الفصل 37 : تّحيّةٌ شَّرِسة ⁴
“تُحفةٌ المقدّس المسروق…؟”
“نعم. إن رغبتُم، يمكنكم فحصها للتحقّق من أصالتها. آه، لكن ليس بالطّريقة المعتادة. لديّ أمرٌ أودّ إبلاغكم به عن هذه التحفة المقدّسة…”
“لا، لا حاجة.”
نظر الكاهن إليّ مرّةً، ثمّ نظر إلى كرة الثّلج.
بدا عليه الذّهول الشّديد.
هل يجد صعوبةً في تصديق أنَّ هذه الكرة القديمة تحفةٌ مقدّسة؟
“هذه الكرة الثّلجيّة كانت بالفعل من الكنوز المقدّسة التي يحتفظ بها المعبد.”
إن كنتم تعرفون ذلك، فلماذا…؟
شعرتُ بالاستغراب.
“لكن، لماذا هي بحوزتِكِ يا أختي؟ هذه الكرة كانت من المفترض أنّها اليوم قد عُرِضت…”
“اليوم؟”
لا يعقل أنَّ المعبد لم يعلم أصلاً أنّها فُقدت، أليس كذلك؟
‘يا تُرى، كم كان كريسينت بارعًا في السّرقة؟’
ربّما كان من الأفضل أن أحتجزه في سجن النقابة قبل أن آتي.
فتحتُ فمي لأشرح للكاهن المصدوم ما حدث، لكنّه فجأةً انتفض واقفًا.
“يا حرّاس!”
… ماذا؟
“لا تدعوها تهرب!”
… ماذااا؟!
“اوه… يا إلهي، صاحب السّمو الكاردينال؟!”
ثمّ كأنّه رأى شبحًا، صرخ وركض هاربًا من الغرفة.
حاولتُ أن ألتفت لأرى ما يحدث، لكنّ الحرّاس وصلوا بسرعةٍ وحجبوا رؤيتي.
وقفوا بتأهّبٍ وكأنّهم سيجرّونني جرًّا في أيِّ لحظة.
همم… يبدو أنَّ الوضع الآن…
‘يظنّون أنني سرقتُ هذه الكرة، أليس كذلك؟ ويشُكّون بي لأنّني أجرؤ على إعادتها بكلّ وقاحة؟’
يا لهم من متعجّلين.
رغم أنَّ الموقف كان سخيفًا، لم أشعر بالغضب.
فبمجرّد أن أحضر كريسينت –الذي غالبًا ما زال يتسكّع في متجر الرّهونات– سينكشف سوء الفهم هذا.
وبالمقارنة مع التّجاهل الذي تلقيتُه في حياتي السّابقة، فهذه المعاملة لا تُعدّ شيئًا.
لكنّ ما أقلقني هو…
‘لو كانوا لا يصغون بهذا الشّكل، هل سيكون من المجدي إخبارهم بأنَّ التّحفة الكريستاليّة المزيّفة ليست أثرًا مقدّسًا؟’
ولو افترضنا –ولو قليلًا– أنّهم على علمٍ بأنّها مزيّفة ويعرضونها عمدًا؟
فهذا أكثر منطقًا من فكرة أنَّ المعبد لم يقدر على كشف الزّيف.
وفي أسوأ الأحوال، قد يحاولون إسكاتي.
بينما كنتُ غارقةً في التّفكير، شعرتُ بوجودٍ يقترب.
‘هممم؟’
كان شخصًا يرتدي رداءً أبيض يغطيه من رأسه حتى قدميه، وكان يمشي نحونا.
من حجمه، بدا رجلًا، وما إن أشار بيده حتّى ابتعد الحرّاس عن طريقي وكأنّهم موجةٌ تنشقّ.
‘مَن هذا؟ ماذا يحدث؟ وهل يستطيع الرّؤية أصلاً من تحت ذلك الغطاء؟’
وفي لحظة، جلس مكان الكاهن السابق.
وانبعث منهُ عبير زهر الليلك.
“مرحبًا.”
حيّيته بأدب، فارتسمت ابتسامةٌ خفيفة على شفتيه التي كانت الجزء الوحيد الظّاهر من وجهه.
هل هو شخصٌ رفيع المنصب؟ عدم ردّه التّحيّة يوحي بأنّه كذلك.
بينما كنتُ أتمعّن فيه، قدّم إليّ ورقةً كُتب عليها:
[نعم. تشرفنا، يا أختي. إنّه من دواعي سروري لقاؤكِ.]
‘أوه، كنتُ سأسيء الفهم.’
يبدو أنّه إمّا في خلوة صمتٍ، أو لا يستطيع التّكلّم لسببٍ ما.
[أولًا، أعتذر عمّا بدر قبل قليل من إساءة. سمعتُ أنّكِ جئتِ لإعادة الأثر المقدّس؟]
“نعم، هذه الكرة. كانت بحوزة لصٍّ ما…”
ضحك الرّجل عند سماعه ذلك.
‘حسّ الفكاهة عنده غريبٌ قليلًا. أن يضحك رجل دين عند سرقة أثرٍ مقدّس؟ أهذا مقبول؟’
على أيّ حال، تابعتُ كلامي بدلًا من التّفكير في ميوله الغريبة.
“ظننتُ أنَّ من الأفضل إعادتها. فهي أثرٌ مقدّس، في النّهاية.”
[أفهم. وكيف علمتِ أنّها أثرٌ مقدّس؟ هل أخبركِ ذلك اللّص؟]
“لا، هو أصرّ على أنّه لا يعلم. ولم يعترف بأنّها كذلك. لكن بما أنّني أعمل في متجر رهونات، لديّ خبرةٌ بسيطة في التّقييم.”
توقّف قليلًا وهو يسمع كلامي، ثمّ بدأ يكتب من جديد، ببطء:
[مثيرٌ للاهتمام. كيف استطعتِ تقييمها بدقّة؟]
تردّدتُ.
هل أقول له: من لون الضّوء؟ لكن أليس هذا أمرًا يعرفه الجميع؟
‘فقط، لديّ حدسٌ أقوى مِن غيري.’
ما جعلني أكتشف ذلك هو الإحساس الدّقيق بالألوان والطّاقة، وتجربتي في مقارنة الأشياء.
لكن أن أقول: “لديّ حدسٌ قويّ ومهارة ملاحظة”، سيبدو كأنّني أتباهى.
“علّمني جدّي أن أكون دقيقةً في التّقييم، لكن… أحيانًا، يجب أن نثق بحدسنا أيضًا.”
كان هذا هو الجواب المناسب لي.
“جدّي علّمني كلّ شيء.”
كان ذلك جوابًا يعكسني حقًّا.
فأنا تعلّمتُ كلّ ما أعرفه من جدّي.
توقّف الرّجل قليلًا بعد سماع ذلك، كما لو كان يفكّر.
[فهمت. سمعتُ أنّكِ ترغبين باستعارة أثرٍ مقدّس. وبما أنّكِ أعدتِ شيئًا سُرق، فإنَّ هذا يُقدَّر، وسنُعيركِ واحدًا لمدّةٍ محدودة.]
“حقًّا؟! شكرًا جزيلًا!”
[لكن، لا بدّ أنّكِ لم تُخبِرينا بعد بما أردتِ قوله عن الأثر، أليس كذلك؟]
كنتُ متردّدة بشأن ذلك طوال الوقت.
لكنّي في النّهاية حسمتُ أمري.
“تلك التحفة الكريستاليّة على هيئة طائر في المعرض. أعتقد أنَّ عليكم إعادة تقييمها. لا يبدو أنّها أثرٌ مقدّس.”
ولو حاولوا إسكاتي؟
سأتصرّف حينها.
فما دمتُ أعلم الحقيقة، لا يمكنني تجاهلها. هذه هي قناعتي.
بانتظار ردّه، توتّرتُ قليلًا، لكنه أومأ برأسه ببطء:
[حسنًا. أشكركِ على التّنبيه.]
كاهنٌ منفتح القلب، على ما يبدو.
تنفّستُ بارتياح، وانحنيتُ احترامًا.
أشار الكاهن، فعاد ذلك الذي فرّ سابقًا وهو يعتذر عن سوء الفهم ويطلب أن ننتقل إلى إجراءات الإعارة.
حينها أضاف الكاهن الآخر:
[قد أحتاج إلى مساعدتكِ في أمرٍ خاص. سأرسل مَن يتواصل معكِ قريبًا في مكان عملكِ.]
بما أنّه زبون، فلا مانع لدي.
بل إنَّ كونه كاهنًا يجعل الأمر أفضل. ربّما أحصل على ماءٍ مقدّس بسعرٍ أرخص؟
أجبته أنَّه مرحّبٌ به في أيِّ وقت، فكتب سطرًا آخر:
[أرجو أن تستقبلي الزّائر، لكن هذه المرّة… بأسلوبٍ عاديّ.]
بأسلوبٍ عاديّ؟
هممم… هل يقصد أنَّ بعض النّاس يبالغون في التّصرّف أمام الكهنة؟
‘يبدو أنّه تعرّض لكثيرٍ من المبالغة في التّعامل أو التّكريم.’
أنا لستُ من أتباع المعبد، لذا لن تكون هناك مشكلة.
“لا بأس، هذا أمرٌ بسيط. إذًا، إلى اللّقاء!”
كان شعورًا جميلًا أن أكون قد فعلتُ أمرًا طيّبًا.
رافقتُ الكاهن بابتسامةٍ مشرقة.
***
بعد مغادرة إليشيا.
انحنى الحرّاس أمام كريسينت الذي كشف عن وجهه، بانحناءةٍ عميقة.
“نعتذر يا صاحب السّمو الكاردينال. لقد سبّبنا لك القلق بشكوكنا السّابقة.”
“لا بأس. لكن، لماذا تعتذرون لي؟”
“إذًا، هل نعتذر لتلك الأخت…؟”
“نعم، من المفترض أن نعتذر لها. لكنها بدت متّزنةً للغاية. أظنّ أنَّ اعتذارًا متأخّرًا كهذا قد يُثقل عليها أكثر.”
ابتسم كريسينت وهو يخلع رداءه، كاشفًا عن ملابس المعبد التي تُظهر رتبته.
ثمّ أشار بيده.
“والآن، تعرفون ما يجب فعله، أليس كذلك؟”
نظر الحرّاس إليه بحيرة، فقهقه كريسينت ضاحكًا:
“تحفة الطّائر الكريستاليّة. أزيلوها، فورًا.”
“نعم، حاضر!”
“وأيضًا… ذلك المثمّن الذي قيّمها.”
تجمّدت ملامح الحرّاس عندما رأوا تعبير وجه كريسنت الجادّ.
“أحضروه إليّ.”
“نعم! حاضر!”
راقب كريسينت الحرّاس وهم يركضون بعيدًا، وتمتم:
“أظنّ أنَّ هذا يُعدّ ثمن التّقييم.”
لماذا، يا تُرى؟
رغم أنّه لم يحصل على ما أراد، بدا مسرورًا.
همس كريسينت:
“إذًا، إلى اللّقاء، مجدّدًا.”
تألّقت عيناه الخضراء بلون الزّمرّد.
***
بعد توقيع الأوراق الكثيفة، حصلتُ على خاتمٍ صغير.
رغم أنَّ بريقه ضعيف، فهو أثرٌ مقدّس على أيّ حال.
وبالطّبع، لا يمكن للمعبد أن يُعير أثرًا ثمينًا جدًّا لكلّ شخصٍ من عوامّ المؤمنين.
وبصراحة، كنتُ راضيةً تمامًا بهذا.
‘ذلك هو المزار، أليس كذلك؟’
في طريقي إلى الخارج، جذبني عطرٌ جميل.
وعندما تتبّعتُ مصدره، وجدتُ المزار الصّغير المخصّص للصّلاة.
رغم أنّها زيارتي الأولى، لم أشعر بالغربة. ربّما كان السّبب الأجواء الهادئة.
وقفتُ أمام المزار الخالي، انتشر حوله أزهار الليلك، وضممتُ يديّ بالدّعاء:
“شكرًا لكَ، يا شجرةَ العالم.”
لطالما كنتُ –بتأثير من جدّي– لا أؤمن بالحاكم.
لكنّي نِلتُ حياةً ثانية.
لا أعلم السّبب، لكن إن كانت تلك نعمةً مِن شجرة العالم…
“سأحيا بعمل الخير دائمًا. أعدكِ.”
وأعلم أنّه من الجشع، لكن…
فقط أمنيةٌ واحدة صغيرة بعد.
أرسل إليَّ ما شئت من البلاء. لكن فقط…
“…فقط، لا تدع جدّي… ينساني.”
شعرتُ باختناقٍ في حلقي.
وهمستُ بصوتٍ لا يكاد يُسمع.
“أرجوك… لا تدعه ينساني.”
طق، طق.
عندما فتحتُ عينيّ على صوت الدّموع، أدركتُ أنّني كنتُ أبكي دون أن أشعر.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 37"