كان الجميع في هذا التجمّع على دراية بمَـنْ يواجهه كاليـد.  

ربّما لهذا السّبب، أومأ معظم الحاضرين برؤوسهم، محافظين على موقفٍ هادئ بشكلٍ مفاجئ.  

فقط بيرين كان يظهر انزعاجًا واضحًا، لكنه، بعدما تبيّن له شيء ما خلال الأيام الأربعة الماضية، لم يتسرّع في التدخّل و بقي صامتًا بهدوء.  

“أولاً، لإدانة سيّدة القوّة المقدّسة كمجرمة، هناك شيء يجب القيام به أولاً.”  

مع كلماته، بدأتُ بتوزيع مجموعة من الوثائق على الطّاولة واحدة تلو الأخرى.  

كنتُ قد أرسلتُ مسبقًا نسخًا سريّة إلى الدوقة الكبرى كلاوس و الدّوقة بياترس.  

كانت هذه الوثائق، التي أعدها كاليـد على مدى وقت طويل، تحتوي على سجلّات واسعة عن أفعال ليفيا الشريرة، بما في ذلكَ أحداث ميرسين و بيلانيف الأخيرة.  

دفعتُ بالوثائق المتعلّقة بميرسين و بيلانيف، التي تحتوي على أدلّة واضحة، نحو بيرين.  

نظرَ كاليـد إلى الوثائق التي ملأت الطاولة و رفع رأسه.  

“يجب أن نهدم مكانة سيّدة القوّة المقدّسة أوّلاً. طالما أنّ لديها دعم الشعب المتحمّس، لا يمكننا فعل شيء.”  

〔في الشّمال، تأثير سيّدة القوّة المقدّسة ضعيف نسبيًّـا، لذا إذا كانت الأدلّة قاطعة، فلن تكون هناك مشكلة كبيرة.〕  

〔بسببِ تأثير الحريق الكبير في الماضي، لا تزال سيّدة القوّة المقدّسة تتمتّع بمكانة كبيرة في الجنوب. و الأمر نفسه في الشرق، حيث اختبروا معجزة خلال الفيضان الكبير. سيكون من الصعب إقناع مَنٔ لديهم مثل هذه التجارب بنفيها تمامًا.〕 

كما كان متوقّعًا، لم يكن الشّمـال منطقة تثير قلقًا كبيرًا. المشكلة كانت في الجنوب. بعد الحريق الكبير، لا يزال هناك الكثيرون يقدّسون ليفيا كقديسة.  

على مستوى الجنوب بأكمله، كان الدّعم لـليفيا لا يزال قويًا.  

لكن المهم هو أنّه، بقيادة عائلة شيرن مؤخرًا، بدأت عائلات أخرى تتحوّل من الحياد للانضمام إلى جانبِ وليّ العهد. 

بمعنى آخر، كان هيكل القوى الذي بدا صلبًا يتغيّر.  

“كلّ ما نحتاجه هو تغيير المنظور قليلاً.”  

لذلك، أجريتُ بحثًا مكثّفًا حول حادثة الحريق الكبير، وهي الرؤيا الأولى التي تنبّأت بها ليفيا.  

كان ذلكَ الحدث هو السّبب الرئيسي وراء ثقة الجنوب الحالي بليفيا، لذا كان من الضروري التعمّق فيه أكثر.  

〔ماذا تعنين بتغيير المنظور؟〕  

“الحريق الكبير في الجنوب كان كارثة تنبّأت بها ليفيا بوضوح و هي طفلة استيقظت قوّتها المقدّسة لتوّهـا. لكنّها تنبّأت فقط، و لم تمنع الكارثة.”  

〔هل هذا خطأ ليفيا، أم أنّه بسببِ تساهل لوردات الجنوب الذين لم يصدّقوا رؤياها؟〕  

لو صدّقوا الرؤيا واستعدّوا مسبقًا مثل الدّوقة بياترس ، لكان بإمكانهم حماية منطقة الحقول بأكملها.  

لو حدثَ ذلك، لما فقدت زوجها بلا معنى.  

سألت كيف يمكن التفكير في الأمر بشكلٍ مختلف.  

“إذن، ماذا عن الكوارث التي تلـت الحريق الكبير؟”  

〔هذا…〕  

“لم تحدث كارثة بمستوى الحريق الكبير مرة أخرى، لكن بعد ذلك، كانت ليفيا تتدخّل بنفسها بعد كلّ رؤيا. هل تتذكّرين تصادم السفن في ميناء مارجيا أو انهيار الجسر في منطقة تانير الغربيّة؟”  

〔…..〕  

كانت تلك حوادث كان من الممكن أن تتسبّب في خسائر كبيرة في الأرواح، لكن بفضل تدخّل ليفيا المباشر، لم تحدث خسائر مثل الحريق الكبير.  

〔أليس هذا نوعًا من التكهّن؟〕  

أبدت دوقة بياترس ردّ فعل متشكّك.  

بدت مقتنعة أنّ شعب الجنوب لن يتزعزع بمثل هذه التخمينات.  

ابتسمتُ بخفّة و انتقلتُ إلى النقطة التالية.  

“في البداية، قد يبدو الأمر مبالغًا فيه. لكن بعد الحريق الكبير، كانت سيّدة القوّة المقدّسة دائمًا تتدخّل بنفسها لإنقاذ الناس بعد كلّ رؤيا. الوقت الوحيد الذي لم تتدخّل فيه كان ذلكَ الحريق.”  

〔كما تقولين، يا آنسة، كان الحريق الكبير أوّل رؤيا لسيّدة القوّة المقدّسة. ماذا كان بإمكان طفلة صغيرة أن تفعل؟ مجرّد ذكر الرؤيا كان…〕  

“نعم، ذلكَ بحـدّ ذاته مذهل. لكن ماذا لو أُضيف هذا؟ ماذا لو تبيّن أنّ أفعالًا شريرة حدثت في نفس الفترة؟”  

عندما أشرتُ إلى وثائق تثبت أفعال ليفيا الشريرة العديدة، أغلقت دوقة بياترس فمها.  

لم تكن مقتنعة تمامًا بعد، لكن مع إضافة وثائق الأفعال الشريرة، يمكن إقناع لوردات الجنوب المتردّدين إلى حدّ ما.  

‘في الواقع… من المحتمل أن تكون ليفيا قد رأت كارثة الحريق الكبير في الجنوب بدقّة و عن تفاصيل أكثر بكثير، تمامًا كما في رؤيا الفيضان الكبير.’ 

بما أنّني اختبرتُ رؤيا الفيضان الكبير بنفسي عندما كنتُ في جسد ليفيا، كنتُ أشكّ في ذلك.  

ربّما نقلت جزءًا فقط من الرؤيا. أو ربّما نقلتها بشكلٍ غامض يتطلّب التفسير، لتحافظ على موقعها كـمَنْ تعرف كامل الرؤيا بمفردها.  

بالطّبع، هذه مجرّد شكوك نابعة من تجربتي في رؤيا الفيضان الكبير أثناء وجودي في جسد ليفيا، و ليست دليلاً قاطعًا على ما حدثَ خلال الحريق الكبير.  

‘لو ادّعيتُ أنّني رأيتُ رؤيا بعد استيقاظ قوّتي المقدّسة، لكان ذلكَ أكثر إقناعًا…’  

لكن لا يمكنني الكذب بادّعاء رؤيا لم أرها.  

الهدف كان زرع شـكٍّ، ولو طفيف، في أنّ ليفيا ربّما لم تكن لديها النية لإنقاذ الجنوب.  

“كلّ ما نحتاجه هو فتح احتمال واحد فقط. لا حاجة للتلاعب أو التحريض. ‘ربّما كان الأمر كذلك.’ هذه الجملة الواحدة قد تكون أحيانًا السلاح الأقوى.”  

تصلّبت تعابير الدّوقة بياترس.  

بالنّسبة لها، هي التي فقدت زوجها الحبيب في حادثة الحريق الكبير، كان هذا الكلام الأكثر تأثيرًا.  

〔هناك منطق في ذلك. يستحقّ الأمر المحاولة.〕

لذلك، أدركت نية هذه الخطة أكثر من أيّ شخص آخر و أومأت برأسها بسرعة موافقة.  

لم أكن أتوقّع تأثيرًا كبيرًا، لكن لتقليل مكانة ليفيا، كان علينا فتح هذا الاحتمال، ولو كان صغيرًا، لأكبر عدد ممكن من الناس.  

“لجعل الناس يؤمنون بذنبِ ليفيا، يجب أن نستغلّ كلّ شيء ممكن. حتى مع كلّ هذه الأدلّة، إذا أعلنّاها الآن، فقد تُعتبر من عمل الذين يحاولون التشهير بها و سوف تُطمس.”  

كان هذا أيضًا السّبب وراء اضطرار كاليـد لمراقبة أفعال ليفيا الشريرة دونَ فعل شيء رغم جمع كلّ هذه الأدلّة.  

〔إذا سقطت سيّدة القوّة المقدّسة، لن تكتفي الإمبراطوريّة بالاهتزاز. قد تنهـار.〕 

مع تعليق دوقة كلاوس الكبرى الحادّ، تحوّلت أنظار الحاضرين في غرفة الاجتماع نحو كاليـد.  

أطلقَ ضحكة ساخرة و فتحَ فمه:  

“هل بقي في هذا البلد شيء آخر لينهار؟”  

تأكيده، كـوليّ العهد، أنّ البلاد قد انهارت بالفعل جعل قلوب الجميع تملؤها المرارة.  

كسـر! الجو المرير الذي ساد في الصمت صوت بيرين، الذي كان صامتًا حتى الآن.  

“لديّ سؤال.”  

بما أنّني أخبرتُ الجميع مسبقًا عن قصّة بيرين هاردور، فارس المعبد المقدّس، فقد أصغى الجميع.  

“تفضّل، السير بيرين هاردور.”  

رحّبتُ بسؤاله بكلّ سرور.  

أمسكَ بيرين بقبضتيه الموضوعتين بعناية على ركبتيه بقوّة، كما لو أنّه فكّر مليًا، وقال:  

“ماذا تحاول هي أن تفعل؟”  

كان هذا هو الموضوع النهائي الذي يجبُ مناقشته في هذا التجمّع.  

نظرتُ إلى كاليـد عندما طرحَ السؤال المباشر، وعندما أومأ برأسه، أخذتُ نفسًا عميقًا بعد تردّد.  

كان من المفترض أن يتحدّث كاليـد عن آدم. 

بـدا أنّه سيكون أكثر قدرة على إيصال الفكرة للناس، وبما أنّه واجه ليفيا لفترةٍ طويلة.  

لكن بيرين وجّه السؤال لي، و ليس لكاليـد، متسائلاً عمّا تحاول ليفيا فعله في النهاية.  

مع تركيز أنظار الجميع عليّ، شعرتُ بتوتر جعل راحتيّ تتعرّقان، لكنّني تماسكتُ.  

“ليفيا ستطلق آدم.”  

“…ما هو آدم؟”  

عبسَ بيرين، كما لو أنّه يجد صعوبة في الفهم.  

مددتُ له وثائق متعلّقة بآدم من كومة الوثائق الموضوعة، موضحة:  

“آدم هو دواء طوّرته ليفيا، يشبه إلى حـدٍّ ما منشّطًا يعزّز القدرات.”  

“……”

“عند تناول آدم، يمكنكَ الشعور بأنّ قدراتكَ السّابقة تتضاعف عدّة مرات. الجسد، السحر، المعرفة، الذاكرة… البشر قادرون على فعل الكثير.”  

“التحسين هو القوّة الدافعة وراء تطوّر البشرية. هل هذا مشكلة؟”  

“لأنّه مؤقّت. بمجرّد الإدمان عليه، لا يمكنكَ العودة إلى ما كنتَ عليه. الأشخاص الذين يحصلون على قوّة لا يمكن الوصول إليها بالجهد والتدريب سينتهي بهم الأمر إلى التضحية بأنفسهم من أجلها.”  

“…إذن، إنّه ذو إدمان قوي.” 

تصفّح بيرين محتويات الوثائق بسرعة.  

مع كلّ سطر يقرؤه، تحـوّل وجهه من الشحوب إلى الـزّرقة.  

“صحيح. لذا، ستحاول خلق موقف يمكن لآدم أن يتألّق فيه بأكثر طريقة دراماتيكيّة.”  

“هل تعنين أنّها ستصنع لحظة يصبح فيها المنشّط ضروريًا؟”  

أومأتُ برأسي لسؤال بيرين.  

كان هذا بالضبط ما كان الجميع يشعرون به كشيء مقلق.  

“هل تتذكّر الرؤيا التي تحدّثت عنها ليفيا؟”  

كانت الرؤيا بالذات.  

تحدّثت ليفيا عن الرؤيا عمدًا في اللحظة التي حاولت فيها إدانة جينـا كمجرمة.  

خلقت جوًا من القلق، كما لو أنّ حربًا على وشكِ الحدوث، و قلبت الوضع لصالحها في لحظة.  

هذه هي قوّة سيّدة القوّة المقدّسة.  

لقد اختبر الجميع بالفعل قوّة الكارثة الكبرى من خلال الحريق الكبير في الجنوب و الفيضان الكبير في بيلانيف. 

لذلك، كلمة “كارثة كبرى” التي تنطق بها ليفيا هي بالتّأكيد رعب سيحدث.  

“هل رأيتِ رؤيا أيضًا؟”  

هززتُ رأسي ببطء.  

نظرتُ إلى بيرين، الذي بدا عليه الخيبة، و بلّلتُ شفتيّ الجافتين و واصلت:  

“لا أعرف بعد إذا كانت تلكَ الرؤيا حقيقيّة أم كاذبة. لا يمكنني تجاهل النعمة التي تمتلكها بالكامل.”  

“إذن، قد تكون كاذبة.”  

“هذا ليس المهم.”  

نقلتُ نظري من بيرين إلى الدّوقة الكبرى كلاوس و الدّوقة شيرن في كرتي الاتصال و قلت:  

“الكارثة الكبرى… ستحدث بالتّأكيد.”  

إذا كانت ليفيا تخطّط لاستخدام آدم، فبالتأكيد ستحدث. 

كانت ليفيا تعتقد أنّ آدم هو نعمة مخصّصة فقط للمختارين. 

بما أنّها تؤمن أنّها مختارة من الحاكم، فقد اعتقدت أنّ عليها اختيار مَنٔ سيرافقونها بنفسها.  

عندما كنتُ في جسد ليفيا، كان هذا هو مفهوم “آدم” الذي كانت تتصوّره.  

“من خلال آدم، ستقوم ليفيا باختيار البشر الذين سيرافقونها بنفسها.”  

كانت تؤمن أنّ هذا هو الطّريق الوحيد لإنقاذ البشرية في كارثة قادمة يومًا ما.  

كما لو أنّ اختيارها هو الخلاص الوحيد.