له كل ما حدث اليوم، بالتفصيل من البداية إلى النهاية.
وكان كيليان، كما اعتادت، سيصغي لكل كلمة منها وكأنها لا تحتمل التأجيل.
فقط التفكير في وجهه الجميل وهو يركّز عليها بكل جوارحه، جعل قلبها يخفق بشدة.
‘أتساءل كيف كان لقاء السيّدة شارلوت مع الأمير أرسين. آمل أن تكون الأخبار جيدة.’
لكن، وعلى خلاف ما تمنّت، لم يأتِ كيليان.
سهرَت أرتيا طوال الليل بعينين مفتوحتين، وعندما بزغ نور الصباح، عبست.
‘لماذا لم يأتِ؟’
بدأ القلق يتسلّل إلى قلبها، خشية أن يكون قد حدث شيء.
لكنها لم تشأ أن تذهب إلى القصر الملكي لمجرّد غيابه ليومٍ واحد، فقد يُسبب ذلك له المتاعب.
‘سأنتظر.’
حاولت أرتيا أن تُهدّئ نفسها، وقضت اليوم بصبر.
لكن كيليان لم يأتِ ذلك اليوم أيضًا، ولا في اليوم التالي.
ومع مرور الوقت، زادت مشاعر القلق والاضطراب.
وفي اليوم الثالث، قرّرت أرتيا أنها لم تعُد قادرةً على الانتظار بهدوء.
‘سأذهب بنفسي لأرى سموّه وأعرف ما الذي يحدث.’
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《التليغرام》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 173"