كانت قاعة الحفلات في قصر عائلة أوستر مكتظًّا بالنبلاء المتأنقين بمختلف الأزياء الفاخرة والحُلِيّ البراقة تحت الثريات الذهبية.
“سيف النصر لكاليديا، بطل ساحة المعركة، صاحب السمو الدوق كايل ديهارت يحضر الآن!”
الدوق كايل ديهارت.
مع الألقاب التي تعلن عن عظمته وإنجازاته، فُتِحَت أبواب قاعة الحفل.
تسرّبت إلى جو الحفل، الذي كان يسير بوتيرة هادئة، رهبةٌ غامضة.
فجأة التفتت جميع الأنظار، التي كانت قبل لحظات منشغلة بأحاديث ودّية، نحو الدوق.
“من الآن فصاعدًا، من الأفضل أن نكون أكثر حذرًا في تصرفاتنا.”
“أوه، لن يحدث شيء مميز. في هذه الأيام مزاجه مختلف عن الماضي”
تعالتَ هَمساتُ أحادثيهم.
في الأيام التي تلت الحرب مباشرة، كان الدوق ديهارت يحضر حفلات الانتصار بوجه قاتم لا يعرف الابتسامة.
لم يكن الأمر مقتصرًا على الحفلات، بل حتى ظهوره في أي مجلس، رسمي أو غير رسمي، كان ينشر أجواءً من الجدية الثقيلة.
صحيح أن حدّته قد خفّت مؤخرًا… لكن…
“آه، من تكون تلك الفتاة؟”
في اللحظة التي انصبَّ فيها الاهتمام على الدوق، لفتت أنظار أحدهم المرأة التي تبعته إلى داخل القاعة.
“هل كان للدوق خطيبة؟”
“لم أرها في أي تجمع اجتماعي من قبل…”
لم تكن مزيّنة بشكل مبالغ فيه، لكن العيون انجذبت إليها.
فستانها الأزرق الفاتح كان بسيط التصميم، ينساب برقة على جسدها، لكنه مع ذلك منحها هالة من الأناقة المهيبة.
وأكثر ما شدّ الأبصار هو جوّها الخاص.
فهي تحمل ذاك المزيج النادر من رصانة النبلاء مع بريقٍ بريءٍ متألّق.
ومن وراء المراوح المزخرفة، تعالت الهمسات.
“أنا أعرفها. إنها الابنة الصغرى لكونت فرومروز.”
“آه، فرومروز؟”
وبمجرّد ذكر الاسم، أومأ من يعرف العائلة. فقد كان لهم طابع مميز انعكس عليها أيضًا.
لكن، ما الذي جاء بها الآن لتظهر فجأة بجانب الدوق، رغم أنها لم تُرَ يومًا في المجتمع المخمَلي؟
سارع أحدهم ليوضح:
“سمعتُ أنها تعمل كمساعدة للدوق.”
“أوه، مثير للاهتمام.”
“لا بد أنها ذات كفاءة.”
“أليس الابن الأكبر لفرومروز موظفًا إداريًا رفيعًا في العاصمة؟ ربما تسلك الابنة الصغرى نفس الطريق.”
خيبة أمل ارتسمت على بعض الوجوه، فبدل أن تكون فضيحة مدوّية، بدا الأمر تفسيرًا مقبولًا.
لكن، وسط الضحكات الخافتة، كانت هناك امرأة واحدة تعجز عن الابتسام.
إنها كلير، الابنة الكبرى لفيكونت بيلمور، صاحبة الشعر الأحمر الفاتن.
كانت ترتجف وهي تقبض على قبضتها داخل قفازها.
لقد كرّسها أهلها منذ طفولتها لتكون “العروس المثالية” للدوق.
والآن، أن ترى امرأة أخرى بجانبه؟ كان ذلك لا يُحتمل.
‘امرأة أخرى إلى جانب الدوق؟!’
قبل أيام فقط، سمعت شائعة أن الدوق شوهد في الساحة مع امرأة غامضة يتنزّه معها، وقد أقلقها الأمر.
أما الآن، فهي تراه يدخل القاعة برفقة مساعدةٍ رسمية؟
‘أيمكن أن تكون هي نفسها تلك المرأة؟’
عضّت كلير شفتها بشدة حتى جف حلقها.
لقد كان والدها يضغط عليها صباح اليوم ذاته:
“الدوق ليس من السهل أن يمنح قلبه. هل تعرفين كم بذلنا لتنشئتكِ كفتاة مثالية؟”
“…أعرف.”
“أنتِ أمل العائلة يا كلير. كلنا نعتمد عليك. فلا تضعفي.”
“…أعتذرُ.”
كم مرةً حاولت وفشلت؟ كم مرة أغلقت حصونهُ المنيعة أبوابها أمامها؟
لكن اليوم بدا فرصة لا تُعوَّض.
لقد هيّأت نفسها منذ أيام: عناية ببشرتها، حمية صارمة، واختيار أبهى فستان ومجوهرات تخطف الأبصار.
ومع ذلك، تقف تلك الفتاة ذات الفستان الأزرق البسيط بجانب الدوق، فتلاشى كل جهودها.
وقعت عينا كلير على كؤوس النبيذ الأحمر في أيدي النبلاء.
ألقت نظرةً نحو الفتاة، إيرين فرومروز، وهي ترتدي ذلك الفستان الأزرق الفاتح.
‘يجب أن أزيحها من أمامي.’
عين كلير المتقدة بالغيرة أطلقت بريقًا باردًا حادًا.
لم تكن مجرد غيرة عابرة، بل شعورًا بأنها تُسلب مكانها الطبيعي. لم تستطع أن ترفع عينيها عنها.
أما إيرين، فلم يكن لديها وقت لتفكر في تلك النظرات. فقد كانت منشغلة بمشهد الحفل الفاخر والجو الصاخب.
“انتبهي.”
“نعم…”
“كنتِ واثقةً بنفسكِ قبل قليل.”
“أريد العودة إلى المنزل…”
صحيح أن بعض الحفلات أُقيمت في بيت فرومروز، لكنها كانت طفلة آنذاك، لم تفعل سوى الترحيب السريع ثم الهروب للعب في الحديقة مع إدِ.
وبعد وفاة والدتها، قلّما شاركت في أي دعوة اجتماعية.
‘آه… ركّزي يا إيرين فرومروز.’
شدّت على عزيمتها وفتحت عينيها بثبات.
في تلك اللحظة، لمحها رجل متأنّق يقترب بابتسامة واسعة.
إنه ريمون أوستر، بطل هذا الحفل.
قال الدوق وهو ينظر إليه بخفوت:
“ابن عائلة أوستر الأكبر.”
حيّا ريمون الدوق بحركة مبالغ بها، وتلألأت البروشات الغريبة المعلّقة على ملابسه.
“يشرفني لقاؤكَ يا دوق ديهارت.”
“ريمون أوستر.”
أجاب الدوق بفتور وهو يلتفت قليلًا.
فتراجعت إيرين بخطوة، لتقف خلفه بطبيعية.
“سمعت أنك حققت إنجازات في توسيع تجارة المعادن مع الدول الأجنبية.”
أومأ ريمون بابتسامة واثقة:
“كل ذلك بفضل رعاية سمو ولي العهد.”
“لكن، أليس فتح طرق التجارة مع الدول الصغيرة أمرًا معقّدًا للغاية؟”
أجاب ريمون وهو يرفع رأسه بزهو:
“العلاقات تُبنى مع الزمن. إنه سر تفاوض خاص بعائلة أوستر.”
‘سخيف.’
تمتمت إيرين في نفسها.
إنه ليس سوى تلاعب بعلاقات مشبوهة مع منظمات غير قانونية.
ويبدو أن الدوق أيضًا لم يقتنع، فاكتفى بتعليق ساخر: “رائع جدًّا.”
لكن ريمون لم يدركَ السخرية.
“أتمنى أن أجد يومًا فرصة لأشاركَ هذا السر يا دوق. هاها! وبالمناسبة، بروشكَ غاية في الروعة والجمال.”
وأشار بإصبعه نحو صدر الدوق.
رفعت إيرين بصرها تلقائيًا، فشاهدت البروش المزين بحجر كبير متلألئ، لم تلاحظ وجوده من قبل.
لكن سرعان ما التقطت أنفاسها.
اللمعان لم يكن من البروش وحده، بل من النظرات الوقحة التي صوّبها ريمون نحوها منذ اللحظة الأولى.
لم يعد قادرًا على الاكتفاء بمحادثة الدوق، فالتفت نحوها مباشرة:
“إيرين. سعيد بقدومكِ.”
‘إيرين؟ هكذا بلا ألقاب؟!’
حتى الدوق يخاطبها بـ “آنسة فرومروز أو آنسة إيرين”، فمن يكون هو ليتصرّف كصديق قديم؟
أجابت بابتسامة مصطنعة، وهي تلوذ بظل الدوق:
“آه، نعم. مرّ وقت طويل، سيد ليمون أوستر.”
ضحك عاليًا:
“هاها! ما زلت تنادينني بلقبي المحبب.”
‘اللعنة… ليس هذا ما قصدت’.
لقد حفظت جيدًا اسمه: ريمون أوستر. لكن شفتيها خانتاها دائمًا لتلفظه “ليمون”.
قبضت يدها بقوة متعهدة: ‘لن أخطئ اسمه مجددًا’.
لكن الآن…
‘لا يمكنني ضربه هنا. لم أحصل بعد على أي معلومة منه. اصبري، إيرين’.
ابتسم ريمون وقال:
“سيكون من الرائع أن نرقص سويًا لاحقًا.”
ثم ألقى نظرة جانبية إلى الدوق.
‘ما معنى تلك النظرة؟!’
فلا هو في مكانة الدوق، ولا في وسامته، ولا يملك هيبته، ومع ذلك يجرؤ على التحدي؟
في تلك اللحظة، دوّى صوت عميق باسمها:
“إيرين.”
رفعت رأسها على الفور نحو الدوق.
“أحضري الأوراق لي.”
قال ذلك وهو يلف نصف جسده نحوها، واضعًا يده برفق على كتفيها، في حركة طبيعية، لكنها كافية لتحجبها تمامًا عن أنظار ريمون.
“الآن، حالًا.”
كان يقصد أن نبدأ الخطة. فأومأت برأسي.
“ريمون، ستذهب معي لنتحدث بعمق عن تجارة المجوهرات في الشمال ومستقبلها. أما أنتِ يا آنسة، فبذلي جهدك قليلًا.”
“نـ-نعم؟ أنا كنت أريد أن أبقى مع إيرين أكثر–”
“نعم. إذًا، ليمون، إلى اللقاء. كان… كان لقاؤك مفرحًا، حقًا.”
تظاهرت أنني بالغتُ بالكلامِ كي أهينهُ، لكنه كالعادة لم يفهم شيئًا.
حين هممت بالمغادرة، بدت على ريمون رغبة باللحاق بي. لكن الدوق قبض على ذراعه، فأطلق ريمون صرخة ألم قصيرة “آه–”، وما إن رأى وجه الدوق البارد حتى بلع صوته وأطبق فمه.
لم أتمنّ له الوداع. فقط قلت في داخلي: ‘اذهب ولا تعدَ مع عدمِ أسفي.’
في لحظة خاطفة، التقت عيني بعيني الدوق الذي كان يسحب ريمون خلف أحد الأعمدة، فأرسل إليّ إشارة سريعة بعينيه، ثم ارتسمت بسمة خفيفة على شفتيه قبل أن يختفي.
توجهت أنا نحو الطابق الثالث من القصر.
الأوراق لم تكن ذات قيمة، لكنها مجرد ذريعة كي أخرج من القاعة، وقد اتفقنا على ذلك في العربة قبل دخولنا.
عمداً تركها الدوق في قاعة جانبية أُعِدّت له قبل الحفل.
‘أشعر بتوتر خفيف وأنا وحدي.’
لكن من الطبيعي أن لا يغيب شخص كالدوق طويلًا عن أعين النبلاء، لذلك كان من المناسب أن أتحرك أنا بمفردي بصفتي مجرد مساعدة لا يلتفت إليها أحد.
كلما ابتعدت عن قاعة الحفل، خفتت أصوات الموسيقى وضحكات النبلاء، وحل محلها صمت رواق القصر الطويل. مشيت ببطء وأنا أتفحص المكان.
كنت أنوي أن أتفقد كل زاوية من قصر أوستر اليوم، من الأرضيات حتى الأعمدة.
‘لكنه أبهى مما توقعت… لا، إنه مبالغ فيه أكثر من اللازم.’
التعليقات لهذا الفصل " 30"