الفصل 38 : تّحيّةٌ شَّرِسة ⁵
فركتُ عينيّ بقوّة.
“لا تبكِ. لا وقتَ لديّ للبكاء أصلًا.”
في حياتي السّابقة، كنتُ أبكي أحيانًا.
حين أشعرُ بالظّلم أو الحزن… أو لأنّي كنتُ أقلق على جَدّي.
لكنّني في هذه الحياة، أدركتُ أنَّ البكاء لا يُغيّر شيئًا.
وفوق هذا…
‘حين أفكّر الآن، فقد خُنتُ جَدّي في حياتي السّابقة. …على الأقلّ، لا بدّ أنّه شعرَ بذلك.’
كيف كان شعور جدي عندما استيقظ ليجد نفسه مجدّدًا في قصر الدّوق الذي هجره؟
حين بحثَ عن حفيدته الصّغيرة، لا شكّ أنَّ هيوغو ولروزان لم يقولوا له الحقيقة.
“حفيدتك يا سيدي؟ آه، تلك الفتاة التي اختفتْ فور أن أعطيناها بضع نقود؟”
لا بدّ أنّه سمع شيئًا من هذا النّوع.
‘لن أُكرّر هذا الخطأ أبدًا. لذا، لا تبكِ. لا تضعُفي.’
مسحتُ دموعي بعنف، وخرجتُ من المكان.
‘على الأقل، الدّعاء في المعبد هدّأَ قلبي قليلًا.’
عندما حيّيتُ الكاهن الواقف عند مدخل المكان المقدّس، كان يضع الرّداء على رأسه، فحيّاني بعد لحظة تردُّد.
طوال الطّريق إلى متجر الرّهونات، كنتُ أعبثُ بالعقد في يدي.
اشتقتُ إلى جَدّي كثيرًا اليوم.
‘أراهن أنّني سأراه في المنام الليلة.’
لكن…
بمجرّد أن وصلتُ إلى المتجر، كان بانتظاري مشهدٌ صادم.
“هاه…”
أداةُ السّحر مفكوكٌ قفلها.
نافذةٌ مفتوحة لم تكن كذلك.
والمكانُ بأكمله… خالٍ تمامًا من أيٍّ أثرٍ للصّ أو فوضى.
وضعتُ يدي على رقبتي.
‘آه، صحيح.’
‘تلك الأداة السّحرية كانت معطوبةً… اللّعنة…’
اليوم، أحلمُ بلحظة الإمساك باللّص.
***
مصحّة بيلكاتو.
في الطّابق الأعلى من مبنى ضخم، هناك غرفةٌ واحدة مخصّصة لـ “كبار كبار الشخصيات”.
الممرّضة المعيّنة لتلك الغرفة كانت تفكّر.
‘من يكونُ هذا المريض بحقّ؟’
هو عجوزٌ لا شكّ، لكن بنيته الجسدية تقول إنّه قادرٌ على طيّ رجلين أو ثلاثة كأنّهم ورق.
ونظراته…
من نوع النّظرات التي تجعلك تعتذر حتّى دون أن تعرف السّبب.
وذلك ليس كلّ شيء.
لقد دفع أُجرةٍ سنة كاملة نقدًا… دفعةً واحدة!
وطلبَ سرّيّةً تامّةً كذلك.
كلّ هذه المعطيات قادتها إلى استنتاجٍ واحد.
‘إنّه مُرابٍ. بل مُرابٍ مُحترف!’
وهي ترتجفُ من الخوف، فتحت باب الغرفة.
“أأه، وصلتِ. ضعيها واذهبي.”
صوته مخيفٌ أيضًا.
‘حتّى نبرة صوته مهيبة…’
بيدين مرتجفتين، وضعتِ الدّواء الأسود والصّحيفة على الطّاولة، ثمّ تراجعت.
كانت تتمنّى أن تضعها وتهرب، لكنّها كممرّضة لا بدّ أن تقوم بواجبها.
هذا قَدَر الموظّف.
“آسفة، لكن لا بدّ أن أتأكّد أنّكَ تناولتَ الدّواء قبل أن أذهب…”
“آه، صحيح. نسيتُ. ذاكرتي لم تعد كما كانت.”
ضحك بصوته القويّ، فاهتزّت الغرفة.
ضحكةٌ؟ بل زئيرُ نمرٍ ضخم.
رغم هيبته المُخيفة، كان هذا المرابي يُعاني فعلًا من خللٍ في الذّاكرة.
لكنّ حالته لم تكن تسوء، بل على العكس، تبدو أفضل مِمّا كانت.
هل كان ذلك بفضل ذلك الدّواء الأسود العجيب؟
‘أمراض الذّاكرة عادةً لا تتحسّن… فكيف به؟’
ربّما كان يقهر المرض بقوّة إرادته، لا الدّواء.
بينما هي تفكّر، سمعت صوت ابتلاعه للدّواء.
أخيرًا، تستطيع المغادرة.
لكنّها حين رفعت عينيها، لاحظت أمرًا غريبًا.
“أه…”
طريقة تقليبه للصحيفة!
كان يستخدم إبهامه وسبّابته فقط، بقوّةٍ وسرعةٍ مميّزة.
“آه. عادةٌ قديمة… ربما بسبب عدّ النّقود في الماضي.”
‘إنّه مرابٍ بحقّ!!’
“أكّدتُ من تناولك الدّواء! سأذهب الآن!”
خرجت مسرعة، وأُغلق الباب خلفها.
ميكيلّي بقي يحدّق بالباب المغلق، ثمّ أنزل الصّحيفة.
كان يعلم أنّها تظنّه مرابيًا… ولم يُصحّح ظنّها.
ليس يُخفي هويّته.
بل لأنّه كان يراقبها، ويتأكّد من عدم استبدالها لدواءه الأسود بالماء مثلًا.
“……”
انعكسَ وجهه على سطح الدّواء الأسود.
بحثَ ميكيلّي عن ملامح حفيدته في وجهه.
-“جدّي، أعطني ختمك.”
قالت ذلك ببراءةٍ الطّفولة، وبنظراتٍ بنفسجيّة باهتة، تحمل ظلًّا لا يُخطئه قلب الجدّ.
“كنتُ أظنّ أنّها لا تشبهني أبدًا.”
لكنّ عينيها…
تشبهانه كثيرًا.
وكان يتمنّى لو لم تشبهه بشيء.
زفر زفرةً قصيرة، ثمّ فتح النّافذة.
رذاذُ المطر تسرّب من الفجوة الضيّقة.
“…سأفعل ما بوسعي. لذا، لا تقلقي بشأن شيء. ارتاحي فقط، حسنًا؟”
تذكّر ميكيلّي وجه إليشيا وهي تُتمتم: “سأحمي متجر الرّهونات بأيِّ ثمن.”
ابتسمَ بمرارةٍ، ثمّ سكب الدّواء الأسود خارج النّافذة.
طَق—
وضع الكأس الفارغ، ثمّ فكّر في التّاريخ.
“آه، صحيح…”
لا يمكنه مغادرة هذا المكان.
يبدو أنّه مصاب بمرضٍ يُدعى منداكس.
وذلك لأنَّ هذا المرض… لا شفاءَ منه.
الآن، كلّ ما يستطيع فعله هو أن يأمل أن تستخدم إليشيا ما تعلّمَته منه.
كان قد علّمها الكثير.
طرق تقييم المشاعر، إدارة الحسابات، عدّ النّقود بسرعة، كيف تعقد صفقات لصالحها، وكذلك…
“على الأرجح، زارَ كلّ من هيلينا، وإيما، وكريسينتسيانو المحلّ بالفعل.”
علّمها أيضًا كيف تكسب النّاس في صفّها.
وربّما، لم تكن تحتاج لِمَن يُعلّمها ذلك أصلًا.
“كم عدد النّاس الذين استطعتِ أن تجذبيهم يا إليشيا؟”
-“سأحميهُ جيّدًا.”
ما قالته ذات مرّة تردّد في أذنه.
تلك الكلمات التي دُفنت في ذاكرته، باتت الآن واضحة.
“نعم. عليكِ أن تحميه جيّدًا، إليشيا.”
بينما كان يحدّق بالمطر، قال ما لم يستطع قوله في السّابق:
“احمي نفسَكِ.”
هذا كلّ ما أرجوه منكِ.
***
تمّ الإعلان رسميًّا عن تجديد تصاريح الإقامة.
أهل حيّ الرّماد كانوا يعلمون بالأمر، لكنّ ذلك لم يُخفّف من التّوتّر.
“حيّ الرّماد ضمن المرحلة الأولى، وآخر موعد هو منتصف هذه الليلة. لا يُصدَّق.”
قالت إيما، وهي ترتجف من الغضب.
“لكن، على الأقلّ عرفنا قبلها بأيام بفضل إليشيا. هذا أنقذنا.”
“أأنتِ تملكين ضامنًا، أليس كذلك؟”
“نعم. على غير العادة، لديّ علاقاتٌ مع عائلتي. أختي الصّغرى قادمة.”
“تسكن بعيدًا، أليس كذلك؟ كدنا لا نتمكّن من اللّحاق بالمُهلة.”
أثناء تذمّرها، تهلّل وجهها فجأة.
“إذًا، ميكيلّي سيعود بعد طول غياب! اجعليه يمرّ من هنا لو استطاع.”
“…آه، قال إنّه بعيدٌ حاليًّا، ولن يستطيع الحضور في الوقت المناسب.”
“وماذا ستفعلين؟”
“لذا، سأستعين بشخصٍ آخر.”
“آه، فهمت. كنتُ أتوق لرؤية ميكيلّي.”
هزّت إيما كتفيها.
“بالمناسبة، لماذا أتيتِ اليوم؟ لقد اشتريتِ أدواتٍ سحريّة كثيرة سابقًا. هل زاركِ مُرابٍ أو لصّ مجدّدًا؟”
“آه، لا تُذكّريْني… لكن، هذه الأداة كانت معطوبة.”
“معطوبة؟! مستحيل أن يحدث ذلك من متجر إيما!”
ناولتها الأداة السّحريّة وهي مكتئبة، فأمسكتها بقلق.
خرج من طرف أصبعها ضوءٌ بنفسجيّ رفيعٌ كالخيط.
كانت أوّل مرّةٍ أرى فيها أحدًا يستخدم السّحر، فشعرت بالدهشة.
لكن إيما بدا عليها الحيرة.
“همم؟ لا يبدو بها عيب.”
“حقًّا؟ غريب… إذًا لماذا حصل ذلك؟”
بدأتُ أشرح لها ما حدث مع اللّص والفارس البلطجي.
راحت تفكّر، ثمّ رفعت الأداة مجدّدًا.
هذه المرّة، ظهرت رموز هندسيّة عند أطراف أصابعها.
“هممم… آه، فهمتُ الآن. كان هناك تدخّلٌ من الطّاقة المقدّسة.”
“الطّاقة المقدّسة؟”
ذلك اللّص لا يبدو مُقدَّسًا على الإطلاق!
‘لحظة… أيمكن؟’
“كان بحوزة ذلك اللّص أثرٌ مقدّس. انتزعته منه لاحقًا. هل يمكن أن يكون له تأثير؟”
“ربّما… لكنّ الطّاقة التي أشعر بها الآن أكثر مباشرةً. لا تُشبه الأثر المقدّس. بل تُشبه دَلق ماءٍ مقدّس فجأة.”
“إذًا، لا بدّ أنّه كان يُخفي بخّاخ ماءٍ مقدّس! كنتُ أستغرب ارتداءه لتلك الرّداءات الطّويلة.”
إن عاد مرّة أخرى… سأُجبره على خلعها!
بينما أفكّر في أمر فضحه إن عرفه أحد، واصلت إيما كلامها.
“نعم. أقرب إلى ذلك فعلًا. إنّها طاقةٌ مركّزةٌ جدًّا.”
أغمضت عينيها، وتفقّدت الأداة مجدّدًا بطاقتها السّحرية.
ثمّ عبست.
“لكن… ذلك الفارس… همم، غريب.”
“ما الغريب فيه؟”
“غريبٌ، فقط.”
“صدقتِ! حتّى طريقته في الكلام كانت شاذّة. كان يبتزّني بأدب!”
أيمكن للسّحر أن يكشف الطّباع؟
إن كان السّحر يتيح ذلك، فهو مذهل.
“لا، ليس ذلك… بل إنَّ هذا الرّجل يمتلك شيئًا لا ينبغي له امتلاكه.”
هممم؟ شيئًا ممنوعًا؟
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 38"