نظر إليّ بعيون مليئة بالشكّ وقال:  

“مَن أنتِ؟”  

كانَ حساسًا كقنفذ يرفع أشواكه، مشكّكًا في كلّ شيء في العالم، رجلٌ بارد يستهدف الآخرين بحدّة.

“اسمي إيرديا. لقد تبنّاني الماركيز كابنة له لأنّني أنقذتُ حياته في الماضي… أنا التي فقدت وطنها وعائلتها. لم يطردني عندما جئتُ إليه فجأة.”  

“هل هذه هي الحقيقة التي تريدينَ قولها؟”  

“نعم. ليستْ قصّة مختلقة، بل مجرّد ما حدثَ. تخلّيتُ عن كلِّ شيءٍ وجئتُ إلى هنا، وكان الماركيز الشّخص الوحيد الذي استطعتُ الاعتماد عليه.”  

عبسَ كاليد وهو ينقر على الطّاولة بإصبعه السبّابة.  

“إذن، أنتِ أنقذتِ حياة الماركيز؟”  

لم تكن كذبةً بالضرورة.  

لقد أنقذتُ سيريل، التي كانت ثمينةً مثلَ حياة الماركيز، وهذا صحيح، كما أنّني تخلّيتُ عن وطني و جئتُ إلى هذا العالم.  

ربّما يظنّ كاليد أنّني “من القارّة الشرقيّة” فقط.  

بما أنّها لم تكنْ كذبةً كاملة، فقد نُقل جزء من الصّدق. 

“هل هذا يعني أنّ الماركيز تحرّكَ بناءً على رأيكِ فقط؟ لا أستطيع فهم ذلك.”  

“أليست هذه هي الثقة؟”  

“قد أثقُ بالماركيز، لكن لا يمكنني الثقة بكِ. لكن… أعترف أنّ الوضع الحاليّ في صالحي.” 

“إذن، هل تقبلني الآن؟”  

“لا أعمل مع الأشخاصِ غير الأكفاء. هل يمكنكِ إثبات أنّكِ مؤهّلة لتمثيل الماركيز؟”  

يبدو أنّه لم يستطعْ كشف هويّتي مباشرة، فقرّر اختبار قدراتي أوّلاً.  

مواجهة ليفيا أمرٌ خطير للغاية.  

فهي تملكُ سلطةً أقوى من الإمبراطور في الإمبراطوريّة، وهذا أمر طبيعيّ.  

لكشفِ جرائمها أمام العالم، هناكَ حاجة إلى دليلٍ لا يمكن لأحد إنكاره.  

حقيقة واضحة و قويّة لا مجال للاعتذار عنها.  

ليفيا أرفين شخصٌ لا يسمح بأدنى ثغرة. لاستهدافها، يجب ألّا نفقد الحذر أبدًا.  

كنتُ أفهم موقف كاليد الحادّ، لذا جمعتُ يديّ بهدوء.  

“سمعتُ أنّ سموّكَ يتتبّع جماعة جوبير.”  

“صحيح.”  

“سمعتُ أيضًا أنّ سموّكَ يواجه سيّدة القوّة المقدّسة. إذن، من الطبيعيّ أن تكون هي وراء جماعة جوبير.”

“لم آتِ إلى هنا لسماعِ استنتاجات واضحة.”  

شعرتُ بالحرج من قوله إنّ مقدّمتي طويلة، فأخذتُ رشفةً من الماء على الطاولة.  

“بدأ الأمر بشائعة، أليس كذلك؟ قصّة أنّ الخادمات اللواتي دخلن قصر أرفين اختفين. بعد توظيفهن، لم يخرجن ولم يرهنّ أحد تقريبًا. لا بدّ أنّك شعرتَ بشيءٍ مريب، خاصّة أنّه قصر ليفيا أرفين.” 

“…..”  

وضعَ كاليد كأس النبيذ و شبكَ ذراعيه، كأنّه يريد سماع المزيد.  

“تفتيش القصر سيكونُ الحلّ الأسهل، لكن لا أحد في الإمبراطوريّة يستطيع النظر داخلِ قصر أرفين. إنّه المكانُ الذي تعيش فيه سيّدة القوّة المقدّسة. لا يوجدُ مكانٌ أكثر أمانًا منه. بما أنّه لا يمكن مراقبة مَن دخل، فالخيار الوحيد هو تتبّع مَن يخرج. لا بدّ أنّ سموّكَ تتبّع أولئك الذين يدخلون ويخرجون بانتظام.”  

هكذا وصلَ إلى جماعة جوبير.  

كان زعيم جماعة جوبير، الفيكونت جوبير، يزور قصر أرفين كلّ ثلاثةِ أشهر تقريبًا.  

من الخارج، بدا كتاجرٍ يبيع بضائع شرقيّة، لكن في كلّ مرّة يأتي إلى راجان، كان يزور القصر وكأنّه يقدّم تقريرًا دوريًا.  

كثيرون يزورون قصر أرفين، طالبين بركاتها أو نعمة مقدّسة، حتّى لو كانت مجرّد صلاة صغيرة.  

ليس كلّ من يذهبُ يلتقي بها، لكن لم يكن من الشّائع أن يكون هناكَ زائر منتظم مثل الفيكونت جوبير، لذا لم يثر شكوكًا كبيرة.  

لكن، ماذا لو كان تاجرًا يأتي لبيع بضائع شرقيّة، لكن عندما يغادر، لا تقلّ حمولته على الإطلاق؟  

ألا يجعلكَ ذلك تفكّر أنّ هدفه الحقيقيّ هو لقاء سيّدة القوّة المقدّسة، و أنّ التجارة مجرّد تمويه؟  

قد يكونُ بالفعلِ يتسوّق كثيرًا، أو يشتري بضائع في راجان لإعادة بيعها في الشرق. ليس شيئًا نادرًا. 

لذا، طلبتُ من الماركيز فالاندي التحقّق، وتبيّن أنّ الفيكونت جوبير اشترى فقط أشياء تافهة من البوّابة الثالثة ولم يشترِ أيّ سلعٍ فاخرة تُباع في البوّابة الرّابعة.  

معظم البضائع الرئيسيّة التي تخرج من راجان إلى الشّرق هي سلع فاخرة شائعة بين نبلاء العاصمة.  

هناك حالات استثنائيّة تشتري بضائع من الجنوب أو الشمال أو الغرب، لكن الفيكونت لم يكن لديه سجلّ لذلك.  

“يأتي بحجّة بيع البضائع، محمّلاً بالأمتعة، لكنّه يغادر كما جاء. خاصّة الحمولات التي يحملها عند مغادرته مشبوهة. فكيف لا نشكّ؟”  

كان ذلكَ مهلهلاً. طريقة مباشرة حقًا.  

هذا يعني إمّا أنّ مهارات الفيكونت رديئة، أو أنّه متغطرس بسببِ وجود داعم قويّ خلفه، فلا يخاف شيئًا.  

بما أنّ ليفيا أرفين وراءه، ربّما اعتقدَ أنّه يمكنه التحرّكُ بمهمل حتّى.  

هيبة “ليفيا أرفين” تمتدّ عبر الإمبراطوريّة، لكن كان هناكَ شيء لا يعرفه الفيكونت جوبير.  

ليفيا لا تكشف نفسها أبدًا في الأمور التي قد تخدش اسمها.  

كانت تعرف جيّدًا متى تظهر و متى تختبئ.  

بعض الأفعال الشرّيرة التي ارتكبتها في الماضي كانت محكمةً لدرجة أنّني، لو لم أمتلك تلك الذكريات، كنتُ سأظنّ أنّ شخصًا آخر فعلها. هكذا كانت دقيقة في استخدام الوكلاء.  

هذا هو سببُ سعي كاليد للحصول على دليل قاطع حتّى الآن.  

ليفيا ليست شخصًا يتغاضى حتّى عن أصغر الأمور، خاصّة إذا كانت تتعلّق بسمعتها أو هيبتها.  

لذا، كانت هذه التصرّفات المكشوفة من الفيكونت نتيجة غطرسته النّابعة من اعتماده على ليفيا.  

“جماعة جوبير التي تسافر بانتظام بين الشرق و راجان. مدعومة من سيّدة القوّة المقدّسة. و العربات المشبوهة تابعة للجماعة. ألا يوحي هذا الثلاثي باحتمال واحد؟”  

“وما هو؟”  

“معظم البضائع في راجان التي يمكن بيعها في الشّرق لتحقيق ربح هي سلع فاخرة. إذا لم تكن كذلك، فمن الصّعب تحقيق ربح حقيقيّ. هذا شيء أساسيّ يعرفه أيّ شخص لديهِ معرفة بسيطة بأمور الجماعات.”  

“وماذا بعد؟” 

“إذا لم تكن سلعًا فاخرة، فهناكَ شيء واحد فقط يمكن أن يحقّق ربحًا.”  

“…..”  

“الناس.”  

ارتعشَ حاجب كاليد بشكلٍ واضح، كأنّه لم يتوقّع أن أقول ذلك.  

هل أزعجه هذا القول؟ نظر إليّ بنظرةٍ باردة، كأنّني أنا مَن يتاجر بالناس.  

“إذن… ما تستهدفه سموّكَ هو دفتر حسابات تجارة الرقيق لجماعة جوبير، أليس كذلك؟”  

دفاتر حسابات الجماعة إمّا يحملها زعيم الجماعة أو تُخبّأ في مكان سرّيّ.  

أساس التّجارة هو التسجيل. حتّى لو كان الموضوع أشخاصًا، فمن المحتمل أن يُسجّل في الدفتر.  

لكن مثل هذه الدفاتر لا تخرجُ إلّا عندما يشارك زعيم الجماعة في صفقةٍ مباشرة.  

لا يوجد دليلٌ أقوى من الدفتر. لذا، احتاجَ كاليد إلى جماعة قويّة يمكنها اقتراح صفقة يطمع بها زعيم الجماعة لإجراء معاملة مباشرة.  

إذا رفضَ اتحاد الجماعات، فالخيار الوحيد المتبقّي هو الماركيز فالاندي.  

عندما انتهيتُ من الحديث، خفّف كاليد من نظرته الحادّة، و أضاءت عيناه القرمزيّتان بوميض، وقال:  

“مقنع. لكن، نصف ما قلته صحيح، والنصف الآخر خطأ.”  

كانت استنتاجاتي مجرّدَ تخمينات.  

ربّما كان الفيكونت مجرّد شخصٍ أحمق، وكلّ استنتاجاتي قد تكونُ محض افتراضات. 

ومع ذلك، لم أستطع إلّا أن أشكّ، لأنّ ليفيا أرفين ارتكبت نفسَ الجريمة من قبل.  

لمن لا يعرف الخلفيّة، قد تبدو كلماتي مجرّد محاولة لتشويه سمعة سيّدة القوّة المقدّسة.  

لكن كاليد تجاوزَ الأمر ببساطة، كأنّه وجده مثيرًا للاهتمام.  

“كما قلتِ، جماعة جوبير، تحت حماية ليفيا أرفين، تقوم بأمور مشبوهة. لم يحاولوا حتّى إخفاء ذلك.” 

بالتأكيد.  

لو أرادوا الإخفاء، لما تصرّفوا بمثلِ هذه الصراحة.  

بل إنّ الفيكونت جوبير كان يخطّط سرًا لإيذاء عائلة فالاندي دونَ علم ليفيا.  

تخميني أنّ ليفيا ربّما لا تعرف بهذه التصرّفات الغبيّة للفيكونت. لو كانت تعرف، لما تركت الأمر هكذا.

هل هي من هذا النوع؟  

“إذن… ما الذي أخطأتُ فيه؟”  

“إنّهم لا يتاجرونَ بالنّاس.”