البحث عن زوج للدوقة - 145
الفصل 145 : كسر البيضة والخروج منها ²⁸
نظرت أرتيا إلى ذَلك المشهد بفخرٍ.
“ما رأيُكَ في التمثيل؟”
في كل لقاءٍ بينهما، كانت أرتيا تطرحُ على لوكا الكثيرَ مِن الأسئلة.
في البداية، كان مِن الصعبِ على لوكا حتى إعطاءُ إجاباتٍ قصيرةٍ ومُباشرة، لكنهُ تطوَّر كثيرًا الآن.
حاول لوكا جاهدًا ترتيبَ أفكارهِ وأجاب بصدق.
“إنَّه ممتعٌ. سماعُ الثناءِ يُشعرني بالسعادة. أُريدُ أنْ أُصبحَ أفضل.”
لَمْ يكُن ذَلك كلامًا نابعًا مِن مراقبةِ الآخرين أو السعيِ للحصولِ على رضاهم.
بل كان نابعًا مِن قلبه.
تنفَّست أرتيا بارتياح.
“لقد أجبرتُكَ على التمثيل. كنتُ قلقةً مِن أنْ يكونَ الأمرُ مُرهقًا لكَ، لكن لا يُمكنكِ تخيُّل مدى ارتياحي لرؤيتكَ تُبلي بلاءً حسنًا.”
“…….”
كانت أرتيا تدفعُ لهُ راتبًا يفوقُ استحقاقه بكثير.
كما قدَّمت لهُ بيئةً غنيةً ومريحةً للغاية.
وأتاحت لهُ فرصة خوضِ تجربةٍ فريدةٍ بالوقوفِ على خشبة المسرحِ إلى جانبِ أفضل الممثلين.
ومع ذَلك، لَمْ تُظهر أرتيا يومًا أيَّ غرورٍ أو طلبت الامتنان مِن لوكا.
فتح لوكا فمه ُبتردُّد، وعلى وجههِ ملامحُ الحيرة.
“لماذا تُحسنين إليَّ بهَذا الشكل؟”
كان هَذا أول سؤالٍ يطرحهُ لوكا على أرتِيا.
لأنكَ كودرانيٌّ بلا والدين… أنتَ مسكينٌ جدًا.
حتى لو كان هَذا هو جوابُها، كان لوكا سيعتبرُه ردًّا مقبولًا يستحقُّ الامتنان.
لكن الكلمات التي خرجت مِن شفتي أرتيا كانت مُختلفةً تمامًا عمَّا توقَّعه.
“أنا لَمْ أُحسنْ إليّكَ أبدًا.”
“……!”
“إنْ كنتَ تشعرُ أنكَ حصلتَ على شيءٍ ما، فذَلك لأنكَ استحققتَهُ بجهدِكَ.”
مدَّت أرتيا يدها.
ولَمْ تلبثْ يدُها البيضاءُ والناعمةُ أنْ لامستِ الشعرَ الأحمرَ فوق رأسه.
بعثرت أرتيا خصلاتهِ الكثيفةَ وهي تبتسمُ بإعجابٍ.
“وفي المُستقبل، ستُحققُ المزيدَ وستحصلُ على أشياءَ أكثر. لأنَّ لديكَ الموهبةَ التي تستحقُّ ذَلك.”
“……!”
ذَلك الكودراني القذر.
أحمقٌ لا يعرفُ سوى قول (نعم، نعم).
وضيعٌ لا يملكُ سوى جسده.
ذَلك الحقيرُ لَن يكونَ سوى حيوانٍ أليفٍ لنبيلةٍ ما، وبمُجرد أنْ يهرمَ ويصبحَ بلا فائدةٍ، سيتمُّ التخلِّي عنه.
كلُّ تلكَ الكلماتِ السامَّةِ التي تراكمت في داخله، غسلتها عبارةُ أرتيا وكأنها لَمْ تكُن.
اغرورقت عينا لوكا بالدموع.
شعرَ بالارتباكِ ومسح دموعَهُ بيدهِ على عجل.
“آ- آسف!”
“لا عليكَ، إنْ شعرتَ برغبةٍ في البكاء، فابكِ حتى ترتاح.”
تردَّدت أرتيا للحظة، مُتسائلةً إنْ كان عليها تركُه وحده، لكنها في النهاية ربَّتت على ظهرِه.
رغم أنَّ ظهره كان عريضًا أكثرَ مِن أغلب الرجال البالغين، إلا أنَّ جوهره لَمْ يكُن سوى فتى لَمْ يتجاوز الثامنةَ عشرةَ مِن عمره.
بلمسةٍ لطيفةٍ، تفجَّرت دموعُ لوكا بغزارةٍ.
“كم هَذا مُحرج….”
استغرق الأمرُ وقتًا طويلًا حتى توقفَ عن البكاءِ أخيرًا، ثم عضَّ شفتَه وعيناه مُحمرَّتان.
ضحكت أرتيا، فقد بدا لها لطيفًا.
“لوكا.”
“نعم.”
ما قدَّمته أرتيا كان دُميةً صغيرةً على شكلِ أرنب.
رغم أنَّ القماشَ الباهتَ كان يُوحي بمرورِ الزمن، إلا أنَّ الدُميةَ كانت نظيفةً وذاتَ رائحةٍ زكية، وكأنها قد حُوفظ عليها بعناية.
“طلبتُ مِن بيبي أنْ تُحضرَها. هَذهِ الدُمية كنتُ أحتضنُها وأنا صغيرةٌ أثناءَ النوم، ولديها قدرةٌ خاصةٌ جدًّا.”
خفضت أرتيا صوتَها كما لو أنَّها تكشفُ سرًّا خطيرًا.
“إنَّها تستطيعُ التهامَ الكوابيسِ.”
لَمْ تكُن دُميةً صُنعت على يدِ ساحر، ولَمْ تخضع لأيِّ تعويذاتٍ خاصَّة.
كل ما في الأمرِ أنَّ أرتيا، حين كانت طفلةً تخشى النوم وحدها، كانت تتمتمُ ببعضِ التعاويذِ البريئة.
ورغم ذَلك، فقد كان للدُمية تأثيرٌ قويٌّ عليها.
“إنْ نِمتَ معها، فَلَن ترى أحلامًا مُخيفةً بعد الآن.”
“……شكرًا لكِ.”
عندما عاد لوكا إلى غرفته، أراد وضعَ الدُميةِ بجانبِ وسادته، لكنَّه بدلًا مِن ذَلك، ضمَّها إليّه بلُطف.
في ظلام الغرفة الدامس، خطرت لهُ تلكَ العينان الذهبيتان التي حاول نسيانَها، لكنها لَمْ تعد مُرعبةً كما كانت مِن قبل.
‘هل هَذا بفضل دُمية الأرنب؟’
أم بسبب الشاي الحلو والحلوى التي تناولَها قبل قليل؟
أم أنَّ السبب…؟
ما إنْ خطرت أرتيا في باله، حتى شعر بوخزةٍ في صدره.
بوجهٍ مُحمرّ، ضمَّ لوكا دُمية الأرنب إليّه بحنان.
* * *
مكتب شركة إيدينبرغ للإنتاج.
بمُجرد أنْ فُتِحَ الباب، استدار لوكا بسرعة.
“ياااه.”
دخل ميخائيل مُلقيًا تحيةً مرِحةً لا تُناسبُ ملامحه الباردة.
“أيًها الصغير، هل كنتَ تتمرَّنُ بجد؟”
جمع لوكا يديهِ وأجاب بصوتٍ عالٍ.
“نعم!”
ابتسمت ساندرا بمُكرٍ، كقطةٍ مشاكسة.
“هو يتدربُ بجدٍ، لكنَّ ذهنه شاردٌ تمامًا. لماذا تواصلُ النظرَ إلى الباب؟ هل تنتظرُ أحدًا؟”
اتَّسعت عينا لوكا بفزعٍ ولوَّح بيديهِ نافيًا.
“لا! لا أحد!”
“إنكارُكَ بهَذهِ الطريقة يجعلُ الأمرَ أكثرَ ريبةً.”
اقترب ميخائيل مِن ساندرا، التي كانت تضحكُ بخُبثٍ، وأمسكَ شفتيها بإصبعيه.
“لا تُضايقي الصغير.”
“أنا لا أُضايقه، بل أُسلِّيه.”
“ما تعتبرينهُ تسليةً هو إزعاجٌ بحدِّ ذاته.”
“أبدًا! سأُريكَ ما معنى الإزعاج الحقيقي.”
وبينما كان الاثنان يتشاجران، انتهز لوكا الفرصةَ وسأل رام.
“أيُها المُخرج، هل سيأتِيَ السيدة اليوم أيضًا؟”
أجاب ران، الذي تدلّت الهالات السوداء تحت عينيهِ حتى فكِّه.
“آه، إنَّها مشغولة. على الأرجحِ لَن تستطيعَ الحضور بعد الآن. فالعملُ كمنتجةٍ مليءٌ بالمهام المُرهقة.”
في البداية، كانت تأتي كثيرًا لمناقشة الآراء واتِّخاذ القرارات، لكن بعدما استقرَّت المسرحيةُ على المسارِ الصحيح، فوَّضت كل ما يخصُّ العروضَ إلى رام وانهمكت في أعمالها المُتراكمة.
‘لهَذا السبب لَمْ تنامُ حتى الفجرِ منذُ أيام….’
بمُجرد أنْ تذكر لوكا المظهرَ المُتعبَ الذي كانت عليهِ أرتِيا، احمرَّ وجههُ بشدَّة.
نظر إليّهِ رام بعيونٍ متَّسعةٍ وصاح.
“هذا هو، لوكا!”
“نعم؟”
“تلكَ النظرةُ التي ظهرت في عينيكَ الآن! إنَّها نفسُ نظرةِ شاين حين يقعُ في الحب!”
بمُجرَّد سماعهِ كلمةَ حب، ازداد وجهُ لوكا احمرارًا.
لكنَّ رام تجاهلهُ تمامًا، وبدأ يلوِّحُ بجسدهِ النحيل بحماسٍ شديد.
“جيِّد! تذكَّر هَذهِ النظرة، ولنُعيد التمرين مرَّةً أخرى!”
“نعم!”
لكنَّه لَمْ يستطعْ منعَ نفسهِ مِن إلقاءِ نظرةٍ خاطفةٍ على الباب، مُتمنِّيًا لو كان مفتوحًا.
***
كما قال رام، كانت أرتيا تُعاني مِن يومٍ حافلٍ بالأعمال.
أولُ مكانٍ توجَّهت إليّهِ كان قصرَ داليا.
كانت داليا، التي لَمْ ترَها منذُ فترة، تبدو أكثرَ حيويةً مِن المعتاد.
“لا يزالُ المشهدُ الذي رأيتُه قبل أيامٍ عالقًا في ذهني.”
منذُ فترةٍ وجيزة، كانت داليا قد شاهدت تدريباتِ المُمثِّلين.
وبما أنَّ هُويتها كمؤلفةِ قلبُ الدوق الشمالي المُشتعل كانت سِرًا تامًّا، فقد حضرت مُرتديةً قناعًا خاصًّا.
وحين شاهدت أداءَ المُمثِّلين، شعرتْ بإحساسٍ أشبهَ بالبرقِ يُصيبُها.
“لَمْ أتوقَّع أنْ يكونَ مُشاهدةُ قصتي تتجسَّدُ على أرضِ الواقعِ أمرًا بهَذهِ الإثارة.”
ضحكت أرتِيا عند سماعها كلماتِ داليا الصريحة.
“أنا أيضًا أشعرُ بالمِثل. في كلِّ مرَّةٍ أرى شيئًا لَمْ يكُن موجودًا مِن قبل يتجسَّدُ أمامي، أشعرُ بفيضٍ مِن المشاعر.”
“هَذا هو العمل الرائع الذي كنتِ تقومينَ بهِ طوال هَذا الوقت، أليسَ كذلك؟ إنكِ مذهلةٌ بحق!”
“ها هي تُفتنُ شخصًا آخر مُجددًا….”
لكن ما كان مُخيفًا أكثرَ هو أنَّ أرتِيا لَمْ تكُن تقول ذَلك بدافعِ المُجاملة، بل مِن قلبها.
احمرَّت أطرافُ أذني داليا، ثم عقفت حنجرتها.
“بالمُناسبة، تم تحويل بعضِ حوارات الشخصيَّات في المسرحيَّة إلى أغانٍ، صحيح؟”
في الإمبراطوريَّة، كانت العروضُ المسرحيَّة إما غنائيةً بالكاملِ أو تمثيليَّةً بحتة.
لكن الجمعَ بين الغناءِ والتمثيلِكان أسلوبًا مُقتبسًا مِن عروضِ ريجو.
“لقد تأثرتُ كثيرًا بأصوات المُمثلين، لكنْ هُناك شخصٌ لفتَ انتباهي خاصَّةً… شاين.”
شاينُ كان خادمًا أخرسَ يُحبُّ البطلةَ مِن طرفٍ واحدٍ، وهو شخصيةٌ قوية الأثر، لكنهُ لَمْ يكُن يملكُ أيَّ حوارٍ.
“المُمثل الذي أدَّى دورَ شاين… اسمهُ لوكا، صحيح؟ لديهِ صوتٌ رائع.”
‘هاه؟ ما هَذا الإحساس؟’
شعرتْ أرتيا وكأنها هي مَن تلقَّت المدح، فأضاءَ وجهُها بحُمرّةٍ شديدةٍ وأومأت برأسها مرَّتين.
“صحيح! صوتُ لوكا نقيٌّ كنسيمِ الخريف.”
“لهَذا فكَّرتُ… ماذا لو أضفنا مقطعًا غنائيًّا لشاينِ في نهاية المسرحيَّة؟”
“……!”
اتَّسعت عينا أرتيا دهشةً، بينما قدَّمتْ لها داليا ورقةً كُتِبَ عليها كلمات الأغنية.
كان ذَلك مشهد اعتراف شاين بحُبِّه للبطلة.
“بالطبع، هَذهِ الأغنيةُ ستكونُ في ذهنِ شاين فقط، ولَن تسمعَها البطلة. أظنُّ أنها ستُضيفُ بُعدًا أعمقَ لمشاعره، أليسَ كذَلك؟”
قرأت أرتيا الكلمات، ثم علَّقت بانبهار.
“يبدو الأمرُ رائعًا حتَّى لمُجرد تخيًله!”
أضاءَ وجهُ داليا بسعادة.
“حقًّا؟”
“نعم! أنا واثقةٌ مِن أنَّ الجمهورَ سيشعرُ باندماجٍ عاطفيٍّ هائل. سأتحدَّثُ مع المخرجِ لأتأكد مِن إضافة هَذا المقطع!”
“أنتِ عبقرية هَذا العصر، داليا! إنهُ لشرفٌ عظيمٌ العمل معكِ!”
“يا لهَذهِ المُجاملة اللطيفة….”
انتصبَ أنفُ داليا فخرًا.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة