طقسٌ أخضر و جافّ طوال الفصول الأربعة، سهول لا نهائية و بحر من الحبوب. في قلب هذا المشهد، يقف قصر دوقية شيرن الشامخ، رمزًا للثروة.
في غرفة المكتب الواقعة في مركز القصر، كان هناك هدوء مشوب بإحساس قوي بالهيبة.
تسللت أشعة الشمس الحمراء من بينِ الستائر السميكة عبرَ نافذة كبيرة، تطلُّ على حقل كروم يتلألأ في الخارج.
على عكسِ هذا المشهد الهادئ، كانت الأجواء داخلَ المكتب باردة. كانت امرأة ذات شعر أبيض، تجلس خلف مكتب مزدحم بالأوراق، تحدّق بصرامة في الشّخص الذي أمامها.
“…تكلمي. لماذا خُنتِـني؟”
نظرت بياتريس إلى دونا، مربية ابنة أختها و خادمة القصر التي نشأت معها، والتي كانت حتى قبل أيام قليلة تتناول الشاي معها بِـودّ.
كانت دونا راكعة، مطأطئة رأسها، وهي تبدو هزيلة كما لو كانت تعاني لسنوات.
كمجرمة حاولت تسميم آيشا، الوريثة الوحيدة للعائلة، لم يكن من المفترض أن تكون مرتاحة في السجن، بغضِّ النظر عن سنوات خدمتها الطويلة لشيرن.
“…أنتِ تعلمين بالفعل.”
“أريد أن أسمعها من فمكِ. لم تكن هذه المرة الأولى التي تسمّمين فيها آيشا، أليس كذلك؟”
“….”
مجرّد التفكير في الأمر جعلَ دم بياتريس يغلي. كانت ذكرى حملها لآيشا، التي انهارت في صالة الشاي، و خروجها من القصر لا تزال واضحة.
حتى الوقت القصير الذي انتظرت فيه العربة بدا طويلًا للغاية. في تلكَ اللّحظة، أشعلت كلمات شخصٍ ظهرَ بشكلٍ غير متوقع غضب بياتريس إلى أقصى حد.
“قال الطبيب مالكوم أنّ الأمر لم يحدث فقط في ذلكَ اليوم، بل كنتِ تُطعمين آيشا سمًّـا يدمر جسدها تدريجيًا مع مرورو الوقت.”
“…ذلكَ الخائن!”
نظرت دونا بعيونٍ متسعة و تنفّست بقوة.
اختفى سلوكها الهادئ الذي كان يبدو مستعدًّا لكل شيء في لحظة، و حـلَّ محله العداء بدلاً من الندم.
“خائن؟ لقد أدى واجبه كطبيب فقط. الخائنة الحقيقية التي تخلّت عن واجبها هي أنـتِ.”
لم تتزعزع دونا من توبيخ بياتريس. بل أمسكت يديها المرتجفتين، و كأنها تصلي، ونظرت إلى السماء.
“لقد اتبعتُ القدر فقط! إرادتها هي إرادة الحاكم. هي الشّخص الذي سينقذنا…”
“كفى.”
نظرت بياتريس مباشرةً في عيني دونا المليئتين بالجنون و وضعت يدها على جبهتها.
“ذلكَ ليسَ محدّدًا مسبقًا. إنه شيء نصنعه بأنفسنا. حتى لو كان الحاكم يتحكّم بالقدر، لا يمكن لبشريّ آخر فرض ما يريده علينا.”
“ستُنقذنا من القدر المحدّد و تمنحنا ولادةً جديدة! من أجل تلكَ الإرادة، التّسميم ليس شيئًا يُذكر. أنا مُختـارة!”
“نعم، لقد جننتِ. ليفيا أرفين ليست سوى سيدة القوة المقدسة، ليست حاكمًا.”
“هذا تفكير الجهلاء فقط. القوة المقدسة هي قوة الحاكم. لقد تجسدت بيسيا في جسدها، ولهذا تمكنت من صنع تلكَ المعجزات.”
كانت خدود دونا غائرة، و عيناها محاطتان بالهالات السوداء. كانت آثار عدم الأكل أو النوم واضحة خلال نقلها إلى الجنوب. بياتريس أدارت رأسها، كما لو أنها لم تعد ترى قيمة في الحديث.
كان المتورطون قد كشفوا بالفعل.
بعد كلمات مالكوم، ألقت القبضَ على جميع الأطباء الذين عالجوا آيشا.
كانت يد ليفيا تمتدّ إلى أركان القصر بشكلٍ أعمق مما كان متوقعًا.
كان الجميع، مثل دونا، يمجّدون سيدة القوة المقدسة بتعصّب. لم يكن هذا شيئًا يمكن تجاهله.
“اسحبوها. لم أعد أرغب في التحدث مع مجنونة مثلها.”
مصير دونا سيقرره قانون العائلة. محاولة تسميم الوريثة الوحيدة، و إضعافها سـرًّا على مرّ السنين، جريمة لا تُغتفر.
خاصّة عند التفكير في آيشا، التي كانت ضعيفة لدرجة أنها لم تتمكن من الخروج بسببِ صحتها.
حتى و هي تُسحب بعيدًا من الفرسان، استمرت دونا في الهمهمة، كان صدى كلماتها يتردّد في المكتب كشبح.
لم تعد الخادمة المخلصة لشيرن. كانت متعصبة تمامًا.
أغلقَ الباب بهدوء، فتنهدت بياتريس تنهيدةً طويلة و ثقيلة.
عقدت ذراعيها و توجهت ببطء إلى النافذة، ناظرة إلى الخارج. كانت السهول الجنوبية الشاسعة تمتدّ بلا نهاية خلف حقل الكروم.
لم تكن حدائق النّبلاء الجنوبيين واسعة.
بسببِ العادة التي تعتبر الحدائق الزخرفية ترفًا، كان من الشّائع استخدام الساحات الأمامية كحقول زراعية.
كان من المؤسف استخدام هذه الأرض الخصبة للزينة فقط. و لهذا كانت حديقة شيرن مكونة من كروم العنب.
“…كانت آيشا مجرّد أداة.”
من دعوة حفلة الشاي إلى كلّ شيء، كان كل ذلك جزءًا من خطّة ليفيا.
كان واضحًا أن آيشا كانت قطعة شطرنج رئيسية لإيقاع شخصٍ ما في الفخ.
لو لم تفكّك إيرديا السم، لكانت ليفيا استخدمت آيشا كطعم لابتلاع شيرن.
بغضّ النظر عن السّبب، حقيقة أن تلكَ الفتاة قد تـمّ استغلالها أثارت غضبًا لا يهدأ.
لكن في الوقت نفسه، كان عقلها هادئًا و واضحًا بشكلٍ غير مسبوق.
ليفيا أرفين.
المرأة التي تُعرف بسيدة القوة المقدسة، تتحكم بالإمبراطورية باسم إرادة الحاكم.
على الرّغمِ من أنها تُمجد كقديسة معجزات و تملكُ الإمبراطورية، لم تتوقف عند هذا الحد.
“نهاية مَـنْ لا يعرف القناعة هي دائمًا الطمع.”
أبعدت بياتريس نظرها عن المشهد الهادئ خارج النافذة.
قبل أيّام قليلة، بسببِ عمود الضوء الأبيض الذي ارتفع في راجان، اهتزّ المعبد و والمدينة بأكملها.
الإمبراطور الذي اختفى منذُ زمن و هو طريح الفراش، ظـلَّ صامتًا، لكن المعبد أرسل فرقة فرسان مقدسين بسرعة.
انتشرت شائعات بين الناس بظهور سيّدة جديدة للقوة المقدسة.
عندما سمعت بياتريس هذه القصة لأوّل مرة، كان الشّخص الذي خطرَ ببالها بشكلٍ غير متوقع هو إيرديا.
لم يكن هناك شيء مؤكد. لكن حقيقة أن كل هذا حدثَ بعد حفلة الشاي مباشرةً جعلت من المستحيل نفي الصلّـة.
كان حدسها الطويل يخبرها بذلك.
‘تحركات ولي العهد الأخيرة، و حفلة الشاي التي حاولت جرّي إليها رغمَ صمتي… توتر الطرفين بلغ ذروته. هذه المرة، ستهتز الإمبراطورية حقًا.’
اقتربَ لانسيل، الخادم الذي كان ينتظر بهدوء، ففتحت بياتريس درج المكتب و أخرجت قلمًا مصقولًا و ختمًا.
“سأكتب رسائل إلى نبلاء الجنوب.”
أومأ الخادم بهدوء و وضع ورقًا و حبرًا.
ضغطت بياتريس على ريشة القلم، وكتبت جملًا ثقيلة وحازمة:
[إلى نبلاء الجنوب الأعزاء،
كان الحياد يُعتبر ذاتَ يوم حكمة.
لكن من الآن فصاعدًا، سيتبع التّردد أيّام كارثية.
توازن الإمبراطورية لا ينتظر. ستأتي لحظة يجب فيها الاختيار.
في أوقات الفوضى، يظهر دائمًا بطل.
لقد حـانَ وقت الاختيار.
أنوي اختيار مَنْ يذكّرني بالإمبراطور الأول راجان أورتيغا.
الطريق إلى مستقبل إفيرنيا.
الحياد انتهى.
أتمنى أن تصل هذه الرسالة إلى مَنٔ سيشاركونني المسير.
―دوقة شيرن، بياتريس شيرن.]
بعد كتابة الرسالة، بدت المحتويات صريحة جدًا.
لكن بياتريس لم تهتم.
حتى لو وقعت هذه الرسالة في يد ليفيا أرفين، فلن تكون هناك مشكلة. لقد تحدثت عن اختيارها فقط، دونَ إجبار أحدٍ عن أي شيء.
لم يكن هذا اختيارًا للانتقام من ليفيا.
لم تكن ساذجة لتدع الحكم السياسي يتشوش بالعواطف.
كانت قد تمسّكت بالحياد لأنها رأت أن ولي العهد لم يكن جاهزًا بعد لمواجهة ليفيا.
كان لديه القدرة و الصلابة، لكنه كان عاطفيًا جدًا.
يجبُ أن يكون الملك قاسيًا أحيانًا.
من هذه الناحية، كان ولي العهد كاليـد غير مستقر و يفتقر إلى الحسم.
لكن هذا التّفكير تغير لحظة رؤيتها لإيرديا في حفلة الشاي.
بينما كانت تنظر إلى الرّسالة وهي تُطوى و تُختم، تذكرت بياتريس تلكَ المرأة التي لم ترفّ لها عين رغمَ السّخرية والانتقادات الموجّهة لها.
كانت صغيرة و شاحبة بشكلٍ واهن، لكنها تملك هالة صلبة لا تنكسر.
كما لو كانت تملأ القطعة الناقصة في كاليـد، كانت إيرديا تمتلكُ كل ما ينقصه.
إذا كان هناك مَـنْ يمكنه مواجهة ليفيا، التي سيطرت على الإمبراطورية بقوة الحاكم، و إعادة بناء البلاد- فقد يكونان هما الاثنان.
شعرت بياتريس، لأوّل مرّة في هذه الإمبراطورية الفاسدة، بوميض أمل.
“عند التفكير، يمكن للشّخص التردد ألف مرة أو عشرة آلاف مرة. لكن منذُ لحظة اتخاذ القرار، يصبح التّردد سمًّـا. من هذه اللحظة، شيرن تدعم ولي العهد رسميًّـا.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 116"