ما إن اشتدّ ارتجاف صوتها حتى أومأ برأسه موافقًا. ” هاه…” ابتلعت أنجيليكا أنفاسها بارتياح. ما زال القلق يساورها، لكن هذا أهون بكثير من أن يعاود تطبيبها بعنف مفاجئ.
غير أنّ هذا الاطمئنان لم يدم طويلًا.
” أنجيليكا، سأعقّم الإصبع التالي.'”
قالها وهو يقرّب قطعة القطن ببطء. وما إن لامست جلدها حتى شعرت بألمٍ حارق، ومع إصراره على التمهّل زاد الإحساس لهيبًا.
” لا! لا، أسرِع قليلًا، من فضلك!”
كان الألم أشد مما شعرت به حين وخزت الإبرة أصابعها، بل مضاعفًا. ومع كل رعشة منها، كان هو يقرّبها إليه أكثر، حتى أحاطها بذراعيه ليمنعها من الحركة، واستمر في تطهير الجرح.
ومضى وقت لا يُعرف مقداره.
حين انتهى أخيرًا، كانت أصابعها منتفخة، وحتى عيناها بدتا متورمتين من شدّة الألم.
لحسن الحظ، لم يكن وضع المرهم وتضميد الجرح مؤلمًا. وبفضل حرصه، خفّ عنها الوجع تدريجيًا، حتى استرخى جسدها دون وعي.
” أنا متعبة…”
“عليكِ أن تتعشي قبل أن تنامي.”
هزّت رأسها نفيًا وهي تغالب النعاس. كانت تظن أنه سيُصرّ كعادته، لكنه على غير المتوقع تركها وشأنها.
‘ما الأمر؟’
تساءلت في داخلها، قبل أن يغلبها النعاس تمامًا.
لم تشعر إلا وهو يخرج من الغرفة ثم يعود، وصوت خطواته يقترب ويبتعد. حاولت فتح عينيها لكنها لم تستطع. كان نومًا عميقًا خاليًا من الكوابيس، نادرًا ما تناله.
وبينما كانت تغرق في سباتٍ أعمق، سمعت صوته قريبًا منها.
” أنجيليكا.”
رفعها قليلًا، ولم تفتح عينيها سوى طرفًا ضئيلًا، لكن شفتيها انفرجتا حين شعرت بشيء يُلامس فمها.
” آه…”
تسلّل شيء ما إلى فمها، ناعم وحلو، فاستجابت غريزيًا وابتلعته.
” إنها توت بري… الحساء سيصعب تناوله الآن.”
لم تسمع جملته كاملة، لكن الطعم الحلو اللاذع أيقظ حواسها قليلًا.
” آه…”
ثم بدأت تفتح فمها تلقائيًا، كفرخ صغير يتلقى طعامه.
وعندما استفاقت تمامًا، انفلتت منها ضحكة خفيفة.
” لماذا تضحكين؟”
” يدك… مبللة. تمامًا كما في ذلك الوقت.”
كانت تقصد حين كان يطعمها من قبل، حين كان يسحق الثمار بيده دون أن ينتبه لقوته.
” تبدو مؤلمة الآن أكثر من السابق.”
نظرت إليه بعينين حمراوين، وفيهما دفء لم تخطئه عيناه.
” هل أمسحها لك؟”
قالت ذلك ممازحة، وهي تمد يدها نحو قطعة القطن.
ابتسم، تلك الابتسامة التي لا يعرف لها اسمًا، ولا سببًا.
لم يكن يدري متى بدأ هذا الشعور بالضبط، لكنه كان واثقًا من أمر واحد…
أن ما بينهما لم يعد مجرد عطف أو رعاية.
وأن قلبه، رغم محاولاته، لم يعد يعرف طريق التراجع.
❈❈❈
<…أهذا مجددًا؟> <رجاءً، لا تُهِن حُبّي النبيل وتختصره بكلمة “فعل”. أنتَ رجل شمالي لا يفهم ذرّة من الرومانسية، أليس كذلك؟>
حين وقعت عينا هيوغو على كاين، الذي ارتسمت الهالات السوداء الثقيلة تحت عينيه بدل بريقه المعتاد، لم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة. حتى حقيقة أنّ سِريل باتت تتأفّف من مناديله المشوّهة التي يصنعها بنفسه… لم يجرؤ على ذكرها.
وهكذا لم يكن أمامه سوى أن يُطرد في مهمة عمل خارجية.
وصل إلى المعبد وهو يحمل الوثائق التي سلّمه إياها الإمبراطور بنفسه.
“أوه! هيوغو!”
ما إن سمع الصوت المألوف حتى التفت فورًا. أكان ذلك وهمًا سمعيًّا؟ قطّب جبينه، ثم استدار نحو مصدر الصوت.
“أنجيليكا؟”
لم يكن وهمًا. كانت تقف هناك، ترتدي فستان خروج أنيق، تلوّح له بيدها بابتسامة مشرقة.
“ما الذي تفعلينه هنا؟”
“همم؟ ألم يخبرك جلالته؟”
ابتلع ريقه عند سؤالها. يبدو أنه انطلى عليه خداع كاين مرة أخرى.
وحين هزّ رأسه ببطء، أشارت إلى المعبد قائلة:
“قيل لي إن بعض مكوّنات الجرعات موجودة هنا، فجئت لأخذ القليل منها.”
“هل تقصدين الجرعة التي كنتِ تصنعينها آنذاك؟”
“نعم!”
مع ردّها المفعم بالحيوية، مال رأس هيوغو قليلًا على جانبه.
لو كانت تفتقر إلى المكوّنات، فما الذي كانت تفعله إذًا طوال الوقت في مختبر كاين بالأمس؟
“هيوغو؟”
عاد إلى وعيه على صوتها.
هزّ رأسه بخفة، ثم تبعها وهي تتجه نحو المعبد بابتسامة لطيفة.
“هذه أول مرة آتي فيها إلى المعبد. وأنت؟”
“مررت به مرتين أو ثلاثًا… لكن لم أمكث طويلًا.”
لم يكن ذلك مستغربًا. فالعقيدة الدينية كانت تنفر من وجود هيوغو برنشتاين.
بل الأدق أنهم كانوا ينفرون من الشمال بأكمله، بحجة أن طرقهم في التعامل مع الوحوش تخالف تعاليمهم.
‘آه…’
عندها فقط تذكّرت أنجيليكا جزءًا من أحداث الرواية.
‘ألم يكن هناك فارس مقدّس كان يضايق هيوغو بلا سبب؟’
كان يثرثر عن الأرواح التي لا تنال الخلاص، وعن الهلاك الأبدي، هراءً من هذا القبيل.
‘يا إلهي… كنت أتجاوز هذا الجزء دائمًا لأنه يرفع الضغط.’
لو كانت تعلم، لما أحضرت هيوغو معها أصلًا.
نظرت إليه بقلقٍ خفي، بينما كان هو يسير بهدوء وكأن تلك الذكريات لا تعنيه بشيء.
‘لا، هذا لا يصح… يجب أن أذهب وحدي.’
فجأة أوقفتْه عند مدخل المعبد.
“هيوغو، من هنا فصاعدًا يمكنني الذهاب وحدي.”
“هم؟ ماذا تقصدين بـ—”
“انتظر هنا! أو… يمكنك النزول أولًا!”
لا يمكنها أن تسمح بأن يتعرض لنظراتهم الجارحة.
انتزعت الوثائق من يده بسرعة، وانطلقت نحو الداخل.
سمع صوت مناداتِه خلفها، لكنها تظاهرت بعدم السماع.
‘رجاءً، فقط ابقَ هناك.’
هل وصلت رسالتها؟ لا بد أنه فهم.
وما إن اقتربت من الفارس المقدّس حتى—
لكن هيوغو برنشتاين… لم يكن من النوع الذي يلتقط الإشارات.
“همم.”
لم يحتج سوى لثوانٍ ليلحق بها، غير أن هيبة المعبد جعلته يتردد قبل أن يخطو خطوة واحدة.
‘هل تعرف أنجيليكا أيضًا؟’
الفكرة نفسها جعلت صدره يضيق.
تذكّر نظرتها المترددة قبل قليل… ويبدو أن حدسه كان في مكانه.
“تبًا.”
لأول مرة، يشعر بالعجز وهو في مهمة.
نشر إحساسه حولها بحذر، محاولًا تتبّعها.
لحسن الحظ، بدت وكأنها تنهي طلبها بسلاسة. الكلمات التي استخدمتها، الرسمية والمهذبة، بدت له غريبة.
‘لم أسمع هذا الصوت منها من قبل.’
كان صوتها أخفض، أكثر هدوءًا، وكأنها شخص آخر تمامًا.
‘آه…’
هل لأنّه يراها من زاوية جديدة؟ أم لأنّه أدرك أخيرًا أنه يُعامل بطريقة مختلفة عن الآخرين؟
التعليقات لهذا الفصل " 43"